مدني بطلة عسكرية في متحف قوات السلطان المسلحة في بيت الفلج



يحيى المعشري 
الثلاثاء 23 أغسطس 2022م. 

تركت كشكولي الذي اعتدت أن أتأبطه في كل سانحة وكل مناسبة وكل لحظة فارقة في يومياتي؛ نعم؛ كل لحظات الإنسان فارقة في يومياته وفي حياته؛ فالوقت فارق والحركة جيئةً وذهابا فارقة والحراك اليومي من وإلى العمل أو أي جهة أو مؤسسة هي لحظات فارقة في يومك؛ أجل فالوقت الذي نعيشه فارق ويصنع الفارق إن أحسنّا استخدامه بإيجابية ولم نفرط في جزئياته؛ تركت بعض من لحظاتي في سويعات العمل أجر معي بعض من خفايا التأريخ التي تختمر مخيلتي التائهة من قراءات سابقة أو مشاهدات ومعايشات اطلعت عليها من هنا وهناك. تركت مدوناتي المرئية التاريخية التي سجلتها شهادات حضور في عُمان تمور كالماء المنساب باستمرار مع خوارزميات التقنيات الحديثة؛ تركت أوراقي المبعثرة في الدواليب تبحث عن من ينتشلها من شتاتها إلى جادتها وصوابها.

 تركت كل شيء يثنيني عن تاريخ أرضنا الباسمة عُمان وقد كانت وجهتي هذا اليوم في ساعة ونصف الساعة وهي الفترة الزمنية المعتادة أو الكافية كأقصى حد لزيارة أي شخص لمتحف قوات السلطان المسلحة لكنها توثق حقبات زمنية وعصور تعاقبت، هي اللبنة الأولى التي شكلت الأرض العُمانية وكانت رحلة البداية تطواف في رواق عُمان قبل الإسلام في قلعة بيت الفلج وهي واحدة من القلاع العسكرية التحصينية وقد بناها ووضع حجر أساسها السلطان سعيد بن سلطان عام 1845 للميلاد لتكون مقرًا لحاميته ومسكنًا له ولأسرته؛ كما أضاف لها ابنه السيد تركي بن سعيد بن سلطان برجان كبيران شامخان؛ تلاه السيد فيصل بن تركي اتخذها مسكنًا له وأسرته إلى أن أصبحت مقرًا لقيادة أول نواة عسكرية نظامية عرفت باسم حامية مسقط عام 1907، أرهفت سمعي للعسكري وهو يقص لي رحلة تاريخية مرت على القلعة أهمها تحالف بعض القبائل ضد السيد تيمور بن فيصل دارت إثرها معركة ضارية بين السلطان والقبائل المناوئة؛ شمسٌ بعيدة تتوارى خلف جغرافية عُمان وتاريخها وشخوصها؛ أبطالها مجهولين لم توثقهم الكتب ولا المخطوطات ولا الذاكرة الشفهية؛ أحداث دامية ورهانات خلقت سيناريوهات أناظرها من بوابات المتحف المتتابعة؛ تركتها هي الأخرى تمور في طي النسيات "ذاكرة وطن" ومضيت إلى حيث خارطة شبه الجزيرة العربية التي توضح أن صحار قصبة عُمان كانت المركز الرئيس في عُمان قبل الإسلام، أنظر شزرًا إلى العسكري الذي تولى مهمة تعريفي بأركان المتحف وهو يعتمر البريهة الزاهية والزي العسكري الذي يصنع الهيبة بداخل الهيبة؛ لكنه لا يتمنطق السلاح هذه المرة وقد بدأت رحلتي إلى متحف قوات السلطان المسلحة منذ أول وهلة أغلقتُ فيها مقود سيارتي في المواقف الجانبية للمتحف؛ متمعنًا بدقة المدني الذي عشق العسكرية في المعروضات بين الجنبات وهي ليست معروضات كالمعروضات التي اعتدناها؛ فهناك الطائرات الحربية وهناك الدبابات التي تهرش الأرض جيئة وذهابًا، نعم؛ هي ليست مجسمات للعرض إنني أمام حقيقة أن أشاهد الثكنات العسكرية وأدوات الحرب العصرية والعيادات الحربية الخارجية التي مرت عليها حقب زمنة؛ هناك سحابة حبلى تخفي مطرًا لا يريد أن ينهمر؛ فالشمس شديدة الحرارة هذا اليوم، واصلت النزول من السيارة لتسجيل بداية حضور وهناك خلعت مدنيتي وعمامتي ودشداشتي تشبيهًا؛ لأرتدي الفكر العسكري وأغور في تفاصيل الحياة العسكرية مذ اللحظة الأولى التي بدأ يلوّح بها العسكري لمقولة السلطان الراحل قابوس بن سعيد بعد البسملة آذنًا بافتتاح المتحف في يوم الأحد الموافق 11 من ديسمبر لعام 1988 بمقولة "ما من شك في أن المتاحف هي دليل مجسم لتاريخ الأمم، ونحن في عُمان نعتز بتارخنا، إن افتتاحنا لمتحف قوات السلطان المسلحة ببيت الفلج لهو خير دليل على عراقة التاريخ العسكري لبلادنا وقلعتنا عُمان" أحدق في الفضاء الخارجي للمتحف وأصيخ السمع إلى أصوات العصافير المتكورة على الشجيرات يخترقها فلج بيت الفلج العذب القادم من منطقة روي؛ حيث استمدت القعلة اسمها منه؛ أتمعن في الأسلحة المصفوفة في كل زاوية وكل رواق وكل ناصية وهي مراحل التكوين العسكري لعُماننا وقواتنا المسلحة؛ طفت بدون تململ على ضريح الصحابي مازن بن غضوبة السعدي أول من أسلم من أهل عُمان أعيش تفاصيل مسجد المضمار المسجد السمائلي في داخلية عُمان الذي أُسس على التقوى وقد تركت في داخلي القصص التي أثارت جدلًا بين أوساط الباحثين والمهتمين بالشأن التاريخي؛ وقفت تائهَا بين فريقين أحدهم يؤيد قول وفاته أثناء الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان بمنطقة بردعة في أذربيجان وثبات البعض على الرأي القديم أن أرض سمائل هي من تضم رفاته وبين القولين والرأيين، أين القيمة الاقتصادية والعائد الذي نجنيه من توثيق مثل هذه المزارات وإنعاشها؛ لتكون رافدًا معرفيًا تاريخيًا وسياحيًا وماليًا لنا وللأجيال، سرت همهمة استنكار مني بترتها بنظرة عابرة لمعاقل النبهانيين في الغرفة المقابلة وهناك تاريخ آخر لم يلقى حظه حيث شيدوا العديد من القلاع والحصون ودبت أقدامهم بخطى ثابتة على معاقل راسخة أرساها بني نبهان، تركت غرفة النباهنة أو بني نبهان لأهلها من العارفين والباحثين وجلت ببصري وحسي لزاوية دامية أحدثها البرتغاليين في منطقتنا وأرضنا؛ حيث سيطروا على طرق التجارة البحرية بين الشرق والغرب؛ ثمة أحداث وصراعات وبين الهزائم والانتصارات مدد زمنية طويلة وثقتها متون الكتب ورواها العارفين ومثلي العابرين بين أقصوصات المكان والزمان كثير منها غيبتها ذاكرة الإنسان ومن قاعة البرتغاليين ساقتني قدماي إلى قاعة اليعاربة ذلك العهد الزاهر المشرف بين تجاذبات المكان والزمان؛ بين الانتصارات وبين الانكسارات وكانت البداية من مؤسسها الإمام ناصر بن مرشد وهو الإمام الأقوى من أئمة اليعاربة يعده البعض أقوى شخصية حكمت عُمان على مر العصور؛ وبين الصراعات في البر والبحر إنجازات عظيمة تؤكدها الذاكرة العُمانية أن أغلب القلاع والحصون في عهدنا الحالي هي نتاج ذلك العهد المظفر الزاهر؛ أحسست بنشوة عارمة وأنا في رواق اليعاربة ومن تلك الإنجازات استرجعت في مخيلتي تطوافي قبل أشهر في ولاية السيب متتبعًا حصنها الشهير حصن السيب؛ متسائًلا عن ذلك الصرح الخالد الذي شهد توقيع اتفاقية السيب في 25 سبتمبر 1920م بين السلطان تيمور بن فيصل والإمام محمد بن عبد الله الخليلي التي تقر بتقسيم البلاد إلى فريقين أو إقليمين في واحدة من أخطر الاتفاقيات في تاريخ عُمان؛ الإمامة في داخلية عُمان والسلطة في مسقط ومطرح وفي مرحلة أخرى هززت رأسي مذعنًا للعسكري وهو يتلو على مسامعي عن الاتفاقية في غرفة من غرف المتحف وفيها حياة أخرى مليئة بالانكسارات والانتصارات تسيدها الخبث البريطاني. كنت أمشي متأرجحًا وكان العسكري بزيه المهيب يخطو بثقة بين حقب زمنية سطرها التأريخ العُماني إلى أن دانت لنا قاعة السادة البوسعيدين ومن شرفة المؤسس السيد أحمد بن سعيد الذي بدأ صفحة جديدة ودولة جديدة بموت آخر أئمة اليعاربة سلطان بن مرشد اليعربي؛ غربت شمس اليعاربة ولم تغرب سيرتهم وأشرقت شمس البوسعيديين؛ ثمة أحداث أخرى في هذا العصر لم تخلو من التساؤلات لكنها جديرة بالذكر وجديرة بالمرور عليها والتمعن في أهم مآقيها والأخذ من عبرها، وقفت منتصب القامة عند لوحة الامبراطور سعيد بن سلطان سلطان عُمان وزنجبار مستهلًا حديثي هذه المرة للعسكري بأني زرت معاقل السلطان في أنجوجا زنجبار واخترقت طوفان المحيط الهندي إلى الجزيرة الخضراء بيمبا وطفت على الكثير من الأبنية والتشييدات التي حكت إنجازات هذا العهد في القطر الإفريقي وتساءلت أين الإنجازات في القطر العُماني فلم أنتظر الإجابة ولم أركن لمخيلتي التي بدأت تعطي استفهامات لا أعلم إن كان العسكري قادرًا عن الإجابة عنها أم هي مجرد أوهام يطلقها العقل الباطن فتلتهمها ديمة مطر عابرة، بقيت في غرفة السادة البوسعيديين فترة ليست بالقصيرة أرهف السمع للعسكري وهو يحدثني عن المكتوب في اللوحات المعلقة في الجدران ويمطرني بسيل من الكلمات المقتضبة وفي داخلي أتحدث عن الصراعات بين الإخوة ماجد في القطر الإفريقي وثويني في القطر العُماني والصراعات التي سطرتها إيميلي رويته "الأميرة سالمة" في مذكراتها عن صراع الأخوين ماجد وبرغش أبناء سعيد بن سلطان على السلطة وبين بيت العجائب وبيت المتوني والمرهوبي ومقبرة السلاطين التي وثقتها في مدونتي المرئية وبين تلك الأحداث تفاصيل أخرى تركتها لأنتقل والعسكري لأحداث نشأة القوات المسلحة في عهد السلطان صاحب مقولة "الجنة تحت ظلال السيوف" تيمور بن فيصل في 27 أبريل 1914 وهي قوتين جديدتين تضافان إلى حامية مسقط التي تأسست في عهد والده فيصل بن تركي في بيت الفلج، استمر تطوافي بين القاعات واستمرت التساؤلات فليس للإنسان إلا التساؤل ومن قاعة أحداث الجبل الأخضر وأحداث ظفار أقرأ ملخص الدكتور علي الريامي سيرة وأحداث؛ آراء وأفكار وبين تلك الرحلة والرحلة ثمة أضداد في الأفكار وثمة اتفاقات يجمعنا فيها حب الأوطان، تواريت خلف تلك التساؤلات ولا زال العسكري يتحدث بألق واسترسال ولا زلت أصيخ السمع إليه بشوق ولهفة فمن أزمة البريمي إلى قاعة حضرة السلطان قابوس القائد الأعلى سيرة رجل حفظتها سيرة ملهمة تنهل من علوم العصر سطرتها ذاكرة وطن في متحف قوات السلطان سطرها سرجي بليخانوف في كتابه "مصلح على العرش قابوس بن سعيد"، لم تنتهِ الرحلة إلى هذا الحد ولم ينتهِ التجوال عند هذا الرواق؛ ثمة مستجدات تضمها أركان المتحف تحكي سيرة تطور القوات المسلحة وثمة أدوار مستنيرة وإضاءات خرجت من شرنقة العتمة سجلتها هذه القوات في التنمية وبين الصور المعلقة في الجدران وبين رحلتي الأخيرة في الباحة الخارجية مررت على تطورات وتاريخ لهذه القوات الشامخة إلى أن وقفت عند السيارة التي أقلت السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيب الله ثراه إلى مثواه الأخير وهنا تركت كل شيء يتوارى خلف ذاكرة الأيام، وتركت مشاركتي في الجنازة في الجامع الأكبر وكانت البداية مختتمًا اعتلائي ربوة في قرية غلا حيث مقبرة الأسرة المالكة وحيث يهال التراب على قبر الراحل؛ فسرت هدهدت حزن وساد الصمت؛ كسرت حاجز الصمت طالبًا من العسكري بلطف أن يلقي علي الضوء، هل لي بصورة تذكارية أمام نعش السلطان الراحل أومأ إيجابًا وأشار بسبابته وهو يقول: طبعًا، كنت أرغب بسؤاله كيف كانت ردود أفعالكم وأنتم تتلقون خبر إتيان نعش السلطان للمتحف؛ دسست السؤال في داخلي كما يدس المحامي طرف السيجارة بين أسنانه ومع الوميض المنبعث من فلاش الهاتف النقال اختتمت زيارتي ملوحًا للعسكري بتحية الوداع ومسجلًا انطباعاتي في دفتر الزيارات في مدخل المتحف؛ آملًا أن تتكرر الزيارات في قادم الأيام.

صورة لمتحف قوات السلطان من الخارج


                                                  

  •  
 

                                










                  






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر