أنا ومحمد الطائي على عتبات قلعتي نزوى وبُهلاء في مقهى كوكب الشرق بالخويـــر.


هل هي أغاني الشتاء لأم كلثوم التي تغمر عشاق المساء بهجة وهدوء في عاصمة النيل القاهرة على ضفاف نهرها الممتد؛ رغم ضجيج الأقدام البشرية التي لا تهدأ ولا تنام، أم هي جلسات عروس البحر المتوسط؛ إسكندرية الحالمين على عتبات مقاهي ليالي الحلمية وشارع طلعت حرب أو حي شرق سان ستفانو والأزاريطة، هل هي ليالي الشتاء التي تتركك تعيد الزيارات كرات وكرات في عاصمة الجمال مسقط العامرة وهي ليالي الندف الشتوية التي تأتينا؛ خجولة؛ منزوعة من البرودة التي تشهدها عواصم العالم في أصقاع المعمورة.

إنها أطلال كوكب الشرق بقلم إبراهيم ناجي  ودندنات رياض السنباطي وصوت أم كلثوم الذي أخرجته للعالم العربي السيدة بكل أحاسيسها وخلجات قلبها ولواهيب عواطفها، ذلك الشجن الذي أمطرتنا به سيدة الغناء العربي فأخرجته لنا فنًا خالدا؛ لا زال يتراقصُ على أنغامهِ عشاق الشتاء في مصر والخليج. "هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا ومشينا في طريق مقمرٍ تثب الفرحة فيه قبلنا وضحكنا ضحك طفلين معًا وعدونا فسبقنا ظلنا".

هكذا كنا نتبادل الحديث معًا أنا والصديق محمد بن مرشد الطائي الذي جاهد النفس للوصول إلينا وقد زارته وعكة صحية عابرة في هذا المساء الذي لا يقبل الوصف ومسقط خالية من أفئدة أبناء جلدتنا الذين يشاركوننا البناء في مؤسسات الدولة، نعم؛ أخذنا ننظر شذرًا إلى أوقات العصيرة القصيرة التي أعتدتُ أنَّ أمضيها في أداء الرياضات الشاطئية بأنواعها، مهلًا يا رفيقي إلا هذه الأوقات التي يستعيد فيها الجسم عافيته من ضجيج العوالم الافتراضية التي نغور فيها بين الفينة والفينة، حتى سرقت منا الكثير من الأوقات وأخذت منا مساحات كبيرة لا تستوعبها ذاكرة الهواتف المحمولة، كيف بأفكارنا التي بدأ يمتقع الوجه من شدة التركيز فيها؛ كيلا تغيب عنا سانحة يومية تمر علينا في هذه العوالم، وبينما كنا نتبادل نظرات سريعة ونحن جالسون في الكراسي الخارجية لمقهى كوكب الشرق في الخوير لمالكه الشيخ محمد بن فهد الراسبي؛ قفزت فكرة إلى عقلي باغتُ بها الصديق محمد الطائي ولوحت بكلتا يداي إلى اللوحات الداخلية في المقهى، فقد تهنا بين اسم كوكب الشرق في أم الدنيا وبين قلعتي نزوى وبهلاء، تلكم المعاقل والتحصينات التي كانت ولا زالت معلمًا بارزًا من المعالم العُمانية التي توثق تاريخ سلطنتنا الحبيبة منذُ الأزل، وحينما فرغنا من تلمظ قهوتنا التركية الداكنة وعراكنا مع السحلب بالمكسرات على الطريقة الشامية الشهية؛ كنا على شفا الوقوف على أبواب التحصينات العُمانية المعلقة في لوحة مضيئة بمقهى كوكب الشرق وكان علينا أنَّ نتنقل بين القلعتين سريعًا؛ كي لا يدب الملل للعزيز محمد الراسبي الذي تعهد بأن يتنقل بنا بين القلعتين بعدسة هاتفه، ومع جلوسنا تحت ظِلال قلعة نزوى رأينا البرج الدائري العظيم المنيع وكنا أكثر زهوًا وفخرا، فقد كانت قلعة نزوى الحصن المنيع الذي استغرق بناؤه قرابة اثنا عشر عامًا، اتسعت عينا الطائي في ذهول وأنا أتلو عليه تاريخ القلعة  التي اتخذها الإمام سلطان بن سيف اليعربي وهو ذاته الذي طرد البرتغاليون من مسقط بعد وفاة الإمام ناصر بن مرشد الذي يُعد الشخصية العُمانية القيادية الأعظم على الإطلاق، دلفنا متاهة قلعة نزوى ذات الفتحات المعقدة والمتعددة وقد هز الشيخ محمد الراسبي رأسه بإيماءة معلنًا انتهاءه من التقاط الصورة التذكارية، وفي سؤالٍ عابر لم أشأ أنَّ أترك اللحظات هذه تعبر مرور الكرام قلت على عجالة علينا أنَّ نسبر أغوار ولاية بُهلاء من خلال قلعتها المعلقة في اللوحة الداخلية في الجهة الأخرى، فجأة انطلقت صرخة هادرة من فاروق البنجالي وهو يطبع ابتسامته المعتادة للزائرين لمقهى كوكب الشرق من الكرسي الأمامي المفضي إلى الرواقات الداخلية وقد بدا محمد الطائي أكثر هدوءًا وقبولًا لفكرة أخذ صورة أخرى تذكارية على عتبات ماضي ولاية بهلاء العريقة من خلال قلعتها العريقة؛ فهي ليست كأي القلاع والتحصينات؛ إنها القلعة العروس التي أُدرجت في قائمة التراث العالمي، سرت همهمة استنكار عند الشيخ محمد الراسبي عندما أخبرته بالفكرة لكنه أومأ بالقبول وبارك الفكرة، ساد الصمت وحوقلنا في جفول وقلت ماذا لو كنا بداخل هذه القلعة الشامخة وهي المحمية الثقافية التي تؤرشف عُماننا في سالف الوقت والتي تعود للألف الثالث قبل الميلاد بحسب موقع ويكيبيديا وقد ارتبطت بالعديد من الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس، مط محمد الطائي شفتيه لحظات قبل أنَّ تجفل عيناها وهو يصيخ السمع إلى هذه المعلومات التي بدت غريبة عليه من الوهلة الأولى، لكنه على قناعة تامة أنَّه أمام صرحٌ آخر عظيم بشرفاته واستحكاماته، إنها محكمة الأجزاء؛ كل جزء منه يحكي قصص مليئة بالنضال والقوة لذلك الإنسان الذي صمد لكي يوثق الحضارة العُمانية؛ حتى بتنا نُعلقها تماثيل في منازلنا ومكاتبنا وردهات مقاهينا ومطاعمنا؛ فخرًا واعتزازًا بتلك الحقب، توارينا خلف هذا المشهد البانورامي بداخل رواقات مقهى كوكب الشرق واندفعنا للخارج؛ نعيشُ لحظات أخرى أمام الشاشة الكبيرة ونحن نحدق إلى الدرويات الأوروبية وقد اكتظت كراسي المقهى بأشخاصٍ آخرين من كل السحنات؛لكنهم بعيدين كل البعد عن قلعتي نزوى وبهلاء وأطلال أم كلثوم.
أنا ومحمد الطائي على عتبات قلعة بهلاء 
أنا ومحمد الطائي على عتبات قلعة نزوى 
فاروق البتجالي على مدخل مقهى كوكب الشرق يطبع ابتسامته للزبائن 


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر