نستولوجيا الرقابة الصحية. سيد أبو العلا عليوة عرّاب الرقابة الصحية"
يحيى المعشري
@ysk243
وكنتُ كمن يدلق حرفًا في بركة الأبدية حينما نظرت إلى سيد أبو العلا عليوة وهو مصري الجنسية أتى إلى عُمان من أرض الصعيد الوجه القبلي ويطلق عليه اسم وادي النيل هكذا بخبرنا ويكيبيديا في محرك البحث عن صعيد سيد الذي وفد إلى عُمان في العقد الثاني من النهضة العُمانية- وهكذا كان سيد حينما فتحت عينيّ على أولى أركان العمل في المديرية العامة للرقابة الصحية قبل أنَّ يضاف إليها ركن الصرف الصحي وفيه أحاول أنَّ أستجمع ما يمكن الكتابة عنه من خلال الحصول على معلومات ذات قيمة مضافة بدءًا من إدارة المهندس هلال السناني رجل الإعلام القادم من المملكة المتحدة بعد رحلة دراسية، وانتهاءً بإدارة المهندس وليد الكثيري وتلاه المهندس أنور الزدجالي والفريق المعاون، كان سيد يعمل في قسم مكافحة نواقل الأمراض بدائرة الصحة الوقائية وهو من أوائل الأقسام التي دخلتُ فيها روحًا وفكرًا وهيامًا ففيه تعرفت على الأخ العزيز زكريا البلوشي والزميل محمد الناعبي وفيه تعرفت على المهندس علي الهنائي الذي اختار العمل في حضن وظيفي آخر وفيه تعرفت على المهندسة لمياء البلوشية وآخرها المبدع المهندس مازن الكلباني، ولا يمكن ذكر هذا القسم بشخوصه وأعماله ودراساته ومسوحاته الميدانية دون الحديث عن المهندس سيد الذي استجاب لنداء ربه قبل سنين وفاضت روحه إلى خالقها وحُملَ على الآلة الحدباء في مسقط رأسه صعيد مصر، هكذا اختار المهندس سيد أنَّ يسلم ملفه الأبيض وروحه الطاهرة، دخلتُ رواق دائرة الصحة الوقائية وفيها ثمة أفواج بشرية تمر مرور الكرام؛ قاصدة المهندس سيد للسلام عليه والذي لو تحدثت عنه قوارض البلديات وحشراتها ومصائدها وسجلاتها لأشبعت حديثًا وذكرًا وكأنما صرير الفئران فريسة أبدية لتجارب المهندس سيد الذي فتح مكتبه لموظفي البلديات ما أنَّ يفرغون من الحديث مع المهندس سعيد درويش العلوي المدير العام إلا ويندلقون تباعًا إلى مكتبه للسلام عليه وأخذ المعلومات المفيدة والجديدة في عالم نواقل الأمراض والمبيدات فالمهندس سيد الذي يُقبل عليه الموظفين والمسؤولين القادمين من أقاصي البلديات لحضور برنامج تدريبي أو ندوة أو مؤتمر أو زيارة أسرية وعابرة هم ذاتهم الذين ما إن يسمعون عن زيارته لهم في بلدانهم إلا ويسعون لتضييفه.
سأستريح قليلًا حتى يعود خليفة الشكيلي سائق المديرية العامة للرقابة الصحية خبير الطرقات من الجبل الأخضر بالتحديد سيح قطنة ومعه سيد، كنتُ بالقرب من مصب فلج الخطمين في نيابة بركة الموز أنهي جولتي التفتيشية العابرة لإحدى المحال التجارية المتعسرة حالتها الإجرائية وكأنه في فترة مخاض- بانتظارهم ينحدرون من الجبل على أنَّ نستكمل جولتنا في أحد السيوح السلطانية بولاية منح، طائرٌ يحلق في الأقاليم- يطرق أبواب البلديات نافذة تلوح في أفق أمانة المسؤولية- تختنق يداي حينما أمسد على قلمي وهو يخط عن المهندس سيد الذي استلم قرار إنهاء خدمته؛ عائدًا إلى مسقط رأسه المحروسة مصر بعد عقود زمنية قضاها في البلديات وحينما أقحمت نفسي في فخ السؤال وأنا أرمقه من مكتبي من أحد أطراف أروقة دائرة الصحة الوقائية قائلًا: أنتَ الآن في عِداد المُقالين المنُهى خدماتهم؛ عليكَ أنَّ ترتاح، قالها عبارة دون تسويف أمانة العمل تُحتم عليّ أداء مهامي الوظيفية حتى آخر دقيقة في كرسي الحكومة- انتشر اسم سيد أبو العلا عليوة في البلديات كالنار في الهشيم- كان سيد شخصية مفعمة بالحياة ذا سعة صدر ومضياف يتحلّى بالسخاء والكرم الصعيدي الأصيل ويتضح ذلك جليًا حينما يستقبل ضيوفه من كافة البلديات ومن مختلف السحنات ولا يعبأ بالمكانة الوظيفية التي يحملها ذلك الموظف صغرت وظيفته أم اعتلت في السلم الوظيفي.
وبعد أنَّ تعبث الظهيرة بأضواء النهار وتنتصف الشمس في كبد السماء يترك سيد أعماله الدنيوية ويهرول إلى المواضئ ويتبعها بصيحة هادرة بل صيحات لطيفة مفعمة بروحانيات ابن النيل على بقية الموظفين كالنهام الذي أفاق من نومه، إنها تمطر حسنات في كف سيد، تلكَ اللحظات وأنا أجلس على عتبة الباب المفضي إلى بساط الصلاة وأقوم بتثاقل على وقع صيحات سيد المتتابعة ليؤم المصلين ويصدح بصوته النيلي مبتهلًا، تلاشت تلكم الصيحات وتكومت في خاطري أماني بدأتُ أسرها في نفسي قائلًا: ليتها كانت سور جهرية ليتلوها علينا سيد، ليتنا نأنس بصوت سيد الجهوري ليشنف آذاننا بصوته الشجي.. غادر سيد المديرية ووصلنا نبأ مغادرته دنيانا بأسف وحشرجة بحجم الألم.
أذرع مقر عملي كل صباح وفي داخلي صراع أبدي أرخيه في جوف الذاكرة، الأمر لا يحتمل قالها محمد الناعبي متسائلًا- أين سيد الذي يملأ الدائرة بالحياة، أين الحِراك الدؤوب في الدائرة- أين سجل المتابعات اليومي- أينَ الكركديه الذي يعده سيد بنفس رجل الصعيد الذي يذوب في دائرة الكرم الحاتمي- أينَ الالتفاتات الجسدية والروحية التي تذرع مكاتبنا بكل أطيافها وقد طُبعَ على وجوهها الفرح؛ فيتحرك كل شيء ساكن- جريت بين المكاتب كالمجنون الذي نسي أفيونه نحو الأمس مستعيدًا نستولوجيا الأيام التي أعلم أنَّها ستمضي كما تمضي الديمة العابرة على أجساد الحالمين بالمطر- رحلَ المهندس سيد أبو العلا عرّاب البلديات دون أن أوثق حضوره في صورة أقرأها بين الفينة والأخرى وبقيت ذكرياته صورة عالقة بين جدران البلديات.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام