ديرة دبي الديرة التي تزورنا في مقهى سوق نايف


 يحيى المعشري

أحداث أبطالها شخصيات رافقتني الزيارات من مسقط رأسي بلدة بوشر إلى ديرة دبي؛ على فترات متعاقبة وسنوات طوتها الأيام؛ لكنها بقت عالقة في الذاكرة؛ كما هي عالقة في ذاكرة من طاف أرجاء ديرة من أبناء جلدتي والعدد المهول من الشعوب التي تقاطرت عليها؛ أنا وغيري مجرد عابرين مررنا على أزقتها وخورها وأبراجها وبحيراتها وأسواقها؛ ديرة أو دبي المدينة التي لا تُكتب فحسب، دبي المدينة التي تكتب وتخط وتنقش وتعمل وتغير وتجدد؛ يقطنها الحالمون بالحياة؛ إما أنّ يطيب بهم المقام ويأنسوا البقاء أو يغادرونها إلى عودة تتجدد مع الأيام، نعم؛ سيعاودون زيارتها وسينتصرون لأشواقهم ورغباتهم؛ باختصار هي ليست المدينة التي تنتسى وليست الديرة التي تمر عليك طيف عابر فيخفت مع الوقت؛ هي الأحجية التي تُسكَن وتَسكُنها الحقيقة؛ ثمة شخوص لم أخطهم بين هذه التشويقة؛ ليسوا بعثرة حروف هم حكايات أكبر من أنّ تقص بين الأنام!

لم تسقط شجرة الصفصاف من على ضفاف خور دبي وهي تحمل حلم أن تكون دبي الواجهة الجميلة التي تُدلق على ألسن العالم قاطبة، لم أبرح مكاني في هذه اللحظة التي أجلس فيها وبرفقتي الصديق قيس الجابري ونحن نتفيأ ظلال أفئدة المنافسين للحصول على كراسيهم في هذا المقهى بسوق نايف ديرة؛ مكثنا برهة من الزمن تبعثرت عندها الثواني والدقائق والساعات؛ نقص زياراتنا المتتالية إلى ديرة وما تخللها من تطواف في أرجاء دبي، قلت لـ قيس هامسًا لم أنسَ اللحظة التي قذفتني أمام نهر النيل أطول أنهار العالم وقد خضت تجربة اللامستحيل مع هذه الإمارة حينما تتدافع ألسن أبناء النيل على حلم المرور من على ضفة خور دبي وإطلالات منطقة السيف؛ أو ركوب قوارب "العبرة" الخشبية الشعبية والعبور على زرقة أمواجها أو البقاء سويعات من الزمن في ديرة دبي والرقة والبراحة والمرقبات وند الشبا والعوير؛ لم أنسَ في طائرتي الأولى عام 2006 التي حلقت في سماء أرض الابتسامة تايلاند عبر الناقل المحلي "الطيران العُماني" لتتدافع الأقدام مهرولة لفرحة اللقاء في مطار "سوفارنابومي" في عاصمتها النابضة من الوريد للوريد بانكوك حينما نعرّف بأنفسنا أننا نتقاسم مع دبي الجغرافيا والطبيعة والمشاويـــر؛ فترتسم الابتسامة على محيا من يصيخ السمع إلينا وقد ينهي معاملاتنا على وجه السرعة رغبة منه في كسب ودنا ورضانا؛ إن الإنسان الذي يبني المدينة بحب وشغف؛ تكافئه المدينة بالقبول والترحاب، بقيت مع قيس نتأمل المارين؛ تسكننا الأحاديث الشائقة؛ نحدق في هذا وذاك قبل أنّ يقاطعنا زميل العمل في البلديات الأخ عبد الرحمن البلوشي أحد موظفي مكتب الوزير ذات وقت تبادلنا أطراف الحديث، ودعته وعشت حالة من العودة إلى الماضي تبددت باستطرادي القول لـ قيس: اختلفت المشاوير وميولات زيارتي لدبي في لحظات متعاقبة وقد يزيد هيامي بها فأزورها في الأسبوع الواحد مرتان ومع اختلاف الزيارات ودعت دبي زهاء خمس سنوات منذ الزيارة الأخيرة في العام 2017 مع الزملاء صالح الرزيقي وقيس الجابري ألا تتذكر تلك الزيارة يا قيس؟ تنفس قيس الصعداء وقد علت وجنتيه ابتسامة قائلًا: انه كورونا الذي تنهدت على وقعه كبريات دول العالم وأصابتها ارتعادة عارمة؛ فقد فشلت جميع المحاولات لمعاودة الزيارة نظير القيود المفروضة وقتئذ وقد تشافيت من جميع العلل لأستطب أخيرًا في دبي مجددًا، ها أنا الآن أمثل أمامك في المكان الذي يؤنسنا في ديرة دبي، دبّ الصمت بيننا ولم يتوقف الناس عن الحراك ولم تتوقف الأصوات ولا حسيس البشر الذين يتهافتون على المقهى؛  عندما تبعد المسافات؛ نداويها بالزيارات قلت لـ قيس: وما أجملها من زيارة لقد ابتسم لنا أغسطس من العام الحالي 2022 لنعيد الحكاية مع دبي ونكرر الأحجيات التي جمعتني بها منذ أول زيارة مع أخي الأكبر أحمد والزملاء عبدالله الرواحي وخميس السعدي وتلتها زيارات متتابعة مع أخي بدر والزميل أحمد علي حجي الرواحي لكن البدايات لها طعمها ولها رونقها وأحاسيسها العالقة في الذاكرة، لقد جلسنا في  المقهى وطال بنا الجلوس؛ نمعن النظر في الرواق المتاخم لمسجد أحمد بن ماجد الغرير مرارًا وتكرارًا ولا يمكن أن أزور ديرة الواقعة في الجانب الشمالي في دبي إلا وأختتم الزيارة بجلسة هنا أطالع المارين من الجنبات وأتمعن هدير السيارات وأحوال الوجوه وحركة الشراء التي لا تهدأ؛ أتفرس الأصوات المتعالية في حركة دؤوبة يتفرد بها هذا الشطر من مدينة دبي وهو الأكثر حراكًا وشعبية فقد شكلت ديرة المكان الأكثر كثافة؛ حيث دبيب الأقدام وتداول البيع والشراء وصخب الأمكنة؛ فهي تتبوأ الصدارة؛ لأسباب عديدة يقيّمها العارفون بالإحصاء والمغرمون بالأرقام؛ أما أنا فمروري بدبي هائمًا لا أبتغِ إلا المثول بين جنباتها؛ مسافرًا أقتطع من أوقاتي مسافات بالسيارة مع أول إدارة لمقود سيارتي أو سيارات من يخفروني الزيارات من الزملاء أو بالطائرة يرافقني إليها شوقي من مسقط رأسي ولاية بوشر تلك المدينة الوادعة في العاصمة مسقط إلى دبي العالمية في رحلة مسافات تطويها أحاديث الشجن وتعددت الشخصيات التي رافقتني إلى دبي وتعددت خيارات الزيارة؛ ثمة ثراء يعيش في المدينة وثمة أشواق ترتمي بين الأزقة؛ نحن في ترحالنا لسنا أضداد بل نتصاحب في كل شيء ومع أي شيء  ومن مسجد أحمد بن ماجد الغرير في ديرة يلتقي جموع الناس ونلتقي نحن هناك حيث نغوص في رحلة أخرى نستشعر فيها روحانيات المكان وتحت ظلال القِباب نتقابل ونتقاسم رحلة الضياع؛ إما برشفة من فنجان قهوة في مركز المنال أو تطواف خاطف في سوق نايف وبناية الوصل؛ هناك نستقطع كثير من أوقاتنا وهناك نلتقي أبناء جلدتنا العمانيين بكافة أطيافهم ومن محاسن الصدف أن التقيت قبل سنوات زميلة عمل سابقة في ذات المقهى ومن المفارقات أن التقيتها في مشروع في إحدى المؤسسات قبل يوم إنها الصدف التي تجمعنا بمن نفارقهم سنوات ولا تجمعنا بهم غير اللقاءات العابرة وفي روحانيات رمضانية تقاسمت الزيارات إلى ديرة دبي رفقة الزملاء سمير الحبسي وعمر الرقادي وابن العم حمد المعشري وتكررت الزيارات إلى ديرة معهم مرات عديدة في رحلات يومية من بعد الظهيرة إلى أن يخيم الظلام ونختم صك العودة قبل أن ترفع حناجر  المؤذنين في مساجد مسقط معلنةً انتظار صلاة الفجر؛ إذن هي جولات تتباين فيها الأمزجة وتختلف في التوجهات باختلاف الشخصيات وبين دبي الغارقة في التجارة الحرة وناطحات السحاب وتصاميم البنايات العصرية وحراكها البري والبحري والجوي وجبالها النابضة بالحياة ونشاطاتها الاقتصادية أُرهف السمع لـ قيس وهو يتلو على أذني همسة أخرى هيا بنا يا يحيى إلى منطقة العبرة وهي المنطقة التي كان أهل دبي يتنقل منها عبر خور دبي وهي الشريان الحيوي للسكان حيث ازدهار تجارة اللؤلؤ والصيد؛ فبمقابل درهم أنت على موعد لأن تنتقل إلى الضفة الأخرى عبر قوارب "العبرة" الأكثر شعبية في أربع محطات فقد كنّا نتنقل من ديرة إلى سوق التوابل والعكس صحيح؛ يحدث الراكبين جلبة وسواد دخان المحركات يتطاير في الأرجاء وصوت محصل الديون على شاكلة "كمسري" مصر ومحصل ديون "الدالا دالا" في زنجبار؛ فقط مقابل درهم أكثر من مائة عبرة تمخر عباب الخور من السادسة صباحًا إلى أنّ يعبث المساء بنهارات دبي؛ ثمة إطلالات وبنايات ذات تصاميم مختلفة فريدة ومتناغمة؛ ثمة شخوص يعتلون معنا قارب العبرة بين سائحٍ موثقًا لحظاته الجميلة وبين متنقلًا للعمل بين الضفتين وفي منطقة السيف الجديدة من محطة الفهيدي حيث يختلف سعر "العبرة" عن نظيراته من محطات بدرهمين مع اختلاف نوعية القارب والمحطة التي يُنزل فيها ركابه؛ هذه المشاهد من ديرة دبي الجزء الذي احتضننا في أول الزيارات؛ ثمة حكايات أخرى من الجانب الآخر والوجه الآخر حيث برج خليفة ومنطقة جميرا والبرشاء ومدينة نخلة؛ هناك تشرق سمش أخرى في دبي وهناك تجد أطياف أخرى تمسد على جدرانها وهناك حياة أرستقراطية باذخة؛ كالتي مررت عليها ذات وقت في سنغافورة منطلقًا إليها من عاصمة الابتسامة بانكوك، هناك البلدات الغارقة في الثراء وهناك المدن ذات أبنية الطين وأبواب خشب الكندل الفاخرة لكنها تتكيف مع مشهدك اليومي متنقلًا عبر الميترو من محطات الاتحاد أو بني ياس في ديرة إلى وجهتك في محطة برج خليفة؛ النوافير العالية وقوارب الجندول السياحية والمدينة المؤنسنة والممرات التي تراعي الإنسان في تفاصيلها والقنوات المائية التي تنسيك البقعة الجغرافية التي تعيشها في وطنك وحكايات الجدات وقصص أخرى أقرأها في كتاب "عين وجناح" رحلات في الجزر العذراء، زنجبار، تايلاند، فيتنام، الأندلس والربع الخالي للكاتب العُماني محمد الحارثي الذي أتابطه في رحلتي هذه؛ محاولًا أنّ أتكيف مع أدب الرحلة؛ مزاوجًا بين حكايات تلك العوالم في كتاب الحارثي وبين حكايات دبي التي نقرأها أنا وقيس من مقهى سوق نايف.

غادرنا المقهى بعد أنّ أشبعنا بطوننا ورغباتنا الداخلية بالمكوث بين جنباته نتذكر توالي الزيارات ونتذكر مطعم لياري القديم قبل أن ينتقل إلى موقعه الجديد بحلة جديدة وتشويقة جديدة؛ مررنا قبالته ووقفنا منتصبي القامة نحدق في الجموع البشرية التي تتقاطر عليه، ليس طعامنا سمك مسلوق من الصلصة ولا شريحة لحم الروزليف القرمزي ولا قطعة جاتوه محشوة بنبات الراواند ولم يكن طبقنا يحوي العنب البري الأخضر ولا قطعة من جبن الشيستر التي راقني طعمها في منطقة كامب شيزار الاسكندرية ولا تصطف أمام الأطباق أقداح الشاي والقهوة كالتي يفضلها فيلاس فوج في رواية جول فيرون "حول العالم في 80 يومًا"- كنا نفضل مطعم لياري لأنه يعد الغداء على طبق مليء بالأرز ومحلى بالصلصة المليئة بالبهارات وأنواع الفلفل التي تفضلها شعوب الإقليم الهندي وبلدان الشرق الآسيوي؛ كنا نشعر بحميمية التجمع أكثر من شعورنا بتكديس الطعام في بطوننا؛ نألف الجلسات التي تشعرنا برغبة في الطعام وغالبًا ما كنا نطلب المزيد في صحن مشترك، تركنا لياري تتقاذف عليه الزيارات ومضينا حال سبيلنا بجوار فندق أنطاليا الذي كانت لنا فيه حكايات ومضينا نطوي دروب ديرة دبي؛ مررنا بجوار مطاعم البوفيه التي بدت صفحة من الماضي؛ نسترجع الكثير من الأحداث والكثير من الشخصيات والكثير من المواقف التي مرت علينا، بدأ صوتي متحشرجًا فقد حانت لحظة الوداع التي تتجدد بتجدد المشاوير؛ فنعود إلى سرد الحكايات والمشاوير في ديرة دبي الديرة التي تزورنا في مقهى سوق نايف.

 

أنا وقيس في مقهى سوق نايف المقابل لمسجد ماجد الغرير حيث الحكايات

دبي زمان

قارب العبرة وهذا محصل الديون











أمام فندق أنطاليا في ديرة



ضمن رحلة سفاري دبي 






































تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر