يوم سلطانة؛ رحلة البحث عن الجذور؛ من ضواحي موسكو إلى الكابيتول.

 

يحيى المعشري  

@ysk243 

من قرية غلا بـولاية بوشــر، من جبل حيد وإطلالاته السامقة على بساتينها وروافد أفلاجها، يُبحرُ بنا خيال الشاب الواعد معاذ بن خلفان الرقادي عن دار لبان للنشر في سبعة عشر فصلًا؛ ليرسخ حضوره ككاتب ومخترع رغم الإعاقة البصرية في سلسلة روائية ضمّت 248 صفحة؛ هامت بناء بين الواقع والخيال؛ بين التاريخ والأمكنة، سفرٌ حزمت معه أمتعتي؛ عبر قراءاتٍ متقطعة لـمجموعة من الكتب؛ بين الفلسفة والتأريخ؛ حرصتُ على تدون أحداثها؛ أرجأت أغلبها وبدأت أسبــر أغوار هذه التشويقة الروائية للشاب "معاذ الرقادي"؛ كان عليّ أنَّ ألتقط أنفاسي؛ وأتلمظ قهوتي المسائية؛ بعدما علمتُ أنَّ الكاتب في هذه الرواية خاض تجربته الأولى؛ فباكورة الأعمال عند الكتّاب تبدأ بخطوات متتابعة؛ الأيسر فالأيسر؛ إلا أنَّ الكاتب "معاذ الرقادي" ولنقل الروائي في رواية "يوم سلطانة" هذه أراد بنا الإبحار من أعماق المحيطات بخياله الواسع الذي أعادني إلى تفاصيل وأحداث تاريخية مهمة؛ بقالبٍ مشوقٍ ومثير؛ عبر تنقله بالشخوص والمدن بأدبٍ روائي مغايــر عن قراءاتي السابقة في أدب الرواية؛ لقد استطاع الكاتب بحنكة وحذاقة وسلاسة في الأسلوب؛ حينما جال بنا بخياله إلى عوالم وأمكنة نقرأها في أدب الرحلات؛ أنَّ يحملنا معه في سفينته وعلى وقع صوت أغاريد نوارسه وأبنية الدول العظمى، ثمة تفاصيل دقيقة يخفيها الكاتب؛ فمن ذا الذي يقلب دواليبها؛ باحثًا عن المغزى الذي أراده، ومن ذا الذي تجول معها؛ سواء بواقعية التاريخ والمدن أو خياله الذي تنقل بنا بين الامبراطورية العُمانية وزنجبار وسلاطينها إلى أحداث الغزو الغاشم لجماعة الطاغية كارومي وأوكيلو في مطلع ينايــر 1964 وترحالنا معه إلى موسكو حيث الكريملين والولايات المتحدة الأمريكية، حيث نييويورك وواشنطن وهناك "الكابيتول" (1800) الكونجروس المقر الرئيسي للسلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تدور أحداث الرواية حينما خرجت "رشيدة" من موسكو إلى الولايات المتحدة الأمريكية ورحلة البحث عن الجذور؛ باحثة عن العقد الذي تدّعي أنه لجدها "مسعود" قبل (170) عامًا؛ في عهد السيد سعيد بن سلطان، سلطان عُمان وزنجبار، والسفينة سلطانة التي قادها القائد الفذّ أحمد بن النعمان أول سفير عُماني للولايات المتحدة الأمريكية وهي الرابط الأساس المشتق منه اسم الرواية كما يتبدى للقارئ؛ عندما همّ أحدهم بـإخبار أحمد ابن النعمان عن فقدهم "مسعود" الذي تاه في خضّم التفاصيل المتشابكة، فورًا هاج وماج القائد عند سماعه الخبر ولم يهنأ له بال أو ينم قرير العين: قبل أنَّ يعرف عن مسعود وكيف اختفى في غمضة عين!

إرفاق الكاتب بحنكة بعض المعلومات التاريخية التي تضيف للقارئ في حصيلته المعرفية بعض المعلومات الجديدة أو التي غابت عن ذاكرته فأسقطها أمامه في مقارنة ومقاربة لطيفة؛ بهدف ربط حادثة سرقة العقد بما يدور في تفاصيل لرواية.

تحدّث الكاتب عن الانطباعات الأولى التي نأخذها أثناء اللقاءات بشخصيات معينة أو أمكنة وهذه الانطباعات وجد ضالتها في علم النفس؛ على سبيل المثال لا الحصر تأثير اللقاءات بين الأشخاص ومدى التأثر المباشر الناتج عن تلكَ اللقاءات؛ خاصة في الثواني الأولى؛ مستدلًا بالدراسات العلمية تحت مفهوم "تأثيـــر المدة الزمنية" أو لغة الإيماءات والجسد، الرسائل البريدية المتبادلة بين رشيدة الباحثة عن عقد جدها مسعود المفقود والطبيب النفسي "إيفان" وصلتها بــ ماهر الذي يعتبر أحد أركان الرواية الرئيسيين وفيها على القارئ أنَّ يتعرف عليه وصلته برشيدة من سياق اللغة السردية.

كما يمكنك وأنتَ ترمق بعينيك صفحات الرواية أنَّ تمسك هاتفك النقال وتفُكَّ شيفرات الأمكنة التي تحدّث عنها الكاتب بالاستعانة بالعم جوجل؛ لتجد معلومات أعمق تُرضي فضولك وتُجيب عن تساؤلاتكَ التي تأتيك وأنت تسبر أغورها علّها تعطيك صورة واقعية عن المكان وكأنك تتجول افتراضيًا هناكَ؛ كأحد شخصيات الرواية.

كن أنتَّ ابن الرواية ولا تكن عابر سبيل تستهويه الأمكنة والأحداث وتمعن في تفاصيل التفاصيل الدقيقة عن معرفة الكاتب وتمكنه من التقنية وعالم الاتصالات الرقمية؛ على سبيل المثال الفيس بوك يُظهر أسماء المتفاعلين على رأس قائمة الأصدقاء وغيرها من أمثلة تحدّثكَ عن إلمام الكاتب بأدق التفاصيل في العالم الرقمي.

اللقاء الأخير في واشنطن في أحد المتاحف الكلاسيكية على الطراز الأندلسي وأمام جمع غفير تتكشف للقارئ حقيقة الِعقد وهناك ثمة سيناريوهات أردفها الكاتب للشخصيات التي التقت بـ "رشيدة"؛ تسلب من القارئ الأحداث القديمة وفيها تنكشف الغمامة التي أمطرت وابلًا من المَعطيات والسيناريوهات وتلكَ أصابت رشيدة بالذهول والاندهاش، وفي كواليس المتحف ظهرت حقيقة عقد "مسعود" الثمين وإرث رشيدة التي تكبّدت العناء والمشقة من أجل البحث عنه وهناك أماط الكاتب اللثام بتحليله للشخصيات والقراءات اللفظية والجسدية مع الوثائق التي توصل القارئ للحقيقة.

عليكَ أيها القارئ التواق لقراءة هذه النوعية من الروايات وهذا النوع من الأدب والأسلوب السردي أنَّ تحزم أحزمة القراءة ولتكن على توافق وتصالح شخصي قبل أنَّ تفتح الصفحة الأولى إلى آخر صفحة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر