المقصورة الخلفية؛ قطار سيدي جابر- الإسكندرية
5 أكتوبر 2021
مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا
عندما صعدت قطار الإسكندرية متجهًا إلى محطة رمسيس في القاهرة رفقة عدد من زملاء العمل؛ كُنا أربعة أشخاص تأخذنا الحماسة لرؤية ما تمتلكه أم الدنيا من جمال في كافة تفاصيلها؛ رفقاء عمل لأول مرة نتشارك في رحلة سفر، وعلى كثرة الأحداث اليومية التي كنتُ أرمقها في أول زيارة لي في العام 2009 كان الشعور غريبًا عن زيارتي اللاحقة؛ لربما هي دهشة البدايات التي سكنتني في ذلك الوقت؛ فمصر عرفناها صغارًا من خلال التلفاز والسينما ومن خلال الممثلين والكتّاب والشعراء المخضرمين الذي سكنوا معنا في بيوتنا في الخليج وكذلك من خلال المسرحيات الخالدة التي لا زالت جزءًا من ذاكرتنا؛ محفورة في تفاصيل طفولتنا وكان الأثر البادئ علينا في عُمان والخليج من خلال الأسماء المصرية التي دخلت البيت الخليجي كما هو الحال لبعض العادات والتصرفات والأكلات والوجود المصري بيننا عن طريق المدرسين والمدرسات وغيرها من أعمال نتشارك بها معًا فالمشترك هذا له تأثير كما كان لنا تأثير على بعض الدول التي أقام بها العُمانيون، بات تطوافنا اليومي يعتمد على المجهود البدني والتشارك مع الشعب المصري في وسائل التنقل اليومية من الباصات والقطارات والأتوبيسات وباص مشروع والحنطور وغيرها من وسائل النقل التي تشتهر بها المحروسة، وبعد أن قضينا وقتًا من الزمن في الإسكندرية حان وقت حزم الأمتعة لزيارة القاهرة؛ حيث حجزنا على أسرع قطار وكان من القطارات القليلة الثمن؛ بسبب ضيق فترة الحجز حينذاك وفي محطة سيدي جابر دلفنا القطار بابتسامة عارمة وكان محصل القطار الذي يأخذ أجرة ركوب القطار من الراكبين ومن يقوم بقطع التذاكر للركاب ويسمى "بالكامسري" أو كمساري، كنّا منتصبي القامة نعلق أيادينا على أنبوبٍ حديدي يخترق القطار به حزام يتدلى من الأعلى وعلى مقربة من بعضنا البعض، نقبض عليه بقوة كما يقبض الهارب من الموت على روحه، بدأتُ أحدق إلى الكابينة الخلفية في القطار؛ فإذا بشبابٍ يركبون المقصورة الخلفية؛ ضامين أياديهم بقوة وكأنهم يمسكون تفاحة في صحراء، أنستهم الحياة وأبقتهم جائعين لا يريدون إلا أن يقضموا التفاحة وإذا بآخرين خرجوا من بين أنقاض الحديد ليصعدوا في الخلف معلقين لا يملكون أجرة صعود القطار وكانت الأجرة بمقاييسنا بثمن بخس جنيهات معدودة، لربما هم على مقاعد الدراسة أو باحثين عن عمل أو فارين من الأرياف إلى القاهرة؛ هناك حيث يجدون العمل المناسب، أتمعن وقلبي يشعر بالخفقان وزادت وتيرة تسارع دقات قلبي وجلًا من المصير المجهول؛ فهم على شفا السقوط حال توقف القطار على وجه السرعة أو مر على منعطف فجأة ارتجت خلاله المقصورة الخلفية- أرخيتُ كلتا يداي وطلبت من رفقائي خاطر وناصر وصالح وهو المتعهد بأن يكون قائد هذه الرحلة وقبل أن أنبس ببنت شفة ما الذي يمكننا فعله لمساعدتهم أو الطلب من الكامسري السماح لهم الجلوس بجوارنا؛ ليس بمقدورنا فعل شيء، قال صالح: ما علينا فعله أن نسلم للأمر الواقع، توقف القطار عند أحد الأرياف وإذا بآخرين ينسلون من خلف القضبان الحديدية في المقصورة؛ يركلون الفقر والفاقة خلف ظهورهم فأي حماقات العالم التي تجعلكَ معلقًا أو ترمي بأقدارِكَ على حافة الموت؛ فأي خطأ وهم معلقين يستقبلهم الموت إما تحت حدائد القطار أو بين مزارع الفلاحين "الغيط"؛ الحياة ليست كما تتصورها تسير وفق صيرورة وضعناها في مخطط كما نخطط لرحلة نعبر السماء ونحلق فوق أجواء الدول، نقطع خلالها الحدود- الحياة في محيطنا المحلي يختلف تمام الاختلاف عن الحياة في بقاع الأرض الأخرى- لماذا نسافر إذن أليس من أجل التعرف على تجاربهم ومعيشتهم- وضعنا قالب الأمل في خيط الرحمة عند رؤيتنا أحوال الشعوب- همهمة استنكار أو تعجب وأحاديث تترنح في عقلي وقف "الكامسري" بجوارنا وأطال الصمت، مشى عدة خطوات مرتبكة بين المقصورة والمقصورة، استقر أخيرًا قبالتي، رمقته خلسة، أرخيت يدي المتشبثة في الحديد وهي تتصبب عرقًا، استحيت من المشهد اللاإرادي باغته بسؤال "هو سعر التذكرة بكام يا باشا"؟ ضحك وأجال نظره بين المقصورة قبل أن يدوس صالح على قدمي منهيًا حديثي مع الكامسري، اتركهم لحالهم وسأخبركَ بكلِ شيء لاحقًا- أخذ شريط أفكاري يمرُ سريعًا، أبحثُ عن القطار التوربيني المنسوب إلى الشخصيات الناجحة في مصر، كالفنانين والشعراء والأدباء ورجال الأعمال كيف لا ومصر تعتبر ثاني أقدم سكة حديد في العالم بعد بريطانيا العظمى وبها أول خطوط سكك حديدية في أفريقيا والعالم العربي وبعد تلكَ الأحاديث الغريبة التي لم أرها في حياتي على أرض الواقع كما رأيتها في قطارات مصر آنذاك، أخذت موقعًا للجلوس بعد أن نزل عددًا من الركاب في أحد الأرياف فإذا بأحد العسكريين يجلس بجواري يعتمر في رأسه قبعة أشبه بلون التراب إذَا أخيرًا وجدت أحد رجال الأمن أستطيع التحدث معه عن المعلقين في المقصورة الخلفية فالبزة العسكرية في مصر تجدها في أي مكان؛ على عكس ما نراه في بلداننا؛ إذ من النادر أن تجد العسكري يتجول في الشوارع والباصات أو يقطع الطريق بغية الوصول إلى مبتغاه وهو يرتدي البزة العسكرية، دار بيننا حديثٍ عابر وكنت المبادر حينما أردت الحصول عن إجابة على تساؤلاتي فيما يتعلق بالشباب المعلقين وكيف يُسمح لهم ركوب القطار بهذه الطريقة الخطرة ولماذا لا يكون هنالك مبدأ أمان "معرفش يا باشا" كانت إجابته المقتضبة حينها وبعد سنوات طويلة زرت مصر مرة أخرى، وقد تغيرت الكثير من الأوضاع وأهمها المعلقين في المقصورة الخلفية وكأني أقرأ الوجوه المعلقة الآن وهي تمارس حياتها دون خوف أو وجل.
يحيى المعشري
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام