حديقة المعمرين


لملمت الرياح بقايا الأوراق المتساقطة لهذا اليوم فهي تستعد لفصل الصيف وأطلقت العصافير أصواتها في المدى؛ هناك حيث أشجار الصفصاف وأشجار الصنوبر وأشجار الزينة في تمازجها الذي يتصالح مع الطبيعة؛ تلك الطبيعة التي أرخت جمالها على حدائق وتلال وسهول وواحات وبحيرات جابالا؛ ففي نهاية شهر يونيو من العام 2022 وبينما كنت أتفيأ ظلال حدائق إقليم جابالا الغنَاء في أذربيجان المحفوفة بالأشجار من كل جانب؛ فهي تنمو في كل زاوية؛ الأجواء المعتدلة كانت سائدة والغيوم تلاصق السماء في ترنيمة سامقة تسر الناظرين كما سُرّت بها عيني للّحظة تلك، أخذتُ أقلب نظري ذات اليمين وذات الشمال في الجمال الأخاذ في الأرجاء المحاطة بالأشجار الوارفة والشجيرات المتناغمة والحدائق المتناسقة؛ أتأملها لكني لم أطيل التأمل في شوارعها ولا مداخلها ولا مخارجها ولا إشاراتها المرورية ولا بنيتها التحتية ولا ممراتها الفقيرة؛ كما كنت أتأمل في طبيعتها؛ تبدو مِعماريًا ضعيفة نوعًا ما قياسًا بما تحوي من طبيعة، يبدو أنَّ للشجرة محبة خاصة في هذا الإقليم؛ قداسة عظيمة للشجرة لدى الشعب الأذري والحكومة على السواء؛ فالمتجول في هذا الشطر تُسحره الطبيعة الخلابة والأشجار المعمرة وحدائقها وأثناء خروجي من عتبة الفندق بعد أنًّ فرغت من إفطاري الصباحي انبثقت فكرة جنونية وهي التجول في الأرجاء مشيًا على الأقدام بدون سيارة؛ فقط المشي فالمشي والاستمتاع برؤية بورتريه الطبيعة في هذا الشطر.

أُريد أن أمشي بلا هوادة

أريدُ أنَّ أهز غصن شجرة

أُريدها خضراء بلا تساقط

أُريدها صامدة من حركة الرياح تضحك عند رؤيتي أتمطى

كما هي لا تموت

لا يتغير لونها ولا تنكسر أغصانها

 فلاح لناظري مشهد عدد من كبار السن وهم يتأبطون العصي الغليظة؛ يستندون عليها لتعينهم على المشي وعلى كراسي خشبية يلوذون؛ ثمة أحاديث جانبية تجمع المعمرين وحينما يشعرون بالسأم من الجلوس تجدهم يحثون الخطى بين رواق الحديقة؛ يناظرون تساقط أوراق الأشجار- ترافقهم ابتسامة هائمة تحت ظلها الوارف، وفي أثناء خروجي من أحد الأكشاك العامة المُطلة على الشارع العام استوقفتني الحديقة كشخص ليس مجرد عابر للأمكنة ولا ممن تستهويه الأماكن المجدولة وفق رغبات المكاتب السياحية أو آراء المروجين السياحيين في البلد نفسه؛ فقد رأيت في هذه الحديقة؛ أي حديقة جابالا المركزية ما لم أراه في الكثير من البرامج السياحية وهنا تختلف طبائع السياح في انتقاء ما يرغبون فعادتي أميل للأماكن التي تحفها الطبيعة وتسكنها الألفة ويتكومها الهدوء؛ أستمتع وأنا أتأمل في المكان برشفة فنجان قهوة أو كوب شاي على الطريقة التقليدية في البلد؛ هذا يحدث عادةً في الأرياف؛ بخلاف كل مكان وطبيعته وهنا أهيئ نفسي لشد الرحال إليه، وهذا ما أعطاني انطباع أولي لهذه الحديقة؛ الناس هنا يتفيؤون ظلال الأشجار؛ يلتفون على الطاولات المستديرة وقد تساعدهم على ذلك الأجواء الباردة والمعتدلة في أغلب مواسم السنة- التزمت الصمت وأنا أومئ لأحد كبار السن بأني مشدوهًا ومولعًا بالمكان؛ هذا الرجل في العقد السابع من العمر؛ لم يكن يعلم أنَّ انطباعي الأولي هو إعجابي بالممشى الذي يخترق الحديقة؛ إعجابي بلون الأوراق المتساقطة على الأرض، إعجابي ببساطة المكان أكثر من أي شيءٍ آخر؛ وفي حوارٍ جانبي دار بيني وبينه قبل أنَّ أقرر البقاء في إحدى الطاولات الخارجية المواربة لاحتساء الشاي الأحمر وهو من المشروبات الرسمية وهي عادة متعارف عليها عندهم يتشاركون الثقافة العثمانية الطباع- كيف تبدو الحياة هنا في جابالا؛ قلت له: ساد صمتٌ قبل أن ينبس ببنت شفة وقد أومأ برأسه جهة اليسار دلالة على أنه لا يعلم ما أقول غير أنه استدار وحرك إبهامه للأعلى إيجابًا عن رضاه؛ قد تكون حركة أراد منها الفرار من سؤالي أو صرفي وثنيي عن تكرار مثل هذه الأسئلة التي ربما لا تروق له؛ لوّح بعصاه التي يهش بها وبإشارة مطبوعة بابتسامة على وجنتيه؛ لم يكن متجهمًا ألبته ولم يبدو عابس الوجه وبينما أحاول أن أُنهي الحوار بيني وبينه لذت لأحد  الكراسي وشاركتهم الجلسة فتجربة المكوث ولو برهة من الزمن في مثل هذه الأماكن تبدو مثيرة ومسلية في نفس الوقت وفيها قد تمرُ عليك معلومة عابرة تستطيع من خلالها فهم ما يدور في الأرجاء. 

فجأة أماط ذلك اللثام الذي كسر حاجز التواصل وقال أنا أحفظ بعضًا من آيات القرآن الكريم فقرأ عدد من السور على مسامعي وفجأة قال سأسمعك شيئًا آخر وبدأ يدندن بأغنية فايق يا هوا لفيروز

 فايق يا هوى لم كنا سوى فايق يا هوى لم كنا سوى والدمع سهرني وصفولي دوا أتاري الدوا حبك وفتش ع الدوا فايق يا هوى لم كنا سوى والدمع سهرني وصفولي دوا أتاري الدوا حبك وفتش ع الدوا

 مكثتُ ساعة من الوقت هنا تخللها تجوال في رواق المقهى الداخلي وفيه يجلس عشاقه المغرمين بالبساطة وعشاقه المغرمين بالشيشة؛ ثمة أفواه يتطاير منها الدخان أما أنا فأنجع ما يمكن أنَّ أصنعه هو احتساء الشاي والتمعن في أحوال البشر الذين يغدون ويروحون، أطالع تساقط أوراق الأشجار على الأرض قبل أنَّ تتبعثر في الهواء كشظية تتفرق إلى أشلاء  أي نسمة هواء عابرة، كسرت روتين البقاء في الحديقة هنيئة وكان أقرب مكان يمكن زيارته هو مقبرة الشهداء المركزية ورأيت اهتمام الأهالي بهذه المقبرة وكأنها شُيدت للأحياء؛ قفلت عائدًا ومرةً أخرى مررت على حديقة المعمرين؛ أي الحديقة المركزية في طريق العودة فبدت وكأني أراها من جديد؛ ثمة معمرين يمارسون رياضة المشي وآخرون يجلسون القرفصاء؛ لربما هي رياضة التأمل أو اليوجا فأيقنت أنها ليست مجرد حديقة ومقهى ومدخنين يعاقرون الشيشة؛ فهناك ما هو أكثر وأكثر. مضى الوقت وطال بي المكوث وفي الساعة العاشرة والنصف دخل أحد سائقي سيارات الأجرة للحديقة؛ يقتفي أثري وبخطى واثقة سار بموازاة الكراسي الخشبية وقد أسدل كلتا يديه مسديًا تعليماته وكأنه يشير إلى هذا الضيف؛ أي أنا، الجميل أنك في هذا الشطر تجد سيارات الأجرة في كل مكان، هذه الحركة من السائق لم تكن بذلك الذكاء الذي يمر على العارف بمبادئ السفر والترحال؛ فهمت المغزى وابتسمت ابتسامة أخفيتها وتابعت سيري في الأرجاء ربما أعود إليه مجددًا فأمامي برامج سياحية استكشافية أخرى؛ تبدو جابالا مجرد ريف لا يملك من المقومات غير الطبيعة وهذا جانب مهم؛ لا توجد ميادين هنا ولا شوارع واسعة ولا معابد يتجمع حولها النُسّاك وبائعي الورد ولا توجد أنفاق ولا خط سير حديدي للقطار ولا ميترو يجول بكَ بين الهضاب ولا ترام تتصالح معه مع الطبيعة بروية تامة؛ من هذه الحديقة تشاهدُ سفوح الجبال بتجلياتها المكسوة بالاخضرار وتشاهدُ شرفات الفنادق القريبة والبيوت ذات الأسقف العادية؛ ثمة ما يمكن فعله هنا وهو أن تتصالح مع ذاتك وتعيش اللحظة بتفاصيلها الدقيقة والجميلة فبعض الجمال يمكنكَ أنَّ  تفتش عنه في البساطة.

أجلس في أحد كراسي الحديقة المركزية والتي أسميتها بحديقة المعمرين

أنا وخلفي أحد المعمرين الودودين يمارس الرياضة


هذا سائق سيارة الأجرة الذي كان يقتفي أثري أخذت معه جولة جميلة وبسعر رمزي شكرًا له

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر