ساعة في مقهى كوكس بلندرس بالخوير؛ أتفرس الجالسون

يحيى المعشري 
@ysk243 
في عصيرة عتمتها أجواء رطبة، أجواء مسقطية شديدة الحرارة وأقل ما يمكن القول عنها شديدة الحرارة هذه الأيام، اخترت أن ألوذ إلى ركن من أركان أحد مقاهي الخويــر وهو "كوكس بلندرس" الواقع في الوسط والمفضية واجهته على عدة ممرات، الناس في هذا المقهى يحبذون البقاء لساعات طويلة لسببين؛ أحدهما اطلالته على المارة والسبب الآخر وهو الأهم أسعاره التنافسية فالقهوة لديهم باختلاف الذائقة تجدها متوفرة بأصنافٍ مختلفة وهي أقل بكثير عن سعر القهوة في المقاهي العالمية والمحلية على السواء، في هذا المكان أنتَ محاط بأصدقاء لا تعرفهم أو أصدقاء لمحتهم خلسة ذات يوم ولا يوجد بينكم ولو حديثٍ عابر، قد لا تعرفهم لكن الظروف الآن مواتية عند أحدهم لأن يفتح معك حوار عابر أو يدلق على مسامعك كلمة تشدك وتدخل معه في حوارٍ عميق؛ في مواضيع الحياة وقد تبني علاقة إنسانية جديدة بحسب الوضع الاجتماعي لديك وبحسب الجذور الفيسلوجية التي تترجم رغباتك في التواصل مع الآخر وفي هذا المكان تستطيع أنَّ تنأى بنفسك وتصنع لكَ مزاجك التوحدي إن أحببت- السيارات هنا تبدو أكثر من الحركة البشرية على الأقدام وعلى الرغم من حرارة الأجواء في الخارج نحن مدينون للصين وهي التي أخرجت من أرضها كورونا كما يشاع، هي الآن وقبل سنوات تُخرج لنا ما لم نكن نحلم به وأنا في جلستي الآنية في هذا الرواق حيث أنعم بهواءٍ عليل أوجدته الأجهزة الصينية إنها المكيفات الخارجية التي بدأت تكسر صيف مسقط في الخارج، أنظرُ شذرًا إلى أشجار الزينة المتكورة في المقهى وقد ذبلت- الكراسي تلملم أجزاءها المتشظية وقد بَهُت لونها، الجميل في الأمر استمتاع عشاق القهوة باحتساء قهوتهم المفضلة على أنغام طربية أعادتني إلى مقاهي الطرب الشرقي، أُريدها ساخنة اندلقت عبارة سريعة وإيماءة متعجلة قلتها للنادل، هنا وأنا جالس في ردهتي المفضلة أُمعن النظر إلى سحنات من جنسيات مختلفة- أحدقُ في وجوهٍ أرهقتها نهارات مسقط، وجوهٌ أعادت ترتيب أوراقها اليومية باستراحة تختم يومهما، في هذه الأوقات أحرص أنَّ أفوت التمارين ومعي ثلة من الأصدقاء الذين يلازمونني القيام بها؛ فالأجساد بحاجة إلى الرياضة كحاجتها إلى الطعام والشراب واللباس، لمحتُ الباكستاني والهندي والمصري والتونسي والمغربي والعُماني والفلبيني، نعم؛ الفلبيني وهذه الجنسية الوحيدة التي تشاهد رجالها ونساءها يجتمعون على طاولة واحدة دون اعتبارات نركن لها نحن؛ كالعادات والتقاليد وغيرها من المُعيقات التي تمنع وجود العائلات العُمانية بأريحية في مثل هذه الأماكن المفتوحة!
وفجأة يُقبل الغروب فيشعل في المكان الحياة ويَهب الزبائن من كلِ فجٍ وزقاق؛ فتسري الحياة فيهم وكأنهم كومة قش أشعلت فيها النار، بدأت أرمق العابرين ممن نقدوا منافذ البيع والشراء في مكة هايبر ماركت بالخوير، جاءني في الطاولة المواربة شخصان يبدو أنهما من بلاد الشام أحدهم أقرع الرأس، أشيب، يرتدي قميص الصيف والثاني تبدو عليه أمارات الشقاء لا أعلم ما الذي اجتمعا عليه، لكن الذي رسمته فيهم حينها تلك الهيئة وتلك الصورة الانطباعية التي سأعكف على قراءتها تباعًا، كان أحدهم ممددًا رجليه على الكرسي، متكئًا على ذراعيه، يبدو جسمه متشنجًا وكأنه نال قرصة على حين غفلة، أخذ نفسًا عميقًا بعد أن أشعل سيجارته وجعل ينفث الدخان في الهواء، كان ينفث بشراهة، وفي مثل هذه النوعية من المقاهي أي الخارجية منها للأسف على الأغلب يرتادها عشاق التدخين ومن على شاكلتهم ويتفقون على نوع المصلحة بينهم، ثمة المحامي والدكتور والمهندس والطيار والهائم وراء اللحظات الجميلة في مثل هذه الأماكن البسيطة؛ لهذا السبب نحن نرتحل إلى مصر والدول المليئة بالحراك البشري، باحثين عن البساطة والحياة المفتوحة والطربية منها؛ لنعيش الحياة كمسماها حياة بلا انغلاق ولا قيود ولا ممنوعات؛ بعيدًا عن المحرمات والمنزلقات، في هذه المقاهي تجدُ الكثيرين من على شاكلتي؛ الباحثين عن فرصة لقراءة كتاب أو متابعة شبكات التواصل أو المرور على مدونات مرئية وأشياء أخرى يبحث عنها الجالس على أريكة تسلي وحدته، تمعنتُ في الشاب الذي ينفث الدخان بشراهة خلسة، تبادلنا نظرات خاطفة، وقلت في سري ما المتعة التي يحصل عليها وهو يدخن بتلك الشراهة؟ أليست السيجارة كالقهوة أخت الوقت رفيقة المزاج تسحب على مهل، تتغلغل في النفس كما وصفها درويش، وفي الطاولة الأخرى جاءني شابٌ حليق اللحية مفتول العضلات لم يسعى لطلب القهوة كما أفعل عند وصولي لمثل هذه الأماكن بل أشعل سيجارته وأخرج علكة تَسمع صرير أسنانه وهو يمضغها، بدأت الطاولات تمتلئ بالزبائن فآخر بدأ يطقطق أصابعه في صمت ويتنهد ملء صدره ويقول بصوت عال مبحوح "ستعود فلسطين، ستعود فلسطين ستعود القدس حرة أبية سيعود المسجد الأقصى كما كان لنشد إليه الرحال، سيعود أول القبلتين ومسرى النبي" كان قد أتى من مسيرة الصمود في مسقط الخميس المنصرم، هكذا هي المقاهي الخارجية في لحظة زمنية بسيطة لا تحتاج أن تطول، تسرد منها حكايات، هناك سحابة حبلى ربما ستلد مطرًا بعد قليل أو ترهق الماضي في طريقه لمسافات من شدة الرطوبة، ضللت أتفرس الناس لساعة في مقهى كوكس بلندرس"، أقرأ الوجوه العابرة، أتحين الخوض في حديث مقتضب مع أحدهم لعلي أجدُ ما يساعدني للكتابة، لوحت لأحد معارفي فاجأني بوجوده اتسعت عيناه حينما شاهدني رحبت به وتواريت خلف تلك المشاهد إلى أن أعود مجددًا في وقتٍ لاحق- متى؟ وكيف؟ لا أدري!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر