أوزنجول جنة الشمال التركي في عيون عُمانية
يحيى المعشري
مشاهدات ومعايشات من تركيا.
رحلتي هذه إلى الرحاب التركية لم تستمر أكثر من ثلاثة عشر يومًا وهي الأولى بالنسبة لي لا ثاني ولا ثالث لها، لكنني في ترحالي وقد يتشاطر معي الكثيرون حينما أمرق الأمكنة تستهويني الأزقة والعمارة وعبقها، كما تستهويني المطاعم والجلسات الفسيحة الأرجاء؛ إضافة إلى البازارات والأسواق المفتوحة؛ حيث تتماهى في تجلياتها مع جمالية الطبيعة ولها في زيارتي النصيب الأوفر- هيا معي عشاق السفر والكلمة فلنحزم الأمتعة ولنضب حقائبنا فطريق السفر طويل لا حدود له ولا ينتهِ بانتهاء الرحلة بالعودة إلى أرض الوطن.
لم تشأ رانيا المغربية وهي تنهي إجراءات الحجز أن تفوّت علينا فرصة التسجيل لرحلة حافلتهم فقد كانت مؤمنة أننا سنفتن بأوزنجول؛ بادئ ذي بدئ دعوني أحدثكم عن الفتاة رانيا المغربية وهي في مطلع العشرينيات من العمر وفدت لطرابزون من أجل الدراسة وقد عملت في العقارات واليوم فور اقتحامنا مكتب الحجوزات السياحي المتاخم لفندقنا وجدناها تنهي إجراءات الراغبين في أخذ جولاتهم السياحية في ربوع الشمال التركي، لم تمضِ ثوانٍ معدودة قبل أن أمد لها جواز سفري أما زميلاي فقد ذهبا للفندق لإنهاء إجراءات الدخول إلى فندقٍ آخر يتناسب وتطلعاتنا فقد وضعنا ضمن خيارات السفر أن نقتصد في السكن قدر الإمكان- فبض المميزات لا تتسع لنا الظروف الاستفادة منها، وفي بواكير الصباح المفعم بحيوية المكان ها هي الحافلة السياحية تُقبل علينا وها هي جدران بيوت طرابزون تبدو باردة في أجواء ديسمبرية لطيفة، تسللت إلى الحافلة السياحية الكبيرة التي تقلنا كالموكب الذي تصحبه الموسيقى في المسير، بدأنا نبتعد عن قلب طرابزون؛ متجهين إلى أوزنجول وكان "مؤمن" وهو عراقي الجنسية المرشد السياحي وما أكثر العرب الذين احتضنتهم تركيا وكانوا شركاء في الحياة، مؤمن طالب عراقي الجنسية شاب في مطلع العشرينات، يدرس في إحدى كليات الشمال التركي، نَظِر الوجه، بشوش المحيا، لطيف المعشر، يرتدي الملابس الشتوية الفاتحة، أخذ يسدي تعليماته اللطيفة للسياح؛ يشعرهم بأننا إخوة نتشارك في سياحة محلية قد تمتد من أربع إلى خمس ساعات وقد تطول المدة في مقاييس الزمان إلى نهاية اليوم، عَبِرت بنا الحافلة من ميدان طرابزون في استفاقة صباحية بين المروج الخضراء والجبال المكسية بالأشجار مرورًا بأنماط البيوت التركية ذات التنوع الثقافي والشواطئ الممتدة في رحلة تستغرق زهاء الساعتين؛ لأن نظام الحافلة يمر على عدة أماكن إقامة وفنادق متفرقة وقد تطول المدة إلى أكثر من ذلك، نشنف آذاننا إلى أغاني عربية منتقاة وترانيم صباحية تطوي المسافات، ها هي الحافلة تقترب من أوزنجول وهي قرية تقع جنوب شرق مدينة طرابزون؛ تتميز بطبيعة خلابة آسرة ونشاط سياحي لا يضاهى- وبعد مسافة سير بالحافلة شارفنا نغازل الجمال الساكن في هذه القرية؛ حدقت في الأرجاء الفسيحة ويا للعجب مما رأيت؛ غمغمت في ذهول: تبدو هذه القرية وكأنها رسمة فنان أو منحوتة طُبعت بطريقة تفيض بالجمال، بدت الحافلة تأخذ مساراتها بين الجبال وعلى طريقٍ متعرج ملتوٍ كان على السائق أن يُنزل الركاب للاستمتاع بجولتهم الأولى وفق البرنامج المُعد، وفي منعطف ضيق بالكاد يصلح لسيارة صغيرة قام سائق الحافلة بمغامرة الموت؛ طارت روحي خوفًا إثر المغامرة الخطيرة التي عمد عليها السائق وهو يهّم بالعودة بالحافلة للخلف بين الجبال وقد تدلت الأشجار الكثة في الأسفل وبات الجرف على شفا الاقتراب وكان أشبه بالفالق العظيم- أخذ منه الوقت قرابة الدقيقة لكي يوازن الحافلة وكانت دقيقة عصية عليّ؛ بل كانت دقيقة أشبه بالسنين التي عشتها طيلة عمري السابق وأنا في حالة رخاء، تناهي إلى مسامعي أبواق السيارات؛ تواريت خلف أفكاري أليس الموت مخيف- فكرة الموت بمجرد الحديث عنها تشعركَ بانقباض الروح والضمور؛ نعم، نحن نؤمن بالموت كما نؤمن بالحياة؛ لكن أن تكون أنتَ الضيف القريب شيء يدعو للخوف، تدارك السائق تلك الشدة وبخبرة فائقة استدار وأعاد الحافلة إلى وضعها الطبيعي- لم يشعر من يركب في الصفوف الأمامية في الحافلة بذات الشعور الذي شعرت به أنا في الخلف؛ لأنهم باختصار كانوا بعيدين عن حافة الخطر؛ زال ذلك الشعور الهلامي المخيف فجأة وكأن شيئًا لم يحدث- تبدد شعور الريبة والقلق بانتهاء تلك التجربة التي ساقها إليك القدر، كم هي غريبة تلكَ الأقدار التي لا تعلم سرّها وخفاياها؛ شعورٌ يفيض بالحياة تملكني في تلك الزاوية الجميلة حينما تلقفتنا ساحة دائرية بها مناظير تُقرب جمال أوزنجول الطاغي؛ يا لسخرية القدر- قلتها في سرَي كاظمًا حالة شعورية تكورت في مخيلتي وأنا أتجول حاملًا في يدي جهاز الـ "أوزمو" موبايل المانع للاهتزاز التابع لشركة dji، متأبطًا مسندًا يسعفني لتوثيق بعض اللقطات لأوزنجول من هذه الزاوية في هذه الساحة- ما الداعي لهذه المناظير؟ سؤالٌ تملكني في حينها، نعم؛ ما الداعي لهذه المناظير وأنتَ محاط بهذا الجمال؛ الأشجار الوارفة الظلال تحفك من كل مكان، الاخضرار الواضح على أوراق الأشجار المشبعة بمياه البحيرة، تصاميم البيوت والمحال التجارية تختلف مليًا عنها في بلداننا، كنت ومعي أصدقاء السفر نهيم في نواصي هذه القرية الحالمة، نقرأ الوجوه المتفرسة في الجمال وكأنها تستنطق هذه اللوحة البانورامية الوجودية، البجع منظره جميل في البحيرة ما رأيك يا يحيى؟ كلمة دُلقت من لسان مؤمن وهو يتابع خطواتنا منبهًا عن موعد اللقاء فأمامنا طريق طويل؛ أي لا تتأخروا عن موعد العودة- نعم طريق العودة من أوزنجول إلى طرابزون تقديره يقع على عاتق مؤمن كونه المرشد السياحي، ما رأيك في مشهد البجع في البحيرة قلت له حدثنا عن المكان قليلًا، قال: هذه البحيرة تعود إلى أزمنة بعيدة وقد تشكلت نتيجة انهيار أرضي حول مجرى النهر إلى سد طبيعي في وادي "هالديزين" أما أوزنجول تعني البحيرة الطويلة قالها وأنا أتفرس البحيرة الممتدة وأصوات الرفاق تومئ إيجابًا لحديث مؤمن، يأتي الناس لهذه القرية بعيدًا عن صخب المدن وضوضائها وازدحامها منهم من يقيم فيها ليلة أو ليلتين في الفنادق أو الأكواخ المتوفرة ومنهم على شاكلتنا قدِم إليها عابرًا؛ كالطير الحالم بالحرية الذي أطاح بقشة حملها في منقاره في نهرٍ جارٍ لن يعود إليها مرة أخرى.
أرهفنا السمع إلى مؤمن وهو يحدثنا عن الشلالات التي تنساب من الأعالي- كنتُ كمن يدلق حرفًا في بركة أبدية حينما نظرت إلى السياح وهو يلوحون بأياديهم للجبال الموشحة بالاخضرار وندف الثلج يسكن قممها مثل لحية شاب تجاوز الأربعين من العمر جمعت بين لونين بينما هنا يتجلى اللون الأخضر- أشعر بشيء يشبه الموسيقى المكتومة تخرج من أحد المقاهي أمامنا بينما مؤمن يسترسل في حديثه عن أوزنجول باستفاضة فحديثه لا يُمل وكأن الطبيعة التي يتحدث عنها تؤكد ما يقول- انطلقت صيحة خفيفة من أحد الأصدقاء تكتم ذلك الذهول بعد أن فارقنا مؤمن ونحن نحث الخطى مشيًا على الأقدام؛ بين جنبات المحال التجارية وما أكثرها وعلى قارعة طريق مفضية إلى جسر صغير يطل على مسجد أوزنجول كنا نتساءل كيف استطاع أهالي هذه القرية التكيف مع أفواج السياح الذين يتقاطرون عليها من كل فج سواء في فصل الصيف أو الربيع أو الشتاء وله عشاقه وكم من الأصدقاء الذين لا يروق لهم شد الرحال إلا في الشتاء مستأنسين برؤية البياض الذي يغطي الأرض والجبال، حينها صدح صوت الحق الأذان "الله أكبر، الله أكبر فورًا هرعنا جميعًا إلى المسجد لأداء صلاتي الظهر والعصر وكان الوقت يداهمنا فأمامنا الغداء واحتساء القهوة ومن يفوت القهوة وقليل من الكعك اللذيذ والبقلاوة أو الحلقوم مع التأمل في هذا التكوين الطبيعي الرباني- نصيخ السمع إلى مؤمن وهو ينادينا من بعيد وقد توارينا خلف أحد المحال فأمامنا الجولة الختامية وفيها توثيق للساحة الفسيحة الأرجاء التي تحمل اسم أوزنجول باللغة الإنجليزية وهنا ثمة حكايات يحكيها العشاق والهائمين وراء قضبان الحب مع خلّانهم- شعرنا بالبرد الشديد وكانت الهواتف تفلت من أيادينا من شدة البرد؛ مؤمن وتنبيهاته؛ جمال الطبيعة التي لا نريد تجاهلها؛ الوقت الذي لا نشعر به؛ قدوم الغروب الذي يطوي صفحات النهارات، العودة إلى طرابزون، التفكير الجدي للعودة إلى أوزنجول مجددًا في السنوات المقبلة؛ لكن هذه المرة للإقامة بها أيام وليال.
المرشد السياحي الشاب اللطيف مؤمن العراقي يشرح لركاب الحافلة قواعد الرحلة
ممر يفضي إلى جامع أوزنجول
الزميل اللطيف سيف الشبلي
المرشد السياحي مؤمن
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام