كتاب (سَفَرٌ لَمْ يَرْوِ بَعْدَ) في أدب الرحلات للكاتب العُماني خالد العنقودي
قراءة: يحيى المعشري ✍🏼
@ysk243
لقد أدمنت السفر منذ الصغر، وكان أول سفر لي برفقة والدي وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة بمثابة الشرارة الأولى التي عرفت فيها معنى السفر، لكنني عرفت السفر الحقيقي أكثر عندما قررت أن أخرج عن النطاق العائلي؛ فسافرت بعيداً عن خوف العائلة، وشعرت بذلك بعد أن اختلطت بوجوه وأناس في الطائرة، كنا نطير لوجهة واحدة، حينها عرفت منهم مَن عرفت، ومنهم من التقيتهم لأول مرة مستكملاً حديثه إلى أن وصل إلى "تركتُ أصدقائي بطاولاتهم وسهراتهم التي لا تنتهي، وانطلقتُ وحيداً؛ ومن خلال ذلك عرفت مبدأ الاعتماد على النفس، مكتشفاً شخصيتي من جديد.
هكذا يبدأ الكاتب والرحال خالد بن سعيد العنقودي كتابه الجديد "سَفرٌ لم يُرو بَعد" الصادر عن بيت الغشام للطباعة والترجمة والنشر العُماني.
مغامرات تحبس الأنفاس بيومياتها، وبأطروحات سردية مختلفة تعود بنا إلى عالم الأسفار وقصص الشعوب، عندما يبحر بنا إلى أصقاع المعمورة على خطى الرحالة المعروفين ابن بطوطة والملاح العُماني أسد البحار أحمد بن ماجد والإدريسي وغيرهم الذين ذاع صيتهم بين الأنام من الرحالة الذين يستهويهم التغزل بحال الشعوب والأمكنة واضعاً بين أيدينا هذه المرة كتابه "سفرٌ لم يُروَ بَعد" وقد أفاض عليه ترانيم قصصية من حكايات الدول التي سبر أغوارها، فـأخذ العنقودي يحلق في فضاء الدول عبر مخيلته السردية تاركاً متعة التمعن والمرور للقارئ بين أروقة كتابه بعد ما فرغ من كتابه الأول "أفينيو دو بغست" الصادر عن دار الفرقد السوري والذي رأى النور في أول اطلالة له في معرض مسقط الدولي للكتاب العام المنصرم عندها غاص بنا في مذكراته على مقاعد الدراسة في عاصمة الأنوار بيغست "باريس".
بيدّ أن المتمعن في هذا الإصدار يجدُ أن العنقودي أسهب في ذكر تحركاته اليومية واصفاً سَيره بين أزقة الأمكنة في الدول التي يزورها. تارة أجد العنقودي يضعنا صامتين ليغور بنا في أعماق السحر السردي عبر التصوير التعبيري وكأنه يضربُ الأرض على خمار الغجريات مستمتعاً بأدائهن وهن يتلذذن بالرقص تناغماً وترياقاً من روتين الحياة المعتاد وتارة يهيم بناء كيفما شاءت قدماه في أعماق الصور المرئية التي يجدُ معها القارئ لذة رؤية سحر الأمكنة التي يراها. فهي ميزة متفردة للكاتب حيثُ لا يبرح أن يترك القارئ ينتهي من قصة إلا ويتوقف شغفاً لقراءة الأخرى فتتشكل لديه فسيفساء وكأنها حجارة نرد متصلة على خيط رفيع ليعيش تفاصيل الإيحاءات والهمسات التي أرادها العنقودي أن تكون.
عندما تتوغل في قراءة القصص التي تحاكي مسارات المؤلف تجده يرمي أطناباً من الأسئلة التي تسكن خلجانك وأنتَ تمرُ مرور الكرام على كل كلمة كتبها، فلا يمكنك معرفة الأحوال التي اعترضته ذات يوم، ولا يمكن لكَ مهما بلغت من الحذاقة والفطانة أن تتصور مدى الصعوبة والمشقة التي تعترض المغامر أثناء ترحاله بين هؤلاءِ الشعوب مخالطاً لهم عن قرب، فالمتمرس في هذه النوعية من المغامرات وحده من يستطيع أن يفك شيفرة المخاطر والصعوبات التي تعترض المغامر خاصة وأن بعض الأحداث كادت أن تسوقه إلى موتٍ حتمي. والمتأمل في السفر الذي يصاحب الرحال والمغامر كما وصف العنقودي مختلف ملياً عن السفر العادي لدى عموم الناس، فهو لا يعتمد على الصرف الباذخ على مكان الإقامة ولا تكون الفنادق الفارهة من ضمن أولوياته، وإنما يكفيه النزول عند أحد معارفه الذين الفوا هذه النوعية من الرحلات.
وقد ذكر المؤلف الطريقة التي يعتمد عليها في كتابة وتوثيق الأحداث التي تعتريه أثناء ترحاله عندما يقوم على لملمة قصاصاته ومذكراته التي تصاحبه في سفره، فبالرغم من تقادم بعض القصاصات والمذكرات التي يعتمد عليها المؤلف في ذكر تفاصيل أحداث ترحاله للقرّاء والتي سقط منها الكثير وأصبحت في طيّ النسيان، فقد اختمرت في ذاكرة المؤلف الكثير من المعلومات عن الدول التي زارها من خلال تمرسه معتمداً بذلك على ذاكرته والحنين إلى الأماكن التي يزورها بين الفينة والأخرى.
والقارئ لأحداث هذا الكتاب يجد بأن المؤلف قد جزأه إلى عدة أجزاء من خلال القارات التي دلفها عبر ثيمات شيقة حوت (4) فصول وقد شملت القارة الإفريقية ذاكراً بها مغامراته، مستنطقاً بوحه الذي لا ينتهي عندما يمرق الأمكنة والجغرافيا والتعرف على عادات الشعوب، واصفاً الأجواء والطبيعة والميتافيزيقيا والتي كما وصفها كانت خارج الإطار المتعارف عليه، هو عالم يخفي الكثير من الأسرار ويوفر متعة لا تضاهيها متعة، فهناك من المخاطر المحتملة ما لا يحمد عقباها، حيثُ قطاع الطرق ووعورة المسالك التي قطعها وخطورة الأحراش التي تسكنها الزواحف والحيوانات المفترسة، خاصة تجربته الإقامة مع أعرق وأكبر القبائل الإفريقية قبائل (الماساي)، وفي الفصل الثاني رمى المؤلف مخيلة القارئ إلى القارة الآسيوية التي زار منها تسع دول متنقلاً بين جنباتها بالقطارات، راكباً أشهر أبراجها في (تايبيه)، ذاكراً ما مر عليه من أعاصير وفيضانات، معتلياً جبالها الخضراء عبر عربات "التلفريك" فهناك الشلالات المتساقطة وسط أصوات الكناري والغابات المهيبة بتياراتها النهرية الجارفة، وفي الفصل الثالث يسقطنا العنقودي في القارة الآسوية مرة أخرى عبر القارة الهندية واصفاً لها بأكثر القارات غرابة وحضارة والتي قضى بها ثلاثة شهور متواصلة، فهناك اعتلى أشهر جبالها (الهملايا) وهناك اخترق سهولها والتي يوجد بها أفضل الأماكن جذباً لعشاق رياضة المشي الجبلي.
وعندما تنوء قليلاً عن عالم الأسفار يحط بك المؤلف هذه المرة مرتحلاً عبر القارة العجوز القارة الأوروبية، فهناك أهم الأحداث التي صادفته في بداية أهم منعطف في حياته عندما بدأ دراسته اللغة الفرنسية والألمانية والإنجليزية لمدة سنتين.
بعد ذلك أخذ يهيم بنا المؤلف في كتابه "سَفرٌ لم يُرو بَعد" إلى عالم آخر من هواياته وهي هواية الرعي على خطى الأجداد والتي لازمته منذ أن كان يافعاً، إلى أن جال بنا في عالم الطبيعة البكر محلقاً بالقارئ عبر المساحات الخضراء وجمال البادية والصحاري الممتدة والتي حاول من خلالها التأقلم مع حياة القرويين وسط عديد من التحديات والمخاطر.
إن حب الأسفار المحتشدة في روح المؤلف الرحال خالد العنقودي تثير الفضول للدخول إلى عالمه المليء بالشغف، تجلي الوصف لدى المؤلف وحبه عندما تستيقظ عنده الكلمات على ناصية كل الدروب التي تطأها قدميه فيتلذذ بوصفها ليتيح لنا الحصول على قصة جميلة محبوكة بطريقة سردية عن أدب الرحلات. فالمؤلف الذي تصاحب يراعه وهو يخط حبره عبر قصصه مع الأسفار ومغامراته الغير مألوفة للجميع هو ذاته الذي إذا ما أُتيحت لك الفرصة مرافقته في سفر مصطحباً معه خارطة العالم متجولاً بين ثنايا الدول والدويلات مسربلاً ومسبغاً علينا روائع قصص الشعوب. لم يكتفي المؤلف أثناء ترحاله بمشاهدة الطبيعة وحياة الناس من بعيد فحسب، بل عكف على مخالطتهم والخوض في أجزاء من تفاصيل حياتهم الشائقة ومعرفة ما يكنون ويضمرون في حياتهم، محلقاً بنا بين أفراحهم وأتراحهم، بين همومهم وشجونهم، فأخذ يستنطق النص القصصي ليتحدث عن أحوالهم وحيواتهم ونمط العيش الذي اعتادوا عليه وكيف تسير مجريات الحياة لديهم. لم يعتمد المؤلف في كتابه "سفرٌ لم يُرو بَعد" على نسق واحد وهو يخترق هذه الدول في سفره فغاص بنا في أعماق أسرار الشعوب الذين عايشهم عندما سنحت له الفرص أثناء ترحاله، فأخذ يستنبت في حديثه عن الأسفار وذكر القصص التي تمر عليه كل حين. فبالإضافة إلى ذكره حياة الناس وحالة الترف في بعض الأمكنة، فعلى النقيض أسهب المؤلف على ذكر الشخصيات التي تقاطر قسوة الحياة وهذا ما نشاهده من خلال الصور المرفقة في الكتاب، مردفاً ما شاهده في قالب قصصي سردي شيق. ولا يختلف هذا الإصدار للكاتب نفسه عن أجواء إصداره الأول "أفينيو دو بيغست" فالصورة التي لازمت العنقودي في ذكر سير الناس الذين التقاهم ذات سفر عندما كان على مقاعد الدراسة، ذات الصورة أو تتشابه قليلاً في تفاصيل مجرياتها عن التي يسردها هنا أثناء ترحاله بين القارات.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام