على طاولة بسطة مجان؛ أبحثُ عن فهد الصقري؛ ليقرأ لي فنجان البسطة.
يحيى المعشري
@ysk243
لا تعتد بالأيام الظاهرة أمامكَ وأنتَ تبحث عن مكانٍ يمتاز بالخصوصية وإن كان في حضرة الحشود البشرية الذين يُقبلون على مثل هذه النوعية هذه الأمكنة، تسكن سماوات مختلفة وأطباعٍ متباينة؛ وأنا أحدهم حينما أعرجُ على "بسطة مجان" مجددًا بعدَ سنوات بحلته الجديدة في وسط مساحة شاسعة في قلب الخويــر؛ النبض الحيوي للعاصمة الجميلة مسقط وتدعي "الخوير سكوير" وهي ابنة لا يمكن أنًّ أُطلق عليها البكر لبنات المجموعة العقارية "بيت بيان للاستثمار" وكانت الانطلاقة لـ "بسطة مجان" في الخوير هي البدء الأول لهذه المساحة المكتظّة بالأبنية والمداخل المصممة بطريقة عصرية، رائحة الطرقات، بهجة الليل الموشح بأنوار المصابيح،كأحزمة من نور، وجوه العابرين تلفحهم نسائم الصباحات المشرقة، انتقضت اللحظات ومرت الليالي والأيام والشهور وبدت "بسطة مجان الكحل الموارب لي في أغلب مساراتي وأنا أخترق الخوير بتؤدة جيئةً وذهابًا، أُطلق عنان قدماي حينًا وتسكنني لجّة مشاعر وأنا أحدق إلى الشرفات والكراسي والممرات المتناهية؛ كأضواء البيت من الشارع المفضي إلى الداخل، حيث تلتفُ الساق بالساق، وهناكَ ثمة أفئدة اتكأت على مقاعدها الوثيرة في رحلة عابرة يتندر فيها أنًّ تبدأ عملها وحواراتها وأحاديثها وإبرام صفقاتها؛ هنا، على طاولة من طاولات "بسطة مجان"، الجالسون وحدهم هم الحالمون، المتأملون، السابحون في بحرٍ عمقه أشبه بالفيضان الروحي، حيث تتلاقح العيون بالعيون، وتجلس الأجساد القرفصاء، وتمسد الأيادي بأكواب القهوة، كلٌ على طريقته ولا ينبغي أنَّ يحملقوا إلى ساعاتهم وهواتفهم وأشياءهم الخاضعة تحت زحمة الأفكار والهواجس، وليستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم وليتركوا أوقاتهم تمضي بعيدًا عن التفكير في مسالة الوقت؛ ففي حضرة القهوة عليهم أنًّ يقتفوا سر الجمال في الروح وأنَّ يغدقوا عليها مزيدًا من الدلال وأنَّ يكافئوا أنفسهم بشيءٍ من الهدوء والطمأنينة، ألم يقُل درويش في ذاكرة النسيان "القهوة لا تشرب على عجل، أخت الوقت، تُحتسى على مهل، القهوةُ صوتُ المذاق، صوتُ الرائحة، القهوة تأمل وتغلغل في النفس وفي الذكريات.ألم نردد تلكَ الأبيات حينما نستشهد بحبنا للقهوة، أم أننا نجيد لغة الكلام فحسب؟، أعود مجددًا إلى بسطة مجان من زاوية المُحرِض الذي يدعو جميع المسؤولين للخروج من شرنقة قبو المكاتب المغلقة إلى فضاء المقاهي المليئة بالأرواح؛ إلى المقاهي الفسيحة التي تدار بأيادي أبناء جلدتنا؛ داعمين ومساندين، ولا ضير أنَّ تَعقد اجتماعك مع موظفيك يومًا في مقهى خارجي. وليكن شيئًا يُمَيزكَ في فن الإدارة. القهوة لم تعد ترفًا؛ بل لعبة أدمنها طالب المدرسة والكلية والجامعة؛ للمذاكرة والتدارس، القهوة لعبة يسيرة في يدِ طالب الماجستير والدكتوراة وطريقة سالكة تقصدها الشركات العالمية العاملة عن بعد وفسحة ينشدها الباحثون عن المزاج.
أتيتُ إلى مقهى "بسطة مجان" كغيري أشتري الوقت؛ لأقرأ سطرًا وأُنهي معاملة، وفي أوقاتٍ كثيرة آتي لأكتب كثيرًا ليقرأ لي المجاهرون بحبِ القراءة أو المختلسون النظر كأحجية من خيال، أختار الكتابة في "بسطة مجان" عِوضًا عن حياة التسكع، أحلمُ بمساحة تتحرك فيها كل جوارحي؛ بين أنظار المتابعين، قالت رجاء عالم في "طوق الحمام"، نكتب لنحيي ونميت، هناك من يسترقُ النظر إليكَ وقد يكون ذاته من يتلصص بين سطورك؛ فلا تخجل من الكتابة ووثقها بصورة عابرة مع فنجان قهوتك؛ أنتَ تصنع أوسمتك ونياشينكَ؛ أنتَ من يبتر تلكَ الهالة التي تتوسط الوجه والمدعوة بـ"الخجل" من التقييم، الكاتب قادرٌ على الاعتراف عنك والتعبير عن ما يسكن خلجانكَ، وكلما أرفع رأسي إلى "بسطة مجان" في الشتاءات النوفمبرية يرقُ بصري إلى بشرٍ وأيادٍ تقبض فناجينها بقوةٍ، ذات صباح وقّع مديري على ورقة إجازتي فانزويت وحيدًا في "بسطة مجان"؛ متكومًا على مقدٍ منفردًا دونما ضجيج، تتبعت الرسائل الصباحية من الأصدقاء قبل السفر اليومي مع الكتاب والكتابة، كان يومًا محفوفًا بالنشاط، أعطيت نفسي مزيدًا من الوقت قبل أن أشرع في الكتابة، ثمة حسيس أصوات ناعمة تخترق البوابة المفضية للفناء الخارجي ودبيب أقدام أبناء آدم يخرجون حواسيبهم ويحشرونها بآلاف الكلمات والمقررات، أُمعن النظر إلى تلكَ الصور في الجدران المزركشة بألوان الطيف؛ فأرى المصور عمر بن أحمد البوسعيدي يسافر بنا بعدسته في أرجاءِ عُمان؛ مستعرضًا الطبيعة بجبالها وصحاريها وتلالها وكثبانها وبِركها المائية؛ نعم، هنا أنتَ ترتحل في ربوع عُمان التي تسكننا؛ تُسافرُ من مقعدك في "بسطة مجان" إلى حيث لا يخامرك الشك أنكَ في سويسرا الخليج، دخلتُ يومي الثالث إلى "بسطة مجان" وأنا أحملُ أرتالًا من الأشياء التي أود تنفيذها قبل أنَّ أسرج جموح خيول أوهامي على هذه السطور المتأرجحة، دخلتُ وعيني على زاويتي التي اعتادت أنَّ تحتضنني، كان أحدهم سبقني ولحسن الطالع لم يّطُل فترة بقاؤه؛ غادرَ بسطته وتركَ الستائر مسدلة حتى عتّمت رواقي، أين العامل؟ سؤالٌ عابر وعاجل على بريد السرعة؛ لم يأتِ العامل ولم يطل عليّ البارستا فقمتُ بالمهمة بنفسي المجدورة بألق السنين؛ فانكشفت الخوير أمامي وبدأت الأصوات تتسلل؛ فأشرقت زوايا "بسطة مجان في وجهي ولا زال القابضون على القهوة متسمرون مكانهم؛ سالت الفتاة البارستا عن فهد الصقري، مؤسس شريك والرئيس التنفيذي للبسطة؛ فكان ردها غير موجود وبين الصمت الكبير الذي أطبق عليّ ورائحة القهوة، تمتمت على عجالة مواسيًا نفسي يا لحظي العاثر كانت أمنيني أن أحظى بصورة تذكارية مع فهد البسطة؛ لتكون في زاوية من زوايا هذه السطور العابرة؛ وسالتها مرةً أخرى عن معنى "بسطة مجان" ودون تفكير قالت؛ بسطة من البسيطة أو الجلسة ومجان كلمة سومرية تعني أرض السفن أو الميناء؛ لأنَّ أهلها برعوا في صناعة السفن والصيد، طُبعت ابتسامة فرحة على وجهي وتركت البسطة وحضارتها وأرشيف صورها وناسها وظللت أقرأ الوجوه والفناجين.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام