فاضل الصامت تحدثَ على نبأ خبر استقالته من البلديات بتلويحة الوداع!
يحيى المعشري ✍🏼
الشاهد الله لم يسبق لي التعامل مع الإخوة من فئة الصم والبكم قبل معرفتي بـ فاضل الهاشمي، نعم؟
ماذا أكتب؟
كيف لمِداد الحبر أنّ يسيل على حاشية الورق، وكيف للقلم أنّ يمسد على نزف الجروح المنسكبة على ضفاف أنهار هجرة الأحبة؟
هكذا أقولها وكلّي أسف؛ كما لم أأسف على أحدٍ من قبل!
عندما تعرفت على فاضل الهاشمي لأول مرة وجدته يتكلم بقلبهِ وعقلهِ وروحهِ كما أنني لم أسمع أحدًا من الناطقين وكنتُ أصيخ السمع لحركاته وسكناته وتلويحة يديه وهما تشيحان ذات اليمين وذات الشمال.
عندما تعرفتُ على فاضل الهاشمي الأخ الإنسان الذي لم تذبل جذوة العمل الصباحية في حضرته ولم تخبو همة المداومة على العمل عند الإمعان في وجهه البشوش؛ فكان فاضل العلامة الكاملة التي لم أحصل عليها وأنــا على مقاعد الدراسة وكان النخلة الوارفة التي تأتي في كل فصول السنة، وكان القيظ الذي أستفتحُ به اشتهاءات الرُطب، وعلى مدار السنوات التي سفحناها معًا بين أروقة البلديات، سواء عندما كان يعمل طبّاعًا في دائرة الشؤون الإدارية في الدور الأول أو انتقاله إلى الرقابة الصحية في عهد المهندس سعيد درويش العلوي مجاورًا لنا في دائرة الصحة الوقائية أو إغماضته الأخيرة وهو في تعريشة دائرة الرقابة البيطرية، لم أسعد يومًا في ربيع العمل إلا عندما أحتضن اللحظات التي أجد فاضل فيها بيننا، ولأنني لا أجيد الإطناب في حضرة الأنقياء، كان فاضل وبلا مبالغة مسحة سعادة ترفد سكنات الروح البائسة وديمة مطر تهطل في سماء الرقابة الصحية.
وفي عام ٢٠١٥ للميلاد شاءت الأقدار أنّ ألتقي فاضل ورفاقه من فئة الصم والبكم في مملكة سيام تايلد في كانون الأول وقد توارينا خلف شوارع سوكومفيت بنانا، كنتُ أسترق السمع إلى حسيس الأصوات المنبعثة من الشرق والغرب والشوارع المكتظة بالتوك توك، وكنتُ أتتبع وفاضل ورفاقه دبيب الأقدام التي تنساق بين أزقة بانكوك من محلات الصرافة وأنا أخفرهم، ليس لأنني المرشد الذي يجيد لغة الخطابة، على عكس ذلك فقد كان فاضل ورفاقه المرشدين والموجهين الذين تعلمت منهم كيف يكون للسفر بعدًا آخر خارج جغرافية المكان والزمان، حينها عنونت خاطرة تلك الرحلة بـعنوان "قبلَ أنّ تسافر تعلم لغة الإشارة"، بعض الشخصيات في حياتك أيقونة فرح وإن كانت لا تجيد لغة الكلام؛ فالأحاديث الروحية هي المِنجّل الذي يحفر سويداء القلوب وهي البلسم الذي يناغي فيكَ ذلكَ الطفل، ولأنني استشعرت شيئًا من المظالم في البشر التي تُمارس في الحياة دون استثناء وما أكثرها، تقدمت باقتراح يشمل فئة الصم والبكم ومن في حكمهم وهم الفئة المنسية في منظومة الدورات الداخلية والخارجية وقد تسقط في حقهم العلاوات والمكافآت وقوبل الاقتراح بالمباركة والترحيب وقد شرعنا على إنهاء اللبنات الأخيرة لنتساوى معًا في أحقية الحياة ونتشارك في مغانم المجتمع الوظيفي ونبعد عن الأنا وشمّاعة الكفاءة والمقدرة دون تمييز ودونما نكران وجحود، كنّا على موعد زيارة عيون موارد المياه ونشرب الماء الزلال وكنّا نحدقُ في خرائط الشؤون الفنية لنرى هندسة الإنسان الذي يعمل من أجل الإنسان، وكان فاضل عند كل اتصال مرئي بيننا يذكرني بالاقتراح وماذا حصل وإلى أي مساق آلت الأمور، وكنتُ أطمئنه وأطلب منه التريث وعدم الاستعجال، إلى أنّ جاءت لعنة كورونا التي أرجأت تطبيق الاقتراح كما أرجأت العديد من المشاريع وما أكثرها، لم تسقط ورقة التوت في بيروت ولم يندفع بردى في حقل البلديات- ليفاجأ فاضل الهاشمي ودون سابق إنذار أنّه مُحَال للتقاعد!
ولأنه لا يجيد التذمر وليس بارعَا في لغة السخط ولا يهدر كما تهدر مياه سدود البلديات في صحلنوت وحيزام، وكلَّ أمره لله ورفع يده ملوحًا إلى السماء شاكرًا وحامدًا، لا ناقمًا وساخطًا، وقبل أنّ أستفتح صباحاتي لأتفحص الرسائل المتتابعة على هاتفي باغتني المهندس علي الغافري بصورة سيلفي تجمعه وفاضل الهاشمي متأسفًا على قرار الإقالة، حالة من التوهان تملكت أوصالي، أخذتُ نفسًا عميقًا وبدأتُ أستوعب كل حرف وبينما كان الرفاق يتحدثون عن المُقالين وقعت على عيني رسالة المهندس عامر الحبسي كالسهم الذي ينتزع من بطن المغدور به وكان مفادها "الإنسان طيب المعشر، دمث الخلق الذي يترك أثر طيب وسيرة حسنة في مقر عمله تفتقده وتحزن لفراقه، وتبقى العشرة والصداقة عنوان لا تطوى صفحاته، أحبتي اتركوا أثرًا طيبًا بين زملاءكم ولا تغلّبوا العمل على علاقاتكم" وهكذا تطوي وزارة البلديات صفحة رائعة حسنة المعشر؛ سالت إثرها دموعنا كما طويت صفحات أحبة لا يقلون في المعزة عن فاضل الهاشمي، ولا نملك عدا أنّ ندلق فيهم عبارات الحسرة على أيامٍ قضيناها في حضرتهم، ولا أملك إلا أنّ أقتبس نشيج الحبر لـمحمود درويش في حضرة الغياب" وأنت مسجّى أمامي كفكرة تمتحن صبر صاحبها على احتمالها، وكقصيدة تصغي إلى شاعرها وتختبر سلامة البصر والبصيرة، فتقول: صدقت أو كذبت عليّ!. وأقول فاضل الصامت تحدثَ على نبأ خبر استقالته من البلديات بتلويحة الوداع!
هذا التكريم ل فاضل الهاشمي قبل سنوات بمبادرة من الزملاء في المديرية ويظهر في الصورة الأستاذ بدر البراشدي.
الله على ذكريات الدكتور أحمد العيان
هذه الصورة للتأريخ عندما كنا في مملكة تايلاند رفقة العزيز فاضل الهاشمي ورفاقه سمير الهاشمي وسلطان الفلاحي
الاثنين 1 يونيو 2020م
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام