من باكو إلى جابالا عبر محطة "أفتو جزال"

 

يحيى المعشري

في اللحظة التي قررت فيها الكتابة عن تجربة التنقل من باكو إلى الريف الأخضر جابالا الساكن خلف أشجار الصفصاف؛ فكرت مليًا هل تسترعي التجربة الكتابة عنها أم هي مجرد بصمة أو تشويقية مرئية أُلصقها في صفحتي على اليوتيوب أو ندبة تحاكي الندبات الملقاة في الصفحات الشخصية للرحالة المتيمين بتتبع الأمكنة؛ أخذتُ أقلب أفكاري  التي تنشط ويزيد هيجانها في الليل المدلهم ويخفت بريقها عندما تعبث الأضواء بالليالي الحالكة؛ فوصلت إلى قرار التدوين الكتابي الذي أحاول فيه أن أضع بصمتي الخاصة؛ إنها الساعة السابعة صباحًا التي أيقظت مارد النوم من سباته تسبقها الساعة التي أستيقظ فيها لأداء صلاة الفجر ففي اليوم الذي يسبق رحلتي إلى جابالا قررت المكوث في أحد مقاهي شارع نظامي؛ أتأبط كشكول الملحوظات الذي أدون فيه ما أود القيام به في اليوم الموالي أو أكتبُ فيه أهم المواقف التي اعترضتني حتى أنقلها للناس بمصداقية تامة دون شائبة أو نقصان؛ فالذاكرة في السفر ليست هي الذاكرة في الأيام العادية؛ ثمة زحام لاح في الأفق منذ أن حلّقت الطائرة من مطار أبوظبي؛ فالسفر عادةً يبدأ من اللحظة التي تقرر فيها التخطيط للسفر.

أعلن الليل سدوله وحان موعد ذهابي إلى الفندق في شارع إسلام سفرللي، سويعات أقضيها في النوم قبل أن يعبث الضوء بليالي العاصمة الأذربيجانية باكو، دبّ النشاط منذ أول خطوة خطتها قدماي في شارع نظامي متوجهًا إلى الشارع المقابل؛ فهناك تستطيع عبر تطبيق بولت وهو التطبيق الذي يستخدمه أغلب الزائرين لباكو؛ بعيدًا عن هرطقات سائقي سيارات الأجرة وعديد من الأسباب التي تعطي الزائر الإقبال على هذا التطبيق والتطبيقات الأخرى وتختلف مسمياتها بين دولةٍ وأخرى؛ بدءًا من المطار وانتهاءً بالتجول في المدينة؛ بضع ثوان هي لحظات الانتظار قبل أن أضغط على زر طلب بولت (BOLT) في هاتفي؛ طالبًا محطة الحافلات؛ موضحًا فيه المسافة المقطوعة والسعر المحدد إلى المحطة "أفتو جزال"  في العاصمة باكو ومن هناك تبدأ أولى الخطوات في تجربة السفر مع القرويين وعلى مد البصر وبطول (3.5)كم وهي المسافة التي تخطوها قدماك على شارع نظامي؛ ثمة أشجار معمرة يستظل على جنباتها المارة والبائعين وهناك أبنية ذات طابع إسلامي وأوروبي؛ هنا تشترك الحضارات وهنا تتمازج الثقافات.

 الشمس تطل باستحياء خلف السحب المتفرقة في شهر يونيو والناس لا زالوا في سباتهم بعد يوم قضوه بين بائع ومشترٍ أو زائرٍ تستهويه الجلسات الخارجية أو عابرٍ تعتريه لجة مشاعر مختلطة؛ بين سكنات المزاج وغواية التسلية، أبحث عن بائع الكستناء الذي ينشط وقت العصيرة فلم أجده يبدو أن الحياة الصباحية الباكرة لا تنشط في هذه الشوارع؛ أبحث عن الحسناء ذات الطول الفارع والخصر النحيف التي بدت تداعب جدائل شعرها عند كل سائح تعرض عليه خدماتها السياحية في الأرجاء؛ أبحث عن المرأة المسنة التي تخلط العجين وتُعد الخبز للمارة وقاصدي مقاهي الجلسات الخارجية وفيها من التشابه والتجانس مع عاداتنا في المنطقة في إعداد الخبز؛ لا شيء عدا منظفي الساحات وهم في العادة من فئة كبار السن؛ رجالًا ونساءً، ومضيت أقضم المسافات وبكبسة زر على جهازي "الفيفو" القادم من الفيالق الصينية؛ أطلّت عليّ سيارة صغيرة عبر تطبيق "بولت" فيها شاب في منتصف العقد الثالث من العمر؛ تبدو عليه أمارات السعادة وكان انطباعي هذا من الوهلة الأولى وهو يلقي علي التحية؛ عَرِف وجهتي من خلال الطلب في التطبيق، خارطة معلوماتية بها خوارزميات ذكية؛ عالية الدقة، وكما يبدو أن طباع سائقي التطبيقات تختلف مليًا عن طباع سائقي سيارات الأجرة الأخرى؛ والحادة في غالب الوقت؛ إذن هو النظام والتقييم في آخر كل رحلة من قبل الزبون من غيَّرَ سلوك بعض سائقي السيارات؛ هلم ننطلق؛ قلت للسائق هلم ننطلق إلى محطة الحافلات "أفتو جزال" Bakı Beynəlxalq Avtovağzal Kompleksi عقب قائلًا: كيف عرفت مكان المحطة يبدو أنك عربي قاطعته قائلًا: أنا من سلطنة عُمان، طبع ابتسامة تحية وقال في ذهول: غريبًا أن أجد سائحًا يذهب كل هذه المسافات الطويلة عبر محطة الحافلات، وأين؟ موجهًا سؤاله، قبل أنّ يجيب وفي الحافلات التي يرتادها القرويين؛ وتبعد جابالا عن باكو قرابة ثلاث ساعات وعشرون دقيقة أو تزيد في مسافة تتجاوز 200كم عدا التوقف لمحطة واحدة للراحة وتجديد الطاقة والتشافي الذي يبحث عنه المرتحل عبر هذه الوسائل في التنقل،  قالها وناولته حقيبتي الصغيرة من على كتفي ليضعها في الصندوق الخلفي للسيارة، مررنا في طريقنا على عدة أماكن وعلى أشجار الصفصاف المنتشرة في كلِ مكان كما أن الشارع لا يغط في الزحام في أول النهار على عكس الفترة المسائية، انطلق السائق إلى محطة الحافلات وكنت مدركًا تمامًا أنّ وضعي آمنًا نوعًا ما؛ لسببين: الأول أني حجزت تذكرة صعود الحافلة مسبقًا والثاني أنّ الوقت ما زال مبكرًا على موعد تحرك الحافلة فالختم في تذكرتي كما هو واضح  الساعة العاشرة صباحًا والساعة الآن تشير للثامنة صباحًا؛ أي لدينا من الوقت ما يربو على الساعتان من الزمن مستغلين الوقت في مشاهدة بعض معالم باكو المتناغمة، وفي طريقنا نسير الهويني بدا أن السائق لا يعرف موقع المحطة وكان اعتماده الكلي على أنظمة الملاحة في تحديد الوجهة كما أن النظام يحيله إلى وجهات أخرى ما يعني أننا سنتأخر بعض الوقت ومن حسن الطالع أن عدد السيارات في الفترة الصباحية قليل ومع تكرار عملية البحث عن المحطة تثاقلت الدقائق والثواني وبدأت تقضم المشاوير؛ كنت هادئًا في طباعي بعض الشيء وأكثر روية؛ لأن قناعتي أن مثل هذه المحطات تتعدد فيها المشاوير وفيها خيارات كثيرة وقيمة التذكرة 8 مانات؛ أي في حدود1.800  ريال عُماني؛ أي أني سأدفع قيمة التذكرة هناك لا بأس في ذلك وقبل الوصول إلى المحطة وعلى مفترق طريق متعرج زاد الازدحام ولاح لناظري القرويين يتأبطون حقائبهم ومؤنهم وأشياءهم وفي المنطقة التي تسبق بوابة الدخول للمحطة يتجمع سائقي سيارات الأجرة؛ يعرضون خدماتهم؛ تتعالى صيحاتهم (قوبا، جابالا، شاكي، أقداش، بردعة وغيرها من المدن والقرى التي تمر عليها الحافلات وفي الرواق الداخلي للمحطة بدت بعض الوجوه شاحبة تلك الوجوه التي سابقت الفجر تنتظر إذن صعود الحافلة؛ لأن الانتظار مجهد وحمدت الله أنّي أتيت في هذا الوقت، الساعة الآن تشير لـ (9:30) صباحًا ومن عادتي الالتزام بالمواعيد، أرهفت سمعي لسائق الحافلة طالبًا مني الصعود وعدم التأخير؛ متجهمًا متأملًا سحنتي العربية، قائلًا "أرب أرب" أي عربي، كنت لا أعلم عدد الساعات التي أقضيها في هذا المشوار من باكو إلى جابالا في الحافلة وفي مثل هذه الحافلات لا تقدم الخدمات اللوجستية من تغذية وغيرها من خدمات وعلى مرمى البصر استأذنت السائق للذهاب إلى أحد الأكشاك التي تعرض المعجنات والمخبوزات والكعك اللذيذ وعلى وجه السرعة رمقت خبز السميد بالسمسم المحلى بالنوتيلا؛ على الفور شرعت بالجلوس طالبًا من النادل أن يأتيني بخبز السميد الساخن مع تنبيهه بعدم التأخير إضافة للشاي وللشاي في هذه البلدات حكايات وحكايات، طلبت شاي كشري على الطريقة المصرية إلا أنه خالي من السكر مع قنينة ماء دافئة، جلست أتمعن محطة الحافلات هذه والتي شيدت في عام 2005 وبدأ العمل بها في عام 2009وتحتوي على مكتب تذاكر وغرف انتظار ومواقف خارجية للسيارات؛ إضافة إلى محطة ميترو "أفتو جزال" ومنفذ تسوق وبعض الخدمات التي يحتاجها المرتحل، انطلقت الحافلة التي أقلتني وهي من الحجم المتوسط، كما توجد حافلات أخرى من الحجم الكبير وتبدو أكثر راحة.

توارت الحافلة عن الأنتظار وجلس بجواري رجل في العقد السادس من العمر تبدو عليه أمارات البساطة، نحيف الجسم، أشيب الشعر، حليق اللحية لا يجيد الكتابة وكانت حواراتنا بين الفينة والأخرى تعتمد على حركة الجسد والإيماءات؛ هذا الرجل بشوش المحيا ولحسن حظي أن أجد هذا الطباع فيه فالطريق طويل نوعًا ما وحاجتي له لا تتعدى معرفة أحوالهم وطريقة عيشهم؛ وددت الحصول على تفاصيل عديدة منه لكن التحدي في مثل هذه البلدات؛ صعوبة التخاطب؛ ثمة رسائل أبوية منبعها القلب ولطيف الطباع؛ الساعات في الحافلة سريعة والمشاهد الخارجية بين السهول ومزارع التوت والمشمش والتفاح الأبيض ووجوه القرويين وبين بائعي الطرقات الذين يجدون ضالتهم في المارين بالسيارات الصغيرة والحافلات، مررنا على جبال وأودية وطرق متعرجة، عدسة هاتفي في مثل هذه المشاهد تصدر وميضها؛ هو الوميض الذي يسكن روحك وأنت تناظر المروج الخضراء ومزارع القرويين والسهول والجبال؛ هو ذلك الضوء الخارج من الوجوه الباسمة والأيادِ التي تلوح لك في سفرك للوجهة التي تقصدها؛ وعلى شفا الوصول إلى وجهتنا أومأت لسائق الحافلة بأن ينظر إليّ؛ ثمة ما أريد قوله، استدار وبصوتٍ خفيض قلت: كم تبقى من الوقت للوصول؟ مدركًا أنّي ربما لا أجد الإجابة لسبب واحد أنه لا يجيد اللغتين العربية والإنجليزية لكني كنت مؤمنًا أن هناك لغة خاصة بين بني البشر؛ هي لغة نعرف من خلالها ما يريد الآخر هي كافية بأن تعرج بنا من اللاممكن إلى الممكن؛ إنها لغة القلوب، لغة الإنسانية بين بني البشر مهما ناءت بهم المسافات وبعدت؛ تلك اللغة التي تخترق المشاعر فيجد فيها المسافر ديدنه وضالته في إيصال ما يريد؛ هكذا دأب الرحالة، حالة تفكر اعترتني وأنا أتذكر الرحالة منذ حقب زمنية كيف مخروا الصحراء بين البدو وهم لا يجيدون اللغات وماهي اللغة التي يتخاطبون بها  ولأني لدي شغف الوصول إلى جابالا على وجه السرعة؛ تلاشت المسافات وشرع السائق ينادي الركاب بالنزول في المدينة حيث انتهاء الرحلة وانتهاء الطريق الذي طويناه بما يحمل من أحداث ومشاهد وأحاديث؛ يستعرضها الواقع بصورة أشمل وأجمل.

هؤلاء الصبية يظنون أنني أحد الممثلين
الرجل الذي ركب بجانبي؛ تبادلنا أطراف الحديث





هذه محطة طريق العودة من جابالا إلى باكو
أنا وتمثال نظامي وهو شاعر معروف

أقف منتصب القامة في شارع نظامي


تحت إحدى أشجار الصفصاف في شارع نظامي


مدخل محطة أفتو جزال في باكو
الطريق المتعرج الذي ذكرته في المدونة قبل الوصول للمحطة


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر