علي ألقان التركي على جنبات شارع أوزون سوكاك


يحيى المعشري 
من الأماكن الحيوية وغالبًا ما كنّا نتردد عليها بين الفينةِ والأخرى وفي الأوقات التي تنصرف عن البرامج السياحية المجدولة في الخطة التي نضعها هناك في طرابزون تلك المقاطعة التركية الضاربة في القدم والتي تناسب طريقتنا في التنقل وما بين شارع أتاتورك والمعروف لدى الأهالي باسم الميدان وهو ميدان طرابزون وفيه تصطفُ المقاهي والماركات العالمية والمحال التجارية التركية والعالمية وفيه تشاهد الحِراك البشري ينشط وفيه تنسدل أجساد الباعة المتجولين على عرباتهم بين جنبات الطريق؛ يصدح أصحابها بصيحات أشبه بالاستجداء الحميم بغية استمالة الشرّاء وعلى امتداد الميدان نخرج على شارع آخر يُفضي إلى حيث تتلاقى فيه مفترقات الطرق على مدن شعبية وهي الأماكن التي أفضلّها في الدول التي تشتهر بالحضارة والعمران، ندخل سوق ونخرج منه فإذا بسوقٍ آخر يتلقفنا في أجواءٍ نوفمبرية باردة فترتسم الدهشة على وجوهنا من طريقة عرض الباعة لبضائعهم وانحدار الشوارع وصلابة الجسور على الرغم من أنها ليست كبيرة في مساحتها؛ لكنها تمتاز بطابع معماري يشدّ الأنظار ويلفت الانتباه؛ لا تستطيع إلا أن تمعن النظر في الممرات والطرقات، ونحن نتجول ونحث الخطى هنيئة لاح لنا مشهد آخر لشارع يبدو عليه الطابع التقليدي من خلال الأبنية القديمة جدًا ألا وهو السوق الطويل المعروف باسم "أوزون سوكاك" وهو سوقٌ شعبي يضم العديد من المحال والتجارية والمتاجر التي تبيع الملابس والاكسسوارات والأحذية وهذا السوق كأي الميادين ملتقى الذين لا تشاهدهم في الجولات السياحية في الشمال التركي؛ فمن تعرفهم سلفًا أو تعرفت عليهم في جولاتك الداخلية سواء في أوزونجول أو ريزا وأيدر وغيرِها من الأرياف الجميلة، نعم في الميدان ولأهمية الميادين كنّا نلتقي بمن شاهدناهم صدفة في رحلةٍ عابرة أو تشاركنا في رأي في الباص السياحي أو أثناء النزول إلى المواقع السياحية المجدولة؛ نمرق بنظرات أشخاصٍ عابرين في الحياة في الأطراف من الشمال التركي وعندما نعود إلى الميدان تكبر النظرات إلى حديثٍ عابر وتتعمق أكثر فأكثر ونتبادل أطراف الحديث ويصلُ بنا الحديث إلى تبادل الأرقام أو تبادل الحسابات الشخصية على منصات التواصل-   وإذا بدأت المعدة تستجدي جيوبنا علينا أن نمرق المقاهي المنتشرة على جنبات هذا الشارع أو الاكتفاء بشراء فاكهة الكستناء الساخنة اللذيذة وبين العديد من الخيارات وقع الاختيار على أحد المطاعم القريبة وما أكثرها، فرمانات المعدة عند الرفاق بدأت تصدر حالات الطوارئ وبينما نهّم بالعودة من رحلة أوزونجول ذلك الريف الجميل، حيث الصفاء والنقاء، هناك حيث تشع الطبيعة في تجلياتها، وبعد أن فرغنا من تبديل ملابسنا والاستحمام وإلقاء أجسادنا هنيئة من الزمن لتجديد النشاط- يبدو أن الميدان أكثر ما يلائم الرفاق؛ ففيه المطاعم والمكاتب السياحية وفيه باعة الحلويات والقهوة؛ فشخصنا نبحث عن مطعم يُعد أشهى المأكولات التركية وقد بدأنا نتضور جوعًا؛ لا نقوَ على الحركة؛ قال أحد الرفاق؛ علينا أن نبحث عن ما يسد رمقنا وينسينا طول الرحلة وليس هذا ما أتعبنا فحسب؛ فالأجواء الباردة عادةً ما تُشعرك بالجوع وتقوي نهمك في الطعام وكان خيارنا استبدال مطاعم المعجنات بمطاعم المشاوي- لذنا إلى شارع أوزون سوكاك نحثُ الخطى فإذا بأحد المطاعم يُطلق مندوبيه "الندّل"؛ لاجتذاب المارة وقد وقعنا في حبال أحدهم فلم ترق لنا قائمة الطعام بعد جلوسنا من أول وهلة؛ فقد بدت لا تلبي رغباتنا ولم تروق لذائقتنا فانصرفنا وولينا ظهورنا بعد أن تركنا كراسيهم إلى المطعم المجاور وإذا بأعداد كبيرة من الزبائن رمقناهم من الزجاج الخارجي وقد زاد من رغبتنا في الجلوس بساطة المطعم ورحابة القائمين عليه وقد كنا حريصين على تخير المطعم المزدحم يقينًا منا لو لم يكن مزدحمًا لما كان جيدًا وهذا ما حصل بالفعل أخذنا طاولة بها أربعة كراسي بينما عددنا ثلاثة وضعنا في الكرسي الفارغ بعض الأمتعة التي كانت في حوزتنا وإذا بأحد الأتراك اسمه "علي ألقان" ويبدو ضخم الجسم أبيض البشرة عريض المنكبين ذا صوتٍ حاد، تبدو عليه أمارات البشاشة، يرتدي السترة البيضاء أشبه بسترات الكادر الطبي، فقد بدأ يلقي النكات الواحدة تلو الأخرى على الزبائن وكان نصيبنا منه أهلاً وسهلًا بأبناء عُمان الغالية؛ هلا وغلا بالعمانيين وبعض التمتمات العامية من الدارج المحلي التي يحفظها أثناء إقامته في عُمان وسيل من الترحيبات التي يغدقها على مسامعنا- بادلناه بابتسامة عارمة وطفق يحدثنا عن بلادنا وقد مكث بها فترة زمنية لا بأس؛ كنت أعمل في العامرات- قال علي: وهي مدينة تقع في العاصمة مسقط وأخذ يسهب في الحديث ويدلق على مسامعنا أغنيات عُمانية وكلمات من الدارج المحلي بقصد إضفاء روح الدعابة والألفة وكسر حاجز الغربة وكان يلمح أنه يعرفني بالأخص- لم أعره اهتمام في بادئ الأمر؛ قلت في سري إنها حركة مساومة هدفها كسبنا زبائن دائمين فترة إقامتنا قبل أن يقول: هل تعرف أحمد؟ هل تعرف أحمد من القبيلة الفلانية؟ وأخذ يصف ملامحه وهنا اتضح جليًا أنه يعرفني حقًا وأضاف أعرفه وأعرف إخوته وجعل يعدهم وطاف يحدثنا عن أماكن عملهم وأماكن سكناهم حينها تبدد الخوف من المساومة وتلطفت الأجواء بيننا وانتهينا بطبق مشاوي متعدد الأصناف يملأ طاولتنا بألذ وأشهى الأطعمة التركية بسعرٍ تم الاتفاق عليه سلفًا وهذا دفعنا لزيارة علي مرات ومرات- ثمة هناك قبس من نور ينير الظلام الدامس المدلهم في الغربة التي ترخي على أجسادنا الكثير من المحاذير في التعامل أثناء السفر، على الوجوم الذي تكفهر منه بعض الوجوه وتقطب حاجبيها وهي تحدق في وجوه من تعترضهم في السفر- هي ذاتها تبعث فينا أهمية الحيطة في التعاطي مع الغرباء الذين يعترضوننا في الغربة ويبقى قليل من الحذر مع قليل من الرحابة في التعامل ذا أهمية كبيرة تفضي إلى الارتياح كما كان "علي ألقان" الذي أفاض علينا بلحظات إعجاب جميلة في هذه الحياة تسجل شهادة وسام في خدر الأيام ونحن نطوف ممرات طرابزون بتؤدة وتمعن.


صورة تجمعني ب علي ألقان التركي في طرابزون 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر