مع الشاب بينار أحاديث عن ميدان تقسيم وشارع الاستقلال

مشاهدات ومعايشات في تركيا- اسطنبول
يحيى المعشري
ديسمبر شهر الشتاء كلمة عابرة خرجت من فاه زميلي وهو يدّس كمه في وجهه؛ معبرًا عن شدّة البرد؛ فشتاء اسطنبول الصباحي هذا اليوم كان شديدًا على جسده على غير العادة، ثمة تقلب في الأجواء هذه الأيام يا يحيى كان يتمتم بهذه العبارات وبالكاد يفتح فاه؛ فأسنانه البيضاء بدأت تصرف أثر البرد القارس وفي ذلك الوقت كان موعد تنقلنا من منطقة سلطان أحمد كما كانت الخطة المرسومة على أن نعود إلى الفندق في المساء؛ يتخلل اليوم على امتداده تحركات غالبًا ما تكون منتظمة تارة وعشوائية في بعض الوقت؛ فالمنتظمة هي الزيارات التي وضعناها في أجندة هذا اليوم وهو زيارة البازار الكبير "جراند بازار" في منطقة بيازيد يعقبها زيارة منطقة تقسيم وشارع الاستقلال؛ لقضاء جزء كبير من يومنا هناك باحتساء القهوة وأكل الكعك اللذيذ وبعض الحلويات التي تشتهرُ بها تركيا مثل الحلقوم والبقلاوة التي كانت رفيقنا في تجوالنا عند الحاجة؛ عدا ذلكَ زياراتنا تبدو مفككة وعشوائية وفق انتقاءات مبنية على المزاجية.
كان يومًا باردًا لكنه لطيفًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى وبعد أن أنهينا زيارتنا الخاطفة للبازار الكبير وفيه قضينا سويعات صباحية وقفنا فيه مشدوهين من فرط إعجابنا بما يحوي بداخله من تحف وخزفيات وتصاميم بديعة، إنها الحضارة العثمانية المختصرة في الأسواق، بعدها قررنا أن نستقل ترام محطة "كاباتاش" للوصول إلى منطقة ميدان تقسيم- استبدلنا الترام بالميترو للوصول إلى تقسيم وفي أول خطوة صعود للدرج العلوي تبددت كل الأصفاد وأصوات الميترو إلى صوت البشر وهم يلتفون على ساحة الحمام في مشهدٍ بات مألوف لدينا؛ فالساحات عندنا في العاصمة مسقط كثيرة لكنها خالية من الفعاليات والأنشطة، خالية من الروح التي تُشعركَ بحيوية المكان عدا أنها محاطة بالحمام وبعض الإحسان من الخيرين الذين ينثرون الحبوب لإطعامها ويملأون القناني بالمياه لسقيها- غابت شمس الظهيرة الخجلى ومع إطلالة نور المطر وعصيرة مقبلة ملبدة بالغيوم، بدأ ميدان تقسيم يفرش جناحيه للناس وهناك يمكنك أن تستشرف أهمية الميادين وحضورها في الدول؛ ففيها يلتف الناس من مختلف مشارب الأرض وعلى هذا الميدان يأتون من كلِ فجٍ عميق وقد اختلفوا في أسلوب مجيئهم؛ منهم من ألقته سفينة عابرة لفترة زمنية مودعًا أهله وخلانه؛ كاسرًا فيها القوانين "قوانين الإقامة" إلى حين أن يركب البحر إلى وجهته التي يجد فيها مستقبله وآخرين على شاكلتنا أرادوا أن يسجلوا حضورًا يُطبع في ذاكرتهم، حضورًا يؤرشفونه في سجلاتهم اليومية تحت عنوان"مشاهدات ومعايشات"-.
عبثًا نحاول إقناع ذواتنا أننا بين البشر هنا في رحلة عابرة نومض بعدساتنا الأماكن الشهيرة قبل أن نختار أحد المقاهي المطلة وكان من أهم شروطي أن نجلس على طاولة مطلة؛ لأن ساعاتنا القادمة سنقضيها في هذا المكان وكان من الأجدى أن نجد المكان الذي لا يُشعرنا بالملل- وقع خيارنا على أحد المقاهي القريبة من مقهى ستار بوكس في ميدان تقسيم وفي المقهى الموارب طاولة يقعد عليها شاب أربعيني يدعى "بينار" تبدو عليه أمارات السحنات العربية، أبيض الوجه حليق الرأس ذا لحية كثة، عريض المنكبين، بشوش الوجه، أومأت لزميلي قد يكون من بلاد الشام أو من المشرق العربي؛ لا يهم المهم أننا نتشارك في الإنسانية وما هذه الأرض إلا وعاء نملأه إما بالخير أو الشر وكلًا يختار ما يريد في هذه الحياة- كنت غارقًا مع هاتفي النقال أتنقل بين عوالم العالم الافتراضي- قاطع الشباب "بينار" زميلي دون أن يبدأوا حوارات التعارف وأحاديث السلام قائلًا: إن شهرة شارع الاستقلال هذا وميدان تقسيم عمّت أنحاء تركيا وتخطتها إلى أقطار العالم؛ فهو مليء بالحسناوات القادمات من أنحاء العالم، حديث ودي بينهم كنت أسترق السمع قبل أن أبادر بالتعقيب وماذا عن الفنادق والملاهي والنوادي- ففهي هذا الشارع تجد ما لا تجده في أعظم وأكبر شوارع عواصم العالم، يوجد أيضًا المجرمين ورجال الأعمال والمدانين في قضايا فساد وغسيل أموال كما يوجد الشرفاء والبسطاء الذين يعملون من أجل توفير حياة كريمة لهم وأسرهم- هذا الشارع كأي الشوارع والميادين في عواصم العالم مليء بالأسرار، ثمة أسرار لا يمكنك الكشف عنها وإن كنت عرافًا أو عالمًا في علم "لغة الجسد"، تحرك زميلي من مكانه وجلست مكاني "كالناسك" لا أريد النهوض من الكرسي؛ ألوح بكفي إلى هذا وذاك، بين الفينة والأخرى أتلمظ قهوتي على مهل وكنت أردد في سري قصيدة درويش "القهوة أخت الوقت، القهوة لا تشرب على عجل... هذه القصيدة تبيح لي البقاء هنا ساعات وساعات دون تذمر أو تبرم.

واصلنا الحديث عن شارع الاستقلال الفسيح الأرجاء وبدأ "بينار" يتفنن في الحديث عن تاريخ الشارع وقد بدأنا نزيد من حِدّة الإنصات وأردف يقول: يبلغ طول شارع الاستقلال طولًا (1,4) كم وهذا الذي عرفته في أول يوم لي هنا في تركيا، كانت صورة الجموع البشرية لا زالت عالقة في مخيلتي حيث أنني لم أطوي صفحة الزيارات المتكررة للشارع كلما حانت الفرصة؛ كنّا نعمد على التصوير المرئي ولا نعلم المسافة التي سفحناها ولم نُعر المدة الزمنية التي قضيناها بين المسالك والممرات؛ كل شيء هنا ينسيك المسافة والتعب، هل لتلاقح الأرواح وهي تزحف حبوًا دورًا في إشعال هذا النسيان أم للأصوات التي تتعالى دور في تحريك سكنات الماشين أم للرائحة المنبعثة من مواقد عربات باعة الكستناء المنتشرة في كلِ مكان في أرجاء تركيا كما أن لـوجودهم في شارع الاستقلال وميدان تقسيم نكهة خاصة، قاطعنا الشاب "بينار" مردفًا قوله: أتدرون أن الزيارات اليومية لشارع الاستقلال هذا لا تقل عن ثلاثة ملايين ممن ألقتهم الظروف في هذا الشارع، وجاء اسم الشارع في هذا الجانب الأوروبي في اسطنبول بعد حرب الاستقلال التركية التي تعود إلى عام 1923 للميلاد، سحابة أفكاري بدأت تذوي وطفت في سماء القاهرة وهي تستقبل الأفواج البشرية يوميًا قادمين من المحافظات إضافة إلى عشاق أم الدنيا عامة والقاهرة على وجه الخصوص وقلت على عجلة ألهذا السبب هذا الشارع؛ أي شارع ميدان تقسيم اكتسب شهرته العالمية أم أنّ لنشاطه الحالي أثر في ذلك- كنت حريصًا قدر الإمكان عند أي زيارة لأي مكان وفي أي قطر في العالم أن أحصل ولو على النذر اليسير من المعلومات ولأن زيارتي لتركيا أتت على وجه السرعة وفي الوقت الذي بات يموج العالم فيه تحت رحمة الفايروس التاجي "كورونا"، قليل من المعلومات التي أجدها في المدونات المرئية قد تكون كافية قبل أن أشرع بالكتابة عنه وعن أي مكان أزوره؛ إضافة إلى الإجراءات الوقائية التي كان علينا القيام بها عند الدخول إلى أي مكان، أفسدت قليل من الخطط التي عزمنا القيام بها لكنها لم تفسد قيمة التأمل في الأمكنة؛ نوثق أهم اللحظات التي نراها مهمة في حينه ونستذكر اللحظات التي تتوالى أثناء سيلان مداد الحبر مفرغًا ما تحمله الذاكرة من مشاهدات يومية أراها من الأهمية بمكان أن تذكر في سيرة مذكرات يومية، شمس تخترق السحابة الحبلى وسط الميدان وشارع الاستقلال تتوارى خلف نصب الجمهورية التركية المنتصب أمامنا، قال "بينار" هذا النصب افتتح في عام 1928 للميلاد احتفالًا بالذكرى الخامسة لتأسيس جمهورية تركيا بعد حرب الاستقلال. 
كان "بينار" يحدثنا عن تاريخ شارع الاستقلال ومكانته التاريخية أخذ يسرد باستطراد بينما كنت أسترق النظر إلى العمارة العثمانية العظيمة في كل زاوية من الرحاب التركية وفيها دعوة للتأمل والإبهار- تختلف زاوية الرؤية عند كل شخص يقضي سويعات في أحد المقاهي هنا في منطقة تقسيم كما تختلف ظروف البشر وأنماطهم والسعيد الذي ينعم بلحظات تأمل رفقة رشفة قهوة مطلة على ميدان تقسيم وشارع الاستقلال. فالزوار لا زالوا يتوافدون من كل وزن ولون وشكل ها هو الثري صاحب سيارة البنتلي الفارهة يناظر من هنا وهناك، يأمر السائق بأن يقود على مهل، يرتدي الياقة البيضاء الأنيقة طبع بها أغلى الماركات العالمية التي ابتاعها من شارع الاستقلال- قد يكون أحد أثرياء اسطنبول من الذين يملكون العقارات والفنادق أو من الذين يعملون في التجارة وقد يكون أحد المتاجرين في البورصة- هكذا تبدو الأوضاع في هذا الفناء يا يحيى قال "بينار": وهو يحدثني الكثير من العرب يجلسون في هذه المقاهي ويفضلون اختيار مقاهي الإطلالة التي تتيح لهم المجال لرؤية المارة- يمتعون بصرهم بالمتجولات الحسناوات على الأرصفة، يصيخون السمع للعازفين والعازفات الذين اختاروا من ميدان تقسيم وشارع الاستقلال مكانًا لإبراز مواهبهم وقد ينقدهم أحد المارة أو يتبناهم أحد الأثرياء المولعين بالفن، كما يوجد بالقرب منهم أحد البسطاء، يمضغ العلكة فضّل الجلوس بالقرب من الثري، يدخن بشراهة، متبرم، يلعن الحياة وقد يصرخ بأعلى صوته فجأة بلا إرادة- كما يمكنك أن ترى هنا طالب وطالبة فارين من الجامعة القريبة، يوشوشان ويتناجيان وعلى جانبهم ممثلة هندية جالسة مقابل شاب تركي وسيم؛ لربما يخططان لإتمام مشهد متلفز يُعرض في دور السينما مادة فلمية كما يوجد الرياضي الذي ابتاع أدواته الرياضية من محال الماركات العالمية، كانت مشاهد تفيض بالحياة كما كان يدلق "بينار" على مسامعنا شيء مما تفيض به هذه المنطقة قبل أن يمر ترام الاستقلال التاريخي الذي يعود تاريخه إلى عام 1883 وتتعالى صيحات الركاب وهو يجوب بهم من ميدان تقسيم عبر شارع الاستقلال مقابل مبلغ زهيد ومن خلاله تستطيع مشاهدة السياح والمطاعم والمقاهي المنتشرة في الأرجاء.
                 من ميدان تقسيم 
برفقة زميل السفر سيف الشبلي
شارع الاستقلال 
التجمع حول الترام القديم 
الكستناء اللذيذة المنتشرة في تركيا 

هنا كنا نجلس في ميدان تقسيم عبر شارع الاستقلال ومعنا الشاب بينار 

تعليقات

  1. أبحث عن قارئة الفنجان بين زوايا وزقاق الاستانه،
    اسطنبول من أجمل المدن التي حرصت على زيارتها مرات ومرات، اتمنى لكم نزهة طيبه

    ردحذف
    الردود
    1. نعم؛ كلنا نحمل بداخلنا من يقرأ الفنجان أو يحاول قراءته على أقل تقدير؛ نعبث باللحظات الجميلة في أسطنبول الأنيقة؛ لقد مررنا عليها مرور الكرام فأخذتنا العزة ومررتم أنتم مرات ومرات فكنتم ملح التطواف وروعة الحضور؛ سعيد بهذا المرور الأنيق

      حذف

إرسال تعليق

مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر