نوستالجيا الرقابة الصحية "لقاءات أسبوعية في نهارات العمل" (الحلقة الأولى).


يحيى المعشري
الثلاثاء ٣٠ مارس ٢٠٢١مـ
تويتر @ysk243 
.../////...
من شرفة الذكريات أراجع صفحات هذه النوستاليجا، أستدعي الماضي؛ لا لتقليب المواجع وإعادة شريط الذكريات ولكن لأنتشي معكم بمصاحبة بقايا صور وأمكنة وشخوص عشنا معهم رهطًا من الزمن، نبعثر سوسن الحلم الراقد في الأرواح. وقبل أنَّ أطرق أبواب الرقابة الصحية في البلديات أمعن النظر في وجوه تتدلى من شرفة الفرح؛ بعضها رحلت إلى التقاعد والأخرى تقاسمت معنا الأدوار في مجتمع وظيفي آخر رأت فيه بوابة أخرى لخدمة الوطن، هي الوجوه الفرحة، الوجوه الصامتة، ووجوه أخرى متجهمة لكنها كانت بيننا، لا يمكن أنَّ تغمض عينيك وتحدق للمستقبل دون أنَّ تتعلم من ماضيك وما مر على قصاصات كتابك اليومي؛ أي كان نوعها وظروفها؛ في هذه السطور دعوني أُبحر معكم في عالم الحنين، دعونا نسبــر أغوار الأمس لعلنا نلامس شغاف قلوبنا المليئة بتراكمات السنين. دعونا نتساءل بجنون الصمت ولهفة الدفء وحنين اللقاء بعد فراق.
أشعر بشيء يشبه الموسيقى المكتوبة تخرج من مداد حبري وأنا أنظر إلى مبنى البلديات، أسرح مع خيالاتي إلى اللاشيء؛ إلى الطريق المؤدي إلى مقر عملي، أُدير مقود سيارتي كيفما أشاء، عين على البيت الأبيض وعين على مداخل الرقابة الصحية، كانت صباحات الأحد من كلِ أسبوع تحملُ في طياتها الكثير من الأحداث المتراكمة بعد انقضاء إجازة الأسبوع المعتادة، كان أبا أحمد، سالم المخيني وكعادته أول أو من أوائل الحاضرين إلى العمل في الرقابة الصحية؛ وربما إلى مبنى الوزارة رفقة محمد الناعبي، كالشمس على شفاه النهار، وفي قمرته في مكتبه الموارب لمكتب محمد رضا اللواتي "أبا حبيب"، حيث تجتمع قلوب الزملاء والزميلات قبلَ أجسادهم، فهناك تدلق ألسنتهم التحايا والعلوم وشتى الأخبار المتواترة، كلٌ تتاح له الفرصة للحديث وكالعادة سالم المخيني بصوته العالي المحبوب يبدأ النقاشات، بعد ذلكَ يهم الزملاء تباعًا بالحديث في مداخلات لا تخلو من اللطافة والحبور، وبالقرب من طاولات المكاتب توجد أشجار الزينة الخضراء، ثمة روحًا تبث السعادة تخرج من هناك، لربما هي يرقة وجدت لها متكأَ أو يعسوبًا قذفته تيارات البقاء في ذلك الدلو، لم يثنها عن البقاء طقطقة الخشب على أبواب درفات المكاتب، أيضًا هنا لا وجود للوجوه المتجهمة ولا وجود للرتابة على الأقل في صباحاتنا الأولى، في هذا التموضع لا بأس أن تُلقي بعض النكات لتلطيف الأجواء، يخرج فجأة أبا أسعد مسلم الساعدي وبيده ملف من ملفات قسم الأنشطة المهنية وفيه تعرفت على أولى ملامح القسم حينما كنت عابرًا عليه وهو يشغل رئاسته، يذرع أبا أسعد مكتب سالم المخيني ببشاشة، لا يحتاج أبا أسعد أنَّ يُلقى أي كلمة فحضوره كافٍ بأن يزرع البسمة، رقراق كالنسيم الذي يلفح دقل سفائن البغلة والغنجة والسمبوق والزراوقة في صور العفية مسقط رأسه، وفي هدوء ورعشة أجواء بحر المصنعة يستفتح درويش بن سالم البلوشي والمعروف عند الزملاء بشخصيته اللطيفة الوقورة التي تمتاز بروح الفكاهة وحب النكتة وهو ذاته التي يمتاز بجديته في العمل وقد جنح درويش بن سالم إلى الرقابة الصحية بعد رحلة طويلة قضاها في ميادين العمل؛ آخرها في بلدية المصنعة قبل أنَّ يُبهج سماء الخوير بطلته الشامخة وقد تدرج درويش بن سالم في التقسيمات الإدارية إلى أنَّ أصبح مديرًا لبلدية المصنعة ولأن التغيير سنة من سنن الكون وفِدَ أبا سالم إلى مبنى الوزارة كأحد الإضافات التي نهلت من خبرات وتراكمات العمل الميداني في البلديات، كل هذه الخبرات التي يتمتع بها "أبا سالم" كانت كفيلة بأن تلهب دائرة البيطرة، فقد كان أسوة بالدكتور أحمد العيان مصري الجنسية مرجعًا وإزميلًا ينقش على جدار البلديات ما جادت به قريحته لمن يرغب الحصول على معلومة عايشها في الميدان وقرأ عنها في القرارات واللوائح، نلملم أشلاء ذكريات مبعثرة خرجت من دهاليز الرقابة الصحية لشخوصٍ عايشناها كانت حاضرة في ميادين العمل لو كتب لها أنَّ تخط حنينها لزينت صفحات الكتب بدم القلب لا حبر القلم؛ كحروفي الفجة التي أقحمتها عنوة للكتابة عنهم. في يومٍ استثنائي يخالف المعتاد يبرح المهندس خليل بن حسن البلوشي مكتبه الملاصق لمكتب المهندس سعيد بن درويش العلوي المديــر العام المؤسس للرقابة الصحية الذي أرخى شهادته الجامعية في ثمانينات القرن المنصرم المذيلة بختم أساتذة جامعة عين شمس، ثالث أقدم جامعة في العباسية بكنانة العرب، أُحدّق في سحنة المهندس خليل في الممر المفضي إلى مكتب سالم المخيني فيمرق المكاتب واحدًا واحدا إلى أن يشارك الزملاء شجن الصباح فتشرق أضواء إطلالته علينا مزينة ردهات الممرات؛ فقد اعتاد المهندس خليل بعد انتقالهِ من دائرة الأغذية التي حفظته فيها مديرًا مساعدًا ليكون الذراع الثاني للمدير العام بوظيفة نائب المدير العام، لم يشترط المهندس خليل لمكتبه الجديد منافسة مكاتب الأبّهات ولا عمالقة الإدارات الذين ما يفتأوا أنَّ يحصلوا على وظيفة أعلى إلا ويتنافسون على الأثاث المخملي وطاولات المكاتب التي تبرز شخصياتهم ومكانتهم عند الموظفين والزائرين، هكذا هم وهكذا ينظرون إلى المجتمع الوظيفي من لمعان المرايا وصور العابرين.
هنا في رواق سالم المخيني وجدتني أكتب عن المهندس خليل الذي رأت فيه الإدارة السابقة التنقل السريع من مكانٍ إلى مكان ومن موضعٍ إلى موضع ومن محافظة إلى محافظة ليضيف حكاية جميلة يختص بها لنفسه في قائمة مذكرات المجتمع الوظيفي، تتسابق أقدام الصباح لتسرد حكاياها قبل أنَّ تجفل وتنتشر في أرجاء مقصورة الرقابة الصحية ودوائر البلديات فهمسات المهندسة فضيلة البحرية حاضرة ولا يتسع المجال للكتابة عنها؛ فهي أيقونة بارزة وقيادية بامتياز تجلّت سجاياها ومناقبها الحسنة أروقة البلديات من أقصاها إلى أقصاها، وسكنات الدكتورة عائشة الغابشية التي ينطبق عليها القول يا ضيفنا لو زرتنا لوجتنا نحن الضيوف وأنتَ رب المنزلِ، فهي الشعلة الإعلامية الذائعة الصيت؛ سواء داخل أروقة البلديات وخارجها، تنفضّ الأحاديث من مكتب سالم المخيني لنستكمل حوارات العمل في دائرة الصحة الوقائية ونستكمل سرد القصص واحدة تلو الأخرى متى سنحت اللحظة المناسبة لنرتحل فقد زين باولو كويلو مؤلف الخميائي في رائعته "ألِف" "الارتحال إلى حيوات ماضية أشبه بحفر حفرة في الأرضية وترك ألسنة النار في الشقة أدناه تحرق الحاضر وتشعله...يتبع
.../////... 
في الحلقة القادمة  سترحل النوستالجيا إلى صعيد مصر لأخط القليل مما أعرف عن المهندس سيّد أبو العلا عليوة أحد مؤسسي قسم مكافحة نواقل الأمراض بدائرة الصحة الوقائية وأحد المخلصين الذين تعلمت منهم أسس المكافحة والتعامل مع المبيدات والقوارض.. أأمل من يقرأ هذه السطور أنَّ يمدني بصور للمهندس سيّد؛ ليتم توثيقها في مدونتي القادمة.

المهندس سعيد بن درويش العلوي المدير العام المؤسس للرقابة الصحية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر