طريق الضياع؛ مرويّة العجوز وفتاة باكو

اتسعت عينا ناصر وهو يتهجد الكلمات التي وقعت على هاتفه في لحظة فجائية وعلى حين غرة؛ متخيلًا عجوز "إسلام سفرللي" التي أمسكت بكلتا يديه وراحت تصلي بصوت خفيض فأرخت يديه وبدأت تتلو صلواتها لا يعلم من ذلك إلا أنها تحرك شفاهها باستمرار؛ مغمضة العينين وتقرأ كثيرًا؛ تبدو محدودبة الظهر في عقدها السادس؛ تفترش الأرض قبالة شارع نظامي وتطلب منه أن يجلس القرفصاء، بدت العجوز كالغجرية التي تخدع المارة وتستهدف السياح عادةً؛ كما أن طبيعتها الباسمة وهدوءها أماط عنها ذلك الاتهام؛ بضع مانات وهي عملة أذربيجان كانت كافية لأن تغدق علينا المديح وإرسال رسالة مطبوعة بالشفاه إلى السماء مصحوبة بالرضا التام وأماني صادقة أن نصل مبتغانا بأمان.

"لعل كلًا منا كان، طوال حياته، يجمع قواه من أجل هذه اللحظة، من أجل هذا اللقاء فقط"

إيفان كليما

 لم يتخيل "ناصر" أن تصله الرسالة التي تدعوه لأن يغير المخطط لهذا اليوم وكيف سيطلب مني أن نغير من طريقة التجوال في أرجاء باكو، فقد ألفنا الخروج من الفندق فالمرور على منعطف "إسلام سفرللي" فالدخول إلى شارع نظامي المفضي إلى الحياة النابضة والتي تعج بالناس من كل مشارب الأرض؛ فقد كنّا نقطع المسافة المعتادة ونمرُ على بائعة الكستناء والفواكه في إسلام سفرللي فصانع الأحذية الجلدية وهلمّ جراء إلى أن ننزوي في أحد المقاهي المُطلة على الحراك البشري؛ فهناك لا يمكن أن تشغل نفسك بالعبث الدائم بالهاتف ولا الرسائل التي تأتينا من هنا وهناك، أشار عليّ "ناصر" وهو رفيق السفر في هذه الرحلة التي أتت هي كذلك على وجه السرعة وبدون مقدمات ولا تنسيقات ولا قياسات طويلة كانت أم قصيرة كما جرت العادة، كنّا قد قررنا السفر عبر الناقل الاقتصادي طيران "ويز إير"؛ باقتراح مني؛ يسبق موعد الإقلاع الذهاب إلى أبوظبي والسكن لليلة في أحد الفنادق القريبة من المطار مع ضمان مأمونية إيقاف السيارة في مكان مناسب وقد سارت الأمور بفضل الله كما خططنا لها؛ كل هذه التنسيقات كانت قبل السفر وفي باكو حينما حطّت الطائرة في مطارها الصغير أخذنا على عاتقنا أن لا نعتمد خطة التجوال وأن ندرس أذربيجان ونسير في أرجائها كيفما أتفقت الظروف ووفق الأوضاع في البلد.

كان الظلام لا زال مطبقًا في حين كان "ناصرًا" يضّبط منبهه لصلاة الفجر؛ كنت أتحين سماع نغمة المنبه التي باتت تجثم عليّ كما يجثم حلم الثعبان على أحدهم في مخدعه- نظرت إلى الشارع من شرفة الفندق لا أحد عدا لمعان نجوم السماء وبعض الصبية الذين فرغوا لتوّهم من احتساء النبيذ والرقص وربما كانوا يلعبون اليانصيب في الحانة المقابلة للفندق وامرأة طاعنة في السن تقوم بتنظيف الشارع.

هكذا أشار علي "ناصر" هذا اليوم وهو يوم تحفه المزن وكانت السماء أشبه بالغيمة الخجلى التي أظلت الأرض لكنها لا توشك أو تنبء بالمطر وفي كل الأحوال كانت الأوضاع تسير جيدًا قبل أن يقترح علي "ناصر" تغيير الاتجاه وهو أخذ المسلك الآخر والمشي مسافات طويلة واستكشاف "باكو" من الجانب الآخر وبالفعل له ما أراد وبدون أن أنبس ببت شفة باركت الفكرة وعلى الفور ومضينا نشق الطريق وتركنا شارع نظامي خلفنا؛ الطرقات تبدو جميلة وبقايا مياه مطر الأمس أعطت أرضية الشارع والبنايات المستوحاة من النمط الإسلامي الإيراني والأوروبي بهاءً فأضحت أكثر براقة ولمعان؛ والشجيرات في الشرفات كست المكان بهجةً ونظارة، قال "ناصر" وقد علت وجنتيه حالة من السرور تمعن يا "يحيى" في تلك المرأة الكبيرة وتبدو من الوهلة الأولى هكذا وأعاد عليّ السؤال مجددًا تمعن فيها ألا تشبه بائعة الكستناء في شارع "إسلام سفرللي" المتاخم للفندق الذي نقطنه؟ تجاهلت سؤاله ولم أنبس ببنت شفة على وجه السرعة حتى أقترب أكثر منها وحينما وصلت بالقرب منها قلت له وبثقة العارف والغير عارف إذا كانت هي ذات المرأة تأكد يا صديقي أنها ستطبع ابتسامة عارمة تنم عن معرفة سابقة على الأقل؛ تتعرف علينا من سحناتنا التي تنبء بأننا لسنا من أذربيجان؛ لم يحصل شيء مما توقع رفيق السفر "ناصر" فقد كانت فتاة في مقتبل العمر؛ ذات صوت أنثوي ولها شعر أسود طويل وعينان نابضتان بالحياة وأمارات وجهها لا توحي بالكدر ولا الضجر على الرغم أنها كانت تفترش الأرض من بعد أن يعبث الضوء بالليالي وكانت تجلس لساعات طويلة؛ تبيع الكستناء والفول والفواكه الموسمية الطازجة؛ تسترق النظر لأي ضيف قادم إليها أو عابر تسوقه أقداره أمامها؛  ابتعنا بعض احتياجات الطريق وولجنا الشارع المفضي لأحد الأنفاق الذي يوجد بداخله المتاجر وينتشر الباعة في أرجائه كما وضُعت هناك مكائن السحب الآلي لمن يود الحصول على مبالغ مالية لشراء احتياجاته اليومية وكان ذلك المشهد غير مألوفًا لدينا في بلداننا فقلت وقبل أن نقفل عائدين إلى المسلك الآخر لـ "ناصر" امعن النظر يا صديقي كيف تُستغل الأشياء في هذه البلدان وكيف يوظف الشعب الأزري البنية التحتية لتكون ملاذًا آخر كمقوم يدر عليهم وعلى الشعب المال؛ أليست الحاجة أم الاختراع قلت له وأضفت عليه قولًا آخر "من رحم المعاناة يولد الإبداع" حالة من الاندهاش تركناها هنا وتوجهنا إلى الطريق الخلفي الذي لا يخلو من المتاهات؛ وفي الجهة الأخرى من الشارع الموارب هناكَ أيضًا بائع الآيسكريم يسترعي انتباه المارة لوجوده وبصوت عالٍ يمرر عباراته في الأرجاء وبقدر أننا قد نتوه في الطريق ثمة ما يربت علينا بوجود هؤلاء الباعة؛ قد نمتعض وقد نتكدر وننظر إلى أن الطريق طويل المدى؛ حيث اللامعلوم وكأننا نخوض معركة في سراب- بلا منتصرين ولا خاسرين ولا متوجين- تلاشت تلكَ الأفكار الغير منطقية في السفر؛ فالسفر أن تؤمن أنكَ تخوض في عوالم محملة بالتكهنات ومليئة بالمفاجآت- هناك أشياء جميلة يمنحُكَ إياها السفر لا حصر لها كما توجد أشياء عصية لم تكن في الحسبان؛ فقط امضِ ولا تتردد.

 بدأنا نذرع الطرقات وكانت ظلال البنايات تحفنا بينما ذكرني "ناصر" أننا على موعد مع بعض الزملاء الذين تعرّفنا عليهم في مطار أبوظبي وقد جمعنا بهم شارع نظامي واتفقنا على أن نخرج معًا في رحلة بحرية قصيرة تنطلق من ممشى بوليفارد باكو وإطلالات بحر قزوين وكان موعدنا هذا اليوم مع (شامس، خلفان وأيمن ورفيق آخر) كانوا أربعة جلهم من العامرات في محافظة مسقط يرتبطون بعلاقة أسرية- طال بنا المسير قلت لــ ناصر وقد قضينا وقت طويل في المشي وموعد الرحلة الأولى فاتتنا والثانية شارفت على البدء ونحن لا زلنا نمخر الطرقات بين المشي السريع والتوقف بين المتاجر إما لشرب الماء أو التزود بما يسد رمقنا؛ بلع ناصر ريقه وهو يشاهد جسرًا كبيرًا يتوسطه دوار إلا أن البشارات أتت عندما فرغنا من اجتياز الجسر؛ من الأسفل تبدو بناية "بوليفارد باكو" وهي قريبة من ممشى بوليفارد واضحة للعيان كما نرمق من بعيد مركز حيدر علييف ذلك المركز الثقافي المتوهج يتصميم الراحلة العراقية "زها حديد؛ إلا إن ميلان الطريق وعدم معرفتنا الحقيقية للاتجاه على الرغم من الاستعانة بين الحينة والأخرى بخرائط جوجل لكنها لم تسعفنا فالأمر ليس بتلك السهولة وقد تيقنا أن الطريق المفضي إلى ممشى باكو به العديد من الإنشاءات والعديد من الطرقات أُغلقت من قبل حكومة أذربيجان؛ علاوة على أن الممر المائي الذي يطل على الممشى بالقرب من الحديقة العامة به إصلاحات وبذلك كان علينا تغيير مسارنا والاتجاه إلى طريق آخر؛ تساءل "ناصر" ترى أين هو الطريق ويبدو أننا على مقربة من الموقع وقبل أن يُكمل سؤاله قابلنا أحد حراس الحديقة وقد عرضنا عليه صور الممشى فأرشدنا إلى طريق آخر لكنه سيحتاج منا حتى نصل قربة ساعة من الوقت ومن الجانب الآخر تردنا الرسائل والاتصالات من أصدقاء العامرات وقد يئسوا من مجيئنا قبل أن نلحق على الرحلة الأخيرة ويا لها من تجربة جميلة وفريدة.

هنا حينما كنا نبحث عن الطريق الذي يقودنا إلى ممشى بوليفارد باكو

                                                    رفقة العجوز في شارع "إسلام سفرللي" باكو



بالقرب من العبارة التي ستقلنا على ضفاف بحر قزوين 

هنا رفقة شباب العامرات في بطن العبارة والذين التقيت بهم في مطار أبوظبي وتحاورنا في شارع نظامي باكو


إطلالة الفجر قبل بدءِ الجولة من الطريق المغاير



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر