ناصر بن سالم الحسني، عين على بوشر وعين على بوشر.



يحيى المعشري
الثلاثاء ١٠ مارس ٢٠٢٠م

أقبلَ عليَّ إسحاق وهو يتجشم عناء الحضور إلى مسقط رأسه حارة قلهات، بين متابعة بناء بيتهِ الجديد وبين جذوة الروح والأرض والتراب، حيث يسكن رفات الوالدين؛ ليخبرني بأن ناصر بن سالم الحسني يُقرؤك السلام ويريدكَ أن تخفرنا؛ لتكون أحد أعضاء الفريق الذي سُيمثّل ولاية بوشر في العيد الوطني الأربعين، حينها كنتُ على شفا جدار الوقت، بين التفكير وبين القرار المباشر، فالمخلصون لا يطلبون؛ بل يأمرون وقد سبق كل ذلك حوارٌ بيني وناصر بن سالم الحسني "أبو جمال"، في ملعب نادي بوشر عندما كان يرفل بالتراب وتتكور عليه ألسنة الغبار المتناثرة؛ كشظايا البلور المنثور، كان حوارًا واقتراحًا ينصب في صالح الولاية وقد قابلني وقابل أفكاري وغموض حديثي بإيماءة مرحبة، ولأنه لم يكن مجرد شخصية بوشروية عابرة ارتضت أن تكون طيف هُلامي يعبر أفئدة أبناء بوشر بسلام، ولم يكن ديمة عابرة لا تبرح أن تمكث حارة "افلج" فتمر بسلام إلى وجهتها؛ لــترش على المارين من مزنها، بل كان غيثًا يمسد على فلج بو سمان الذي ارتبط به وارتبط به كل قاطني حارات بوشر، فلم يكن بو سمان مجرى فلج أو قناة مائية فحسب، بل كان جزءً لا يتجزأ من التراث المادي والغير مادي وهو مورد سياحي ومصدر زراعي مهم لدى أبا جمال ومن يقطن ذلك الشطر البوشروي، فقد شَكْل معهم البعد التاريخي والحضاري؛ فيتجمع حوله في مواضع شتى أبناء الحارة والحارات المجاورة، إذًا فلج بو سمان هو ذلك المنجز الحضاري الإنساني الذي تسقي مياهه أغلب مزارع إفلج؛ فيجري على عوابي الجويزية ومن جهة الشمال على مزارع محمد بن زهران( الطائف وأرض العين وسبأ والنعمة والنبأ، إلى أن تنبت تلك الطفلة وتناغي أباها التي رعاها ذات زمن بكل حماسة فكأنه يقول: نحن سَادَة الأرض، ونحن من يذر الحبوب على الأراضي الضحلة فننبتها وتنبت معنا طلعًا نضيد ورطبًا جنيا، وعندما يدلق أبو جمال قفرانه في كبرة السيب ومطرح بعد يومٍ قضاه في بوشر بين أنياب التعب؛ بين نخيلها وسواقيها فيتفقد بلمسته الحانية التي لا تشبه أي لمسة، فقد كان يعرف أن الأفكار يجب أن تُرَسَّخ على أرض الواقع ويجب أن يكون لها مكانة في الميدان، مررتُ على نخيل بوشر السامقات وهي تكنس رياح القيظ والطناء وجنِّي الرُطب والتبسيل والفاغور في كل المراحل وقد كان أبو جمال البعبع الذي أراد أن يسجل حضوره كأحد الغيورين والمحبين على كل زاوية من زوايا الولاية وكأنه يعيش الحياة معها وبها، يتأمل الوجوه العابرة بين حناياها، يعيش بين شروقها وغروبها، بين شرودها وحضورها، وكلما أهفو خطوة بل خطوات وخطوات وخطوات إلى مزارع أرض العين والجويزية وإفلج والعوراء التي اكتحلت في عهده الإثمد؛ لتكون الحوراء الزاهية التي تحفها بساتين الأجداد وعلى حواف مسارات جباله الراسية كان أبو جمال، كأي أبناء ولاية بوشر يمتشق قفير الرطب؛ ليتفرس بأنامله "نتف" العسل الطبيعي الخالص وتتتابع خطواته في ذات المسير ويتعثر ويواصل السير بخطى متثاقلة؛ فجبال بوشر تبدو صلدة ولا يمخر عُبابها إلا أصحاب الهمم ومن يمتلك الجلّد والصلابة وتشرب من الحياة أيّما تشرب؛ لتحدق عيناه إلى منابت الزعتر، ومن على بعد مسافات طويلة وهو يمخر عُباب جبل إفلج السامق وعلى طريق الجيش القديم، كانت الجبال أشرعته وأمواجه وتوأمه التي تتناغم في حضرة وجوده وكان أبو جمال الظل الذي يخترق الأفلاج والمزارع والأبنية الطينية المتينة التي تشبه المصفوفة ويمر ومعه حلمه البسيط، ثمة أشجار السدر والسمر تعترض طريقه فيرمق أبو جمال الأعشاش ويسترق السمع إلى أصوات العصافير التي كانت تعني له ولمن سكن أحياء بوشر أرق السيمفونيات وأعذب من أي كروان، مرحبة به وكأنها تضرب معه موعدًا كالأجنحة المتشابكة؛ ليذهب في حال سبيله من بواكير الصباح إلى أن يعبث الليل بأواخر النهار.

كان أبو جمال؛ الأب والابن والرجل ما أن يتم ذكر سيرة بوشر، بدءًا من مهد طفولته في "إفلج" وانتهاءً برابية القرم، إلا وتجده يهب لافتدائها بكل ما يملك، وطوال السنين المنصرمة عندما كانت تمرُ علينا سيرتك ونحن لا زلنا صغارًا نمارس الّلعِب والمرح في سكيك ولاية بوشر وملعب المعمور ورابية أرض العين، كانت الأحاديث تطرق أبواب سيرتك؛ فأبا  الذي تمنطق سلاح الشجاعة والجرأة والإخلاص للولاية التي ترعرع وصُلْب عَوْدِه بها، كان كغيره في حارات بوشر إفلج يجتمع تحت مظلة أشجار بو سمان ويرتشف من مياه أفلاجه الغيلية التي يَخب في مصب حيضانه لتتوزع على المستفيدين في هندسة عالية الدقة والإتقان، ولم يمر عليّ العيد الوطني الأربعين دون أن أُشارك به؛ كأحد الذين أرادوا التعبير عن مشاعرهم تجاه الوطن عبر بوابة بوشر وقراها، حينها كانت أغلب الأشياء التنسيقية وبالعودة إلى المنطق الذي لا مراء ولا جدال به يحتويها أبو جمال الذي أُوكلت إليه أغلب تلك الأعمال، من تهيئة مكان التدريب وحفظ كلمات الأهازيج والشلاّت التي سكنت خلجان أبناء بوشر، وارد الخير مصيونة وشعب قابوس متفانِي، سادّ في الدار قانونه والأمل قاسي ودانِي، بدايةً من مكتب والي العامرات وانتهاءً بمعسكر المرتفعة الذي ضمّ عددَا من محافظات السلطنة، تجمعهم طريقة التعبير عن حب الوطن، مضمخين بتمتمات (الله، الوطن والسلطان)، وفي الساحات العامة كان أبو جمال يأمر أفراد فريقه الذي يضم أحياء بوشر من أقصاها إلى أقصاها؛ بأن يتجمهروا للتأهب لأداء أدوارهم؛ بعد التنسيق الدائم مع أفراد مكتب الوالي، أسمع صوته يناديني وأعتمر عمامتي؛ لأحضر الكرنفال الوطني التحضيري، كان كرنفالا وعرسًا وطنيًا وملحمة تتدفق في حب الوطن، وقبل أن تشرق علينا شمس كل صباح، إنها بواكير الفجر في كل يومٍ يتقاطر علينا الحس الوطني في داخل أبي جمال"؛لــ يطل علينا فيُسائلنا عن الفجر والبخور والصلوات والأمانة التي تحتم عليه الحضور في الصفوف الأمامية، فهو من يشعل فتيل الهمم ويبث روح القيادة في أعضاء فريقه الذين كانوا بفضل تعليماته على أهبة الاستعداد، ولأن شخصية أبو جمال وضعت ولاية بوشر الإشراقة التي تبعث ضوئِها في كل بيت وكل ضاحية وكل عابية من عوابي بوشر، أصبح همه وشغله الشاغل كيف تكون بوشر في الصدارة وكيف تعتلي الريادة وكيف يكون لها الحظوة والسبق في كافة الميادين، الرياضية والاجتماعية والمشاركات في المحافل الوطنية ولم تخبو همته عن المواضيع التي تهم كل فرد من أفراد الولاية.

أطلت النظر ذات يوم في صباحات شهر رمضان المتعبة وجلست أسترق السمع إلى صوتٍ تتعالى صيحاته بكل شموخ في مكتب محافظ مسقط في البستان وإذا به "ناصر بن سالم الحسني" ملازمًا النخب؛ ليكون أحد جداران السلام الذين يرمون عبارات الحق والحقيقة، فأخذ يطالب حاله حال المخلصين لكل شبر من أشبار الولاية، فلم يكن بذاك الصامت الذي ينظر من بعيد إلى الأفق؛ فتتلاشى غيماته، فالأيام تمضِ كالأشباح وتضمحل كالضباب، والعين ترمق الأراضِي السكنية كالحقول المنزوعة، والأيادي الخشنة التي عمّرت الأرض ذات زمن فأصابها الّلين واعتراها الوهن والنفوس هي ذاتها التي أناخت في أرض بوشر فلم تعد تحتمل الانتظار، فأُوجعت، لكنها لم ولن تستسلم،  وبقيّ أبناء الولاية على العهد الدائم والثقة فيمن يجثو على الرُكب حبا لا خنوعًا بحثا عن الحقيقة المضيئة، لم يلتحق يومًا أبو جمال بأرقى الجامعات ولا في أفخر الكليات ولم يعلّق أوشحة التخرج ولم يكن مهتمًا كما نفعل بالحسابات التي تؤرشف حضوره وتسطّر إنجازاته ولم يركن للأعمال التي تظهره للأنام؛ كأحد الغيورين المرتبطين بكل ناصية من نواصي بوشر، فكانت فلسفته وحدها الأفعال التي لا تنسى ولا يخفت بريقها، كان يتلفع برداء الغيرة عندما يُذكر اسم بوشر في أي مناسبة كانت، فصوت الحق لا يندمل ولا يخبو وبيوت الطين المهترئة التي لا يُسمع حسيس سكانها؛ كالدمى الخشبية؛ تعبث بها أنامل الأطفال، لم يكن من الذين يشقون طريق بوشر بوجاهة المجالس البلدية ولا تشريعات وأيدولوجيات الشورى ولا بوابات المسؤولية الاجتماعية التي بدأت تتصدر الشبكات العنكبوتية؛ فالغيورين عملة نادرة تحتاج إلى زمن وأزمنة.

ومن مثل أبي جمال يحمل أطنابًا من الآمال تجاه بوشر والوطن عُمان، فلم يحتج إلى مؤسسة تظله، فقد اكتوى بنيران الغربي في صيف بوشر؛ فأخذ يتفيأ ظلال النخيل والليمون والمستعفل والتين والحار حامض وهو ذاته الذي يستقبل عرشان "القياييظ" الآيبين من العامرات والخيران ويتي والعذيبة والمناطق الساحلية، وعند سؤالي خالد بن حمود الحسني عن ناصر بن سالم الحسني أخذ نفسًا عميقا وتحشرجت أنفاسه وبلع ريقه، فكأني به يقول: مررتُ على ميادين بوشر كلها، فكان أبو جمال أولها، تحركتُ في أزقتها وسكيكها فكانت أنفاسه تتقاطر على كل ناصية من نواصيها، تركتُ الأحاديث تتدفق فكان حديثه في مقدمتها، فدنوت من بيت المقحم وأرض العين، فلاح لي طيفه، فلم تغريه سُبل الحياة عن الحديث عن بوشر ومناقبها، مررتُ على القناطر التي تحتضن مياه بو سمان فكانت أحاديثها لا تخلو عن سيرته.

وفي ربوع الخوير وزحمة السيارات وتسابق الخطوات واصطفاف المحلات وقفتُ والندماء متصلّبي القامة، نصيخُ السمع إلى محمد الناصري، فكان حديثه عن السرير الطبي الذي حمل أبا جمال وأطرق الناصري يحدثنا عن الحالة المرضية التي ألمتّ به فجأة، فكنا نظن وكأي عارض يمر سريعا ويزول!

لم تغب عن ذهني جلسات أبو جمال وهو يسفح اللحظات ترويحًا عن النفس بعد أيامٍ عصية تمر عليه، راسمًا في خلده عن ما يسلي النفس ويروح عنها، فأجده في جلسات الحواليس حاضرًا وعند سيف بن عزيز الدرمكي "الرئيس" مسامرًا وبجوار أبا حمد الرقادي محدثًا ومازحا، فالأعمار تتقارب وشجو الأحاديث ينزع فتيل الجفاء ويربت على أوصال القرب، وجدتني سائرًا بين تلك الأحراش، متسربلًا عند كبرة البيع والشراء الخاصة بحمد العامري "بابا" في سوق بوشر الصافن بين إفلج وبني عمران، أجرُ خلفي أسئلة كانت غائرة، حتى إذا ما اقتربت من باب الدكاكين، التفتُ ذات اليمين وذات الشمال وإذا به جالسًا تحت ظلال السدرة، وبين تلك الأشجار المحتبكة؛ يطول الانتظار، فأدنو منه وإذا به صامتا على غير العادة، جلست بجانبه، أحدقُ بعينيه الكحيلتين، أتأبط معه أحاديث بوشر وشجوها، أطرق باب الذكريات عندما كنا معًا متوجهين إلى محافظة ظفار ذات سفر، وكان معنا وفي الباص أول الصاعدين وبعد أن يكتمل النصاب كان آخر المطمئنين، فالأمانة ثقيلة والمسؤولية تُحتم عليه الحفاظ والتأكد من سلامة أعضاء فريقه، واستمر بهمة عالية، لا تخبو ولا تكل ولا تمل ولم نمضِ معه كما كنا في الحفاظ على موروث الولاية، سكتنا لحظات نسترجع أنفاسنا ثم زادت بصوت تتابعه الأنّات فقد ضعفت هممنا وخارت قوانا، فقد غادر المشهد البوشروي ونحن نجر خلفه أحزاننا، عبقٌ ينثر شذاه بين أزقة ولاية بوشر ومقاصيرها، نخيلها وأفلاجها، ضواحيها وجدرانها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر