بين الحكاية والحكاية؛ رحلة إلى السلّ.

يحيى المعشري ✍🏼
السبت ٢ مايو ٢٠٢٠م 

هذه العصرية تأتي بخبرٍ غير عن سابق العهد، بعد أن قررنا أن نمضي على جدولٍ جديد قبل حلول شهر رمضان بأفضاله الخيرّة؛ نسبر   أغوار الطبيعة بمكنوناتها الآسرة وقد حددنا سلاسلها الجبلية السامقة كممرات للمشي بين أحضان الطبيعة، وفي حين أن تخلف البعض لظروف ما، بقيت لحظات وقتية أتفرس الذاكرة، أحدقُ في ذلك الفضاء الممتد، أدلفُ الأفنية الفسيحة وقد تهشمت جرّاء تقادم الأزمنة، وقلت في سري، لـقد اعتاد  أبناء بلدة بوشر في سالف الوقت بين الفينة والأخرى وهم مثقلين بأماني البساطة، حيث تجمعهم الطرائد في أعشاشها وفي السماء الزرقاء المشبعة بأضواء أشعة الشمس الحارقة، كالبابو والورّاد وطائري السنيسلو والمصنيم بحجمهما الصغير والطائر الراقي الحسّاس المفشيش نديم "الفخ" الذي كان الأنسب لييتم اصطياد به، هذا الطائر المدلل الذي يمشي خيلا، يتراقص في أشجار السمر الصحراوية وكأنه خيلٌ من الخيول الأصيلة أو ملاحقة الثعالب "الحصيني" وفي تلكَ الفترة كنا نعده من الأكلات المحببة قبل أن يدخل في طائلة المنهيّات ومعرفة أخبار الطيور المهاجرة، مثل العشوي والنيروز وتحسس أخبار الوشق ذلك الحيوان البري من فصيلة السنوريات الذي يستوطن السهول والجبال وقد حكى عنه أسلافنا في وادي بوشر حكايات وحكايات ومثله رأيت في آسيا وأفريقيا، فمن ربوع بوشر بني عمران التي يشهد لها التاريخ أنّها أصالة وثقل الولاية ومن حارة قلهات بأشجارها الوارفة ونخيلها الباسقات ومن قرية صاد المتكحلة بإطلالة الجبال وشموخ آثار خلايا النحل وجال المرعى الفسيح وفيها كتبت عن شخصيات وأحداث وحارة الفتح المزدانة بالبيت الكبير، قلعة الفتح التي بناها السيد خميس بن سالم البوسعيدي للذود وإفلج وما جاورها من أحياء متناغمة على شموخ بيت المقحم وسيباء أرض العلم والفقهاء التي سامرناها وسامرتنا في نهارات ومساءات الذهاب إلى غلا والعودة منها بعد يوم جهيد. 
وعلى مفترق الطريق الذي يخترق "لجل الشمّ وأشجار الفرفار والسرح في ساقية الفلج وأنا أمتشق كاميرة هاتفي الهواوي، محدقًا في جبليّ العوينة وقني، توقفت على ناصية الدهرِ عند انبّلاج فجرِ الذكريات، تسوقني قدماي إليه، أذكره ورفاقي كل حين، نعودُ بالحنينِ سويعات إلى تلكَ الأيام؛ عندما كنا نلعب في ملعب القطويّة، ذلك الملعب المعفّر بالتراب، المفضي إلى مزرعة المعمورة عندما نتجاوز شباكه بعد ركلنا الكرة، ومن الواجهة نتجاوز الشارع الترابي الموارب على عابية المهيرمية، أُخطُ بقلمي في دفتر ذكرياتي؛ حكاية من حكايات الزمان، منذ أعوام وأنا أسفح الأيام فالأيام،  منذ أعوام وأنا أتلمظ  حبوبًا لمنع الذاكرة المتخمة بشوقٍ إلى شيء من بقايا الأيام وقد يلوم البعض الماضي وربما لا تروق له تلك الحكايات أو لا تعنيه وله ما أراد.

منذ أعوام  أنتعل الماضي ليعود الحنين لحظة ولحظات إلى صور غائبة لم توثقها الكاميرات ولا شبكات التواصل، لنرشقها في تويتر والأنستجرام وفي صفحة مارك الزرقاء الفي سبوك ليعيد تذكيرنا بها بعد عامٍ وأعوام، منذ أعوام والخطوات جاثمة إليه، منذ أعوام ومشاعري تهفو إليه في لحظات لن تنتّسى، فإن أثقلنا على الذاكرة بنسيان الأمكنة والأحداث، فمن لي بذلكَ الذي يُثقلها بنسيان الشخصيات التي سكنت المكان،  أتدرون من ` ذا الذي يسكن ذاكرتي الآن؟

 انه "السّل..
 السّل.. للمكان فتنة وله بهاؤه أيضًا، جبال شمٌ شاهقة مزدانة بألوانها الحمراء، الموشحة باللون اللازوردي المشوب بزخارف الماضي تحيط به من كل مكان، بقيّ صامدًا كأنه شيدّ ليبقى للأبد، حيثما ولّينا تتلقفنا الجبال قطعانا   وهو هناك يأخذ زاوية ومساحة كبيرة تشق المكان للوادي، بها حجارة بين الصغيرة والكبيرة، رغم إتيان مياه الوادي المختلطة بأنواع الأشجار والحجارة بأحجامها عليه ورغم أنك وأنت تطالع عليه منذ الوهلة الأولى تراه وقد شارف على الاندثار وقد تكلست جدرانه.

 جبال مهيبة فاتنة بين جنبات الوادي وكأنها تطبق عليه، انه "السّل" كما يحلو للأهالي تسميته وهو عبارة عن جدران اسمنتية  طويلة, مستطيلة الشكل تنسابُ منها المياه انسيابا، هناك حيثُ العيون ذات المياه الساخنة وهي تخرُ من الجبال لتمر على هذا المكان الذي شُيّدَ ليكون ملاذًا آمنًا من الحجارة المستاقطة من قمم الجبال المحيطة، وحافظًا لجريان المياه عليه مغبة أن تقع عليه الحيوانات المارة للبحث عن الكلأ والمرعى.

يمتازُ السّل بحرارة المياه فيه في أغلب فصول السنة؛ ليقصده الأهالي في فصل الشتاء على وجه الخصوص، وهم يرشون أجسادهم رشات الماء الغنية بالمعادن التي قدّ تتشابه في خصائصها مع المياه المنساية من شلالات حمامات ماعين في المملكة الأردنية الهاشمية، ثمة طرائق عديدة يعتمد بها الأهالي لرش الماء على أجسادهم بغرض الاستحمام والاستشفاء من السّل؛ أهمها استخدام القدح المصنوع من المواد الخام البلاستيكية وقد يقول قائل أن السل بالمصطلح الإنجليزي هو خلية. 
صورة حديثة للماء المناسب من السل. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر