خالدين موارد المياه يَعبران سدود البلديات إلى مرافئ الحياة


يحيى المعشري ✍🏼

كنت متكومًا في مقعدٍ وبجواري دفتر مذكرات وفنجان قهوة طلبته من مجيد في أحد مقاهي العاصمة، عزلة وقتية لا تتعدى الساعة، فجأة وبلا سابق إنذار أتتني رسالة معلقة في الفضاء الأزرق من الصديق خالد بن علي الشبلي؛ ليدلق عليّ عبارتين لا ثالث لهما، لم أفهم فحوى الرسالة في بادئ الأمر أو لم أستوعب وذلكَ لقصورٍ مني؛ كنت منتشيًا وراودتني أفكارٌ جمة، لم أركن لرسائل الماسنجر قبل أنّ أقرأ كلمة وداعًا يا صديقي، حدقتُ في العبارتين بتمعن وأعدتُ التحديق؛ لكيّ لا يسقط مني حرف من حروف الأبجدية، كان فضولي أسبق إلى نظري وإذا به الصديق خالد الشبلي مشرف تنسيق ومتابعة بمكتب مدير عام تقييم  موارد المياه بالبلديات، لم أطلب منه الإجابة ولكن تمتمت في سري قائلًا: لا زلت صغيرًا على التقاعد يا صديقي، لماذا كلمة الوداع وفي هذا الوقت بالذات وأحاديث المجتمع العُماني تضج بالتقاعد الإجباري، وقبل أنّ ينبس ببنت شفة باغتني قالئلًا: القاطرة لم تأخذني لوحدي يا صديقي فقد حملت معي زميلك في العمل وزميل السفر والصحبة خالد الوهيبي، كاتب شؤون إدارية أول بمكتب مدير عام تقييم موارد المياه، نعم؛ هو كذلك يسير معي في نفس المركب وفي نفس الرحلة، كما سفحنا العُمر معًا في قطاع موارد المياه لسنوات وسنوات، إلى أين يا أصدقائي؟ لمَ العَجَلة؟ لمَ التسرّع؟ لا زال القطار في أوله ولا زالت تذكرة السفر لم تُختم في مكتب الموارد البشرية ولا زلنا نمخر عباب البلديات، تمهلّوا يا رفاق، لم أفق من الصفعة الأولى أو من الصدمة الأولى فلنسمها ما نشاء، كيف باللهِ عليكم وتنهال عليّ الصفعة الثانية على حين غرة، قبل الأمس غالبني السهاد إلى ما بعدَ منتصف الليل وأنا أخط آخر تباشر القيظ في حضرة الصديق العزيز فاضل الهاشمي الذي رافقهم في رحلة التقاعد، كيف باللهِ عليكم أنّ نودع القيظ ونحن في أوله؟
أيعقل أنّ نقترب من النهاية يا أعزّائي، يبدو مشهد الهجرة الجماعية للأصدقاء مؤلمًا جدَا وأقل ما يمكن القول عنه أنّه موجع في حق سنوات العشرة، رن الهاتف بقوة، كهدير مياه سدود البلديات التي تشهد عليهما؛ كم من المذكرات وكم من التقارير وكم وكم من الاتصالات التجسيرية  بين البلديات والأقاليم وقبلها موارد المياه التي خطَوا معها أُولى مواسم الرحلة في المجتمع الوظيفي، وميض برق لم يخفت ضوءُه في مسرح الحياة، حيث الفرقة موجعة والمكاتب بكراسيّها تؤبن الشخوص والأمكنة، قالوا: نخرج معًا في هذه الرحلة الخالية من الشفقة، تعرفنا كيف تصنّف الملفات في رفوف مديرية تقييم موارد المياه، كُنّا نطالع معًا الصادر والوارد وكُنّا ننتصر للمذكرات التي تخرج وفيهما عَصرنا خُلاصة السنين، لن يقوَ أحد على إخفاء مسرح البلديات من ذاكرتنا مهما تعجلّت البلديات في التخلّي عنّا ولن يقوَ أحد على نسيان حسيس أقدامنا ورواحنا؛ ملتزمين بأداء أعمالنا على أتم وجه، وفي الظهيرة عندما تنتصف الشمس في رابعة النهار وينادي المنادي الله أكبر الله أكبر الله أكبر نفترش الأرض لنلبي نداء الحق، تمامًا كما يفعل الزملاء في مديريات البلديات ودوائرها. هنا حيث تتلاقى الوجوه بالوجوه وتتصافى القلوب وتتسامى في الخلق والرقي.

لن تسقط من الذاكرة (1) خالد الشبلي. 

الذاكرة يا صديقي هي قدرة من قدرات الدماغ وهي الوحيدة التي تمكّنا من تخزين المعلومات؛ تُبقي فينا ذلك الود بين الزملاء، سواء في أروقة العمل أو عندما كنا نمثل الوزارة في العديد من المناشط الرياضية والثقافية الخارجية، الذاكرة يا صديقي هي من تُسعفنا لنتذكر خطواتنا التي نخفرها معًا من مواقف الوزارة إلى المصعد الكهربائي وفي طريقنا تسبقنا العلاقات الإنسانية وذاكرة لن تذبل مع السنين، الذاكرة يا صديقي التي تستحضر العقل ونحن نتجول بين أروقة قطاع موارد المياه بأفلاجهِ وسدوده، نمعن في خرائط السدود التي عُلقّت في الممرات ونتحادث في سرنا كم وكم من المنجزات التي شاركنا فيها وإنّ كنا لا نملك خاصية تذييل الوثيقة بالتوقيع.

لن تسقط من الذاكرة (2) خالد الوهيبي. 

أتذكر يا صديقي عندما تغيبني الأيام ولا يهنأ لك بال قبل أنّ تبادرني الاتصال أو رسالة حانية قبل أنّ تعبث الليالي بوضح النهار، أتذكر يا صديقي عندما أنحدر إليكم من الرقابة الصحية  بين الفينة والفينة، أدحرج رأسي بين قديمي؛ ألوّح به هنا وهنا، أتذكر يا صديقي ديسمبر من العام 2014 عندما جمعتنا أرض الابتسامة ومعك العزيزين بدر وسعود الرياميين، أتذكر يا صديقي زيارتنا لسوق دامينون سادواك العائم أتذكر عندما نتحدث من شرفة ميني سيام ونتهامس عن اللوحات الفنية والألوان الزاهية والردهات المتداخلة، أتذكر يا صديقي عندما نصيخُ إلى أصوات الباعة المتناغمة ونسترق النظر إلى الخشب المتدلية، ألم نتحدث معًا عن الملك راما الذي أحكم العقل لمشكلة الزحام فشق قناة النهر العائم لينشئ بنية أساسية اقتصادية ريعية ألم تعجبنا الفكرة وقلنا ليتها معنا؟

جميلٌ أنّ نفعل شيئًا ولا نراه يا أصدقائي، كالمتشوق الذي لا يرى مظلات مواقف السيارات المتدلية، سنصحى معًا يومًا وسنبصر مبنى البلديات من بعيد وسنخفر بعضنا بعض في الممشى الموارب ونعرق ونسفح اللحظات ونتحدث عن أيام قضيانها هناك في ذلك المبنى المسجى ونقلب سهامًا تغتالنا جميعًا وسنفكر في ما ستؤول إليه ولا نلتفت إلى الوراء؛ لماذا تسألونني؟ لماذا؟ وحدي من يحتفظ بالسر يا رفاق؛ أنا والخالدّين؛ في القلوب نتحفظ بالسر وأجمل الذكريات!
هكذا أثرا 
خالد الوهيبي
و 
خالد الشبلي 
أنّ يسلّما حقيبة البلديات المليئة بذكريات الشخوص والأمكنة؛ بحلوها ومرها، ولم يسلّما قلوب الود التي لا زالت تحفظ لهم بذلك الخيط الجميل من شريط الأمس، أتى نصيبكم في عهد الكورونا يا أصدقاء فقلت سأكتب ولتعذروني هذه المرة سأكتب بدمِ القلب لا حبر القلم، فالتقاعد الإجباري لم يكن حجر عثرة في طريقكم إلى الحياة الأخرى وأنتم في عالمكم الجديد وصفحتكم الجديدة التي لا تقل في رونقها.

يقول محمود درويش " يا دامي العينين والكفين، إنّ الليل زائل، لا غرفة التوقيت باقية ولا زرد السلاسل!
خالد الوهيبي يبتسم وخلفه خالد الشبلي يطبع ابتسامة 
خالد الوهيبي مع الفنان الراحل سعود الدرمكي 

خالد الوهيبي مع الفنان صالح شويرد 
كنا هنا في النهر العائم فلوتنج ماركت 

أخيرًا فنجان القهوة الذي رافق دفتر المذكرات! 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر