رأس الحد قيثارة عُمانية تركت لتموت
شهادة زائر لنيابة "رأس الحد" حاول التجول بها لساعات؛ رفقة زميليه؛ لكنه أحس بالضجر والسأم وقلة الحيلة لما وصلت إليه النيابة ونحنُ نعيش في القرن الحادي والعشرين. وقد تختلف الشهادة من زاوية أصدقاؤه الذين يخفرونه تلكَ الرحلة.
كتب: يحيى
المعشري
الآن أجلسُ منتشئ ويقابلني أحد الزملاء
وبجوارنا قهوتنا المشعشعة في أجواء مسقطية جميلة؛ كانت الخوير هي مظلتنا؛ نطالع
دبيب أقدام المارة وهمسات مبعثرة من هنا وهناك وكأننا نعيش فصول السفر في مدن
وعواصم العالم وبدون تذكرة سفر ولا طائرات ولا بوردينج ولا حقائب تريح الدواليب
المغلقة؛ نلملم صحائف أشياءنا القديمة؛ نستذكر معًا سفراتنا المتكررة إلى عديد من
دول العالم؛ نخوض تفاصيل المدن؛ تُلهمنا العمارة وتناغم الشوارع وأنسنة الأمكنة،
قلتُ له وبنبرة صادقة، نحن الآن على مشارف أن نطوي الصفحة الأكتوبرية؛ أي إننا على
موعدٍ مع فصلِ الشتاء المنعش، أتذكر رحلتنا الداخلية إلى محافظة جنوب الشرقية؟
بالأخص إلى "نيابة رأس الحد" في أغسطس المنصرم من العام 2022 وبدون تردد
قال: نعم؛ كانت رحلة جميلة تفتقد للجمال الذي نراه في بعض مدن العالم في سفراتنا؛
كانت تلك بوابة استفتاحية مائلة أشبه بنوتات موسيقية تتأهب لأن تخرج من قمقمها على
جيتار كلاسيكي وعزف بنوتات مع المترونوم قيثارة وجد حكايتها "نيابة رأس
الحد"؛ نقصها معًا أمنيات على طاولة الانتظار!
لم تسلم عيني وهي تناظر لوحة نيابة "رأس
الحد" في الشارع الفاصل بينها وبين الاتجاه الآخر؛ وهي البقعة الأولى وأول ما
يشرق عليها الشمس في الوطن العربي وهي موطن الإنسان منذ الألف الثالث وبها المدرج
الذي استخدِمَ كملجأ للطائرات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية بين دول
الحلفاء ودول المحور، نعم؛ لم تسلم عيني من الكدر والتبرم والاستياء والشجب وجميع
المرادفات في القواميس اللغوية العربية، نعم؛ لقد كنتُ أعدُ الدقائق القليلة
وكأنها ساعات بعد تجاوزي شارع "خور جراما وخور الحجر؛ قادمًا من ولاية صور العفية
إلى أن تفحصت عينيّ اللوحة المهترئة وقد أُصيبت بالتصدع والنتوءات ولا أدري إن كنتُ
الوحيد الذي شاهدها بهذه الصورة العجائبية أم أنه كان برنامجًا للكاميرا الخفية
الذي وقعتُ في حباله فعشتُ دور الضحية وانطلى عليّ المقلب أم إنها دقائق موهومة
تخطّتها عيون المسؤولين؛ لكي لا يعيشونا في المدينة الفاضلة ونتجاوز الزلات وما
آلت إليه اللوحة.
فمن اليمين تبدو التفرعات المفضية إلى نيابة
رأس الحد صحراوية ولا توحي أن ثمة حياة هناك؛ فكان عليكَ أن تسلك طريقك إلى أصيلة
ورأس الجنز ومدركة والأشخرة ولا تتخيل أن هناك حياة ستُقابلكَ ومن مفترق الطرق
وأنت قادم من ولاية صور تطوي مسافة ستة وأربعين كيلو مترًا بسيارتك؛ صور؛ حيث
الربابنة وأشرعة القوارب والغنجة وجسر العيجة وباتجاه الشمال عليكَ أن تسلك الطريق
بروية ونفس عميق ففي طريقكَ لا تجد ما يدعوكَ أن تتخيل بمجرد أن هناكَ ثمة حياة تُعطيك
مؤشرًا إننا في القرن الحادي والعشرين؛ القرن الصاخب في قاموس "إدوارد
بيلامي"؛ بضع نباتات صحراوية وتلال جبلية وطريق بمسارٍ واحد ورمال صحراوية
قاحلة وأسنمة إبل عابرة ضلت طريقها وبضع أبنية صُنعت من الخشب آيلة للسقوط وتعرف
باسم "العزب" تسمرت في مكانها وكأنها شظيّات متلاشية يسكنها البؤس في فصول
السنة؛ فتخال نفسك أنكَ على شفير حارق يعود إلى القرون الأولى!.
وفي دواخل نيابة رأس الحد بعد أن تنعمنا
بقضاء ليلة هانئة في منتجع ولا أبالغ إن قلتُ أن المنتجعات في هذه النيابة هي
الوحيدة التي تعطيكَ مؤشرًا أن رأس الحد هي بقعة بها حياة عصرية وبقعة جغرافية
موجودة في سلطنة عُمان، لا بقعة معزولة عن العالم مبررها أنها موطنًا للسلاحف
الخضراء" يأتيها السائح من أقاصي الأرض؛ عابرًا للقارات، أصوات الفتية الصغار
ملائكية ناعسة مصحوبة بأنغام موسيقية قريبة المدى؛ أما الكبار منهم لم أجدهم يتمشون
في الطرقات ولا الممرات المفضية للمحال التجارية والتي من المجحف أن نطلق عليها
اسم محال تجارية في قواميس القرن الحادي والعشرين، الكبار نعم؛ هم موجودون في
السيارات وبسرعة تتجاوز التجاوز ذاته؛ يهرعون فوق المطبات وكأنهم في سباق إلى
المدى البعيد.
أتوغل بسيارتي اليابانية الصنع التي أتت
واردة من غابات الولايات المتحدة الأمريكية وليتها لم تشاهد ما يشاهده مالكها
المعنون في الملكية الخاصة بشرطة عُمان السلطانية؛ نعيشُ الحقيقة معًا إننا نشاهدُ
مدينة؛ لا بل عقارات متفرقة خالية من المدنية الحديثة؛ قد تكون جميلة في عيون
ساكنيها بجمال الأرض والأوطان والتاريخ، نعم؛ لكني أتقصاها كسائحٍ لا يجد ما
يتشاطر معي إنسانية المكان، أين المدينة المؤنسنة وهي المنطقة التي تأسر الباحثين
عن الهدوء وسط جمال الحياة الطبيعية، بحثت وسيارتي القادمة من وراء القارات عبر
الموانئ عن ما يسميه المعماريون بالتناغم
العمراني بحثتُ مليًا وعاودت البحث مرارًا وتكرارًا لكني لم أجد ذلك في رأس الحد؛
فجلت ببصري في الأرجاء معاودًا تساؤلاتي متى يتم الاهتمام بهذه المحمية الجميلة
ومتى يخرج المسؤول الكيس من مكتبه وينظر لها من ناحية جمالية طبيعية ذات موردٍ
اقتصادي يعود بالنفع على القاطنين والدولة، هززت رأسي مذعنًا للهواء العليل
المتسلل لسيارتي من الخارج فأصبت بهدهدة حزن فتواريت خلف تلة تبوح بأسرار المكان
وأطلقت عدة نصائح لزائر نيابة رأس الحد؛ هي نصائح من عابرٍ يسجل شهاداته الخاصة
وقد يخطئ في قراءاته.
عليك عزيزي الزائر وأنتَ في القرن الحادي
والعشرين وأنتَ تترك ولاية صور تتوارى خلفك أن تأتي بعدة التخييم؛ لأن أسعار
المنتجعات في النيابة غالية جدًا تصلح إلا للأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال فقط ولا
تنسَ أن تأتي باحتياجاتك من فواكه وخضروات ومؤن الحياة التي تبقيكَ حيًا؛ إنني
سادر حقًا فيما أعنونُ به كتاباتي وشذراتي عن "رأس الحد" وأنا الذي كنتُ
أقصُ لزميليّ في الرحلة عن جمال الحياة والطبيعة والحياة العصرية والمدينة التي
تحافظ على أصالتها- لقد بحثتُ في النيابة عن مدرج المطار القديم الذي حطّت به
الطائرات الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية وقد سرقني البحث وخذلني جوجل
ماب؛ بحثتُ عن أحد أبناء جلدتي من مواطني رأس الحد لأسأله عن موقع المدرج لكني لم
أفلح في الوصول لأحدهم، ربما لأنهم مشغولين بمتطلبات الحياة، نعم؛ لم أجد عدا صبية
صغار يمشون في الشوارع والطرقات بدون أحذية؛ يدخلون محال تجارية دون من يخفرهم أو
يرعاهم وقبل أن يداهمني الليل المدلهم ويعلن الليل سدوله وقبل أن تعبث أضواء
الغروب بالنهار في هذه البقعة الجغرافية الجميلة وجدت عمالة آسيوية يتصدرهم زعيمهم
الذي دلني على موقع المدرج بلكنته العربية المكسرة؛ فشكرته كثيرًا كثيرا، تغافلت
عما يجيش بداخلي وعما يعتمل ذاتي احترامًا لمن برفقتي؛ حتى لا أعكر عليهم صفو الرحلة
ولا أصب جام غضبي على من تفنن بتزيين منزله الخاص بعدما أصبح ذا شأن ووجاهة من
منصبه الذي حصل عليه فأقام بجانب منزله الحدائق والألعاب والطرقات الخاصة، أعتذر
منكم بل بجانب قصره المنيف الذي لو عمل في خمس حكومات ذات سيادة متينة لما استطاع
أن يبني جدارًا اسمنتيًا يحوَّط به منزله من ما يتقاضاه نهاية كل شهر من عمله
الحكومي، نعم؛ سألجم جام غضبي قبل أن أنبس ببنت شفة ضد الذي تركَ "رأس
الحد" نيابة منسية وبضع منازل متفرقة كشظية ظلت طريقها ورمال متناثرة وأبنية
خشبية هشة وأدوات صيد متهالكة وشوارع تفتقر لأدنى مواصفات ومقاييس المنظمات
العالمية؛ سأتحلى بالصبر قليلًا أنا الزائر الذي لم يستطع البقاء بها ساعات خارج
أروقة المنتجعات، حاولنا أن نعزف حبًا لوطننا من وقع خطواتنا ثم نتراقص مع النجوم؛
نمشط الطرق الملتوية ونربت على نوارس رأس الحد، نكتم عيظًا؛ نعاتب النفس الضجرة
للمسؤول التي خطى بثبات على دروب رأس الحد دون أن يرف له جفن لبوح الفراشات وصياح
النوارس وعش السلاحف؛ وفي المناسبات والمحافل الوطنية تترصع كرشه بخنجرٍ تزين بها
كمالياته وزهوه من جهة ذات خزينة مليئة بالأموال يديرها كيفما يشاء بجرة قلم وختم
يعشعش في الأدراج.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام