بين بردعة أذربيجان وحلة الدقدقين بسمائل عُمان أحاديث تطوي المسافات

يحيى المعشري
أنستجرام yahyaalmashari
مقدمة
في السفر من منّا لا يتحدث مع الآخر؟ ومن منّا لا يهمس أو يلوح للآخر ولو بنظرةٍ عابرة تخترق المسافات، قد تسافر وحيدًا لكنك لا تعيش وحيدًا في الخارج؛ فأنتَ في الأرجاء بين لفيف البشر، ترنيمات السفر هذه أسجلها في دفاتر أذربيجان مع الدكتور أبو ياسين؛ حيث اللحظات تأخذنا إلى استحضار الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السمائلي؛ مشهدٌ بعيدًا عن فنجان القهوة هذه المرة؛ بعيدًا عن الموكا واللاتيه والكابتشينو والماكياتو؛ لنُعيد المشهد من جديد؛ فأستحضر أرواح العالم تاركًا العالم الآخر هناكَ يطوي المسافات.

قبل أنَّ أهم بالنزول إلى بهو الإقامة في فندق جابالا مكان سكني؛ ليلتان بثلاث ليال، كان صباحًا مفعمًا بالنشاط؛ من شرفة الفندق أناظر السماء المغطاة بالسحب؛ ثمة سحابة حبلى ستلد مطرًا بعد قليل وثمة شمسٌ تتوارى خلف أشجار الصفصاف الكثيفة؛ ثمة أجواء تحفزني للمشي في الخارج هذا اليوم، الكبار والصغار يرسمون فنتازيا ليست من الخيال، هممتُ بالخروج من غرفتي؛ طاويًا خلفي الممرات والدراجات وفي حديثٍ عابر مع موظف الاستقبال وأنا ألملم أشيائي التي تعينني لزهاء ساعتين أو أكثر للتجول اليومي في الأماكن القريبة التي يمكنني شد الرحال إليها؛ كان يسترق السمع في أحد الكراسي في الجوار أحد كبار السن وهو كما يبدو من الوهلة الأولى من المرشدين السياحيين، في منتصف العقد السادس من العمر، ذا سحنة بيضاء؛ حليق اللحية وأثناء حواري الانفرادي مع موظف الاستقبال؛ كعادتي أستهدفهم كثيرًا لمعرفة المدن التي أقطنها وأهم أماكن الجذب التي تسترعي الزيارة وأهم المطاعم والمتاجر القريبة وذلك للحصول على معلومات من مصادر معتمدة ورسمية وبما أنني أقيم معهم يعني من الواجب والحتميات تزويدي بالمعلومات اللازمة من مبدأ الثقة بين النزيل والموظف وهذا أمرٌ مهم في العلاقات الإنسانية؛ كما أنه ترويج لأماكن الإقامة؛ فالثقة المتبادلة بين النزلاء والعاملين في الفنادق تبدأ بتقديم التسهيلات وإعطاء المعلومات للسائح المقيم؛ موظف الاستقبال شاب يدعى "وقار" في منتصف الأربعينات؛ طويل القامة؛ عريض المنكبين، كثير الحركة ولا يخفي ابتسامته ألبته، يعمل بالمناوبة وفي أوقات الفراغ يقود سيارة أجرة خاصة به، حدثته عن مكان يسمى "بردعة" وهي مدينة تاريخية في أذربيجان ليست وجهة سياحية يقصدها السياح كالوجهات المسجلة في قائمة "تريب أدفايزر"  Tripadvisor أو منتدى المسافرون العرب ولا حتى من الأماكن التي يُشجع عليها الرحالة واليوتيوبيون، إذ تُعد "بردعة" بحسب ويكبيديا "مدينة ومركز ومقاطعة في أذربيجان. تقع جنوب مدينة يفلاكس وعلى الضفة اليسرى من نهر تارتار. كانت بردعة هي عاصمة ألبانيا القوقازية منذ القرن الرابع، ثم أصبحت المدينة الأساسية للولاية الإسلامية «الران» في ألبانيا القوقازية وظلت كذلك حتى القرن العاشر"؛ قاطعنا الرجل بفضول جميل قائلًا: ما الذي دعاك لتسأل عن بردعة وأنت سائحٌ أتيت هنا وفق برنامج سياحي مُعد وهو لا يعلم أنني في ترحالي لا أحبذ برامج السفر المعدة سلفًا؛  تجاذبنا أطراف الحديث وقد أخبرته عن "بردعة" وما هو الهدف من السؤال عنها؛ قاطعني وقبل أن أنبس ببنت شفة هل أنت من سلطنة عُمان أجبته إيجابًا، نعم؛ ثم أردف القول هل تعرف الباحث في التاريخ العُماني أحمد البادي قلت له وبدون تردد نعم أعرفه وقرأت له كثيرًا  وآخر كتاب قرأته له هو "قصص وأخبار جرت في عمان وزنجبار" وفيه قصص واقعية حدثت في الماضي، زم الرجل شفته وقد علم أني أعرف "بردعة" في الحقيقة ليس تمامًا بتلك المعرفة العميقة وفي أحاديث السفر تمر عليك الكثير من الأشياء التي لا تحسب لها حساب؛ هي رصيد يومياتك في السفر؛ ففي السفر أنت تقلب كتاب الحياة وتقرأ شخوص الدول التي تزورها كما تقرأ الصحف اليومية، تبددت حالة هلامية عابرة بيننا وقطعنا الرسميات وزال التكلف قبل أن ينادي نادل المطبخ آذنًا بموعد الإفطار.

 وفي غمرة الحديث استمر الدكتور أبو ياسين يسترسل في حديثه معي قائلًا: من أي البقاع أنتَ في عُمان، حالة من النشوة اعترتني قبل أن أُعقّب على عجالة؛ من العاصمة مسقط؛ قلت، بعدها تحدثنا عن زيارة المؤرخ في التاريخ الأستاذ أحمد البادي وعن أحاديثهم عن جدلية وفاة الصحابي الجليل مازن بن غضوبة وهي مثار جدل بين أوساط المؤرخين والباحثين والمهتمين في سلطنة عُمان في فترةٍ خلت؛ حيث يرى البعض أنَّ قبره في سمائل حلقوم عُمان في حلة تسمى الدقدقين وفي مقطع مرئي أشار أحدهم أنه في حلة أولاد سعد وهم من بني طي  وفي الجوار من قبره يقع مسجد المضمار في محلة الدك وكما تشير المصادر أنه من أقدم المساجد في التاريخ العماني وهو من قام ببناءُه ويتميز بأنه أهم معلم ديني في ولاية سمائل، إنها سمائل حيث الواحات الجميلة؛ حيث النخيل الوارفة والأفلاج الرقراقة والبساتين الغنّاء؛ هناك يوارى قبر الصحابي الجليل وقول آخر وهو ما أثير مؤخرًا أنَّ وفاته في بردعة بأذربيجان التي فتحت على يد القائد سلمان الباهلي في فترة خلافة الصحابي الجليل عثمان بن عفان بعد مشاركته في الفتوحات الإسلامية؛ أي القولين صحيح هنا محور حديثي معك يا دكتور والمتواتر عندنا تتناقل الرواية حيث الإشارة إلى قبر مازن بن غضوبة وهو من الصحابة العبّاد؛ فقد كان يعبد صنمًا كالقوم الذين يعيشون معه؛ يتشارك معهم طقوسهم وشعائرهم وعباداتهم، استطرد الدكتور أبو ياسين في حديثه قبل أن أقاطعه قائلًا: في سلطنة عُمان ومن خلال المصادر الدراسية التي مرت علينا نعلم قصة الصنم وطريقة إسلام الصحابي الجليل مازن بن غضوبة المتواترة، بدأ الدكتور يرهف السمع وأنا أتلو عليه ترنيمات زياراتي العديدة لقبر الصحابي الجليل في محلة الدقدقين في سمائل؛ فمازن بن غضوبة هو سادن الصنم أي حامي الصنم وعادة هذه المهمة تُعطي لوجهاء القوم الذين يتمتعون بعدة صفات؛ منها الأمانة والصدق والكفاءة وغيرها من الصفات التي يتحلّى بها عدد من الشخصيات التي تُسند إليهم مثل هذه المهام حينها؛ أرهفت سمعي إلى الدكتور وقد كانت نبرة صوته توحي أنّ هناك خطب جليل وبدا جليًا اهتمامه بمثل هذه المسائل؛ هل هي من قبيل المعرفة بالشؤون الإسلامية أم من نافلة التاريخ أم هي مهمة إضافية تساعده على كسب ود المهتمين بالتأريخ من السياح؛ خاصةً أنّ أذربيجان بدت من الدول التي يُشد إليها الرحال وبدت ذا أهمية كبيرة لدى المروجين وأصحاب المكاتب السياحية؛ ناهيك للمدونات المقروءة والمرئية لدى الرحالة؛ كنت مهتمًا لزيارة بردعة وتوثيقها مرئيًا أكثر منها كتابيًا؛ لكنها أحوال السفر تختلف مع ما نتمنى بعض الأحيان ومن ضمن ما أضعفَ همتي وعزيمتي لزيارتها عدم التشجيع من الذين قابلتهم من القاطنين في جابالا؛ ظنًا منهم أني جئت سائحًا فحسب غير باحثًا عن معلومة أضيفها في قائمة المشاهدات والمعايشات في السفر؛ في المثالب التي يبحث عنها المرتحل، تركنا الحوار يمور في أكف النسيان لعلها كانت خاتمة حواري مع الدكتور أبو ياسين وهي خاتمة نهاية النشوة التي أعيشها ولهفتي لزيارة بردعة؛ غادرت بهو الفندق مستأذنًا الانصراف فقد حان موعد الإفطار لقد كان حديثًا عابرًا ومختصرًا لكنه مليئًا بالإجابات وأي الأقوال هي الأرجح لنترك الإجابات في أيادِ الباحثين لربما يغوروا في بحث آخر هو الشرارة التي توقظ مارد التساؤلات المثارة في الوسط العُماني!
 
صوتين مدموجتين تجمعا قبر الصحابي الجليل مازن بن غضوبة في سمائل بسلطنة عُمان
 وصورة لمعلم تاريخي في مقاطعة بردعة في أذربيجان
 
اللقاء الذي جمع الباحث في التاريخ العُماني الأستاذ أحمد البادي
بالدكتور أبو ياسين في أذربيجان
هذا أنا في جولة في جابالا بعد أن دار بيني والدكتور 
أبو ياسين حوار عابر عن الصحابي الجليل مازن بن غضوبة



صور متفرقة للدكتور أبو ياسين مع السياح في أذربيجان

صورة لمسجد المضمار أول مسجد بني في عُمان
 بحلة الدك في ولاية سمائل

 
وثيقة مسجد المضمار في سمائل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر