من سوكومفيت إلى سوق مايكلونج، أخطر سوق في العالم


صور متفرقة أثناء وجودي في سوق مايكلونج وأثناء مرور القطار في أخطر سوق في العالم
في صيف أكتوبري تايلاندي من عام 2016م، عرضت على رفيق الدرب "ناصر" الذهاب إلى وجهات أخرى لم أعتدّ عليها ولم يسبق لي حتى التفكير في الذهاب إليها، ويحدث ذلك معي غالبًا في سفراتي، فالمكان الذي أقوم بزيارته أجاهد النفس أن لا أجعله نسخة مكررة تحمل ما يدخل التململ فيّ ومن يصحبني في ترحالي، والجميل في الأمر أن يكون رفيق الدرب توأمُك في حركاتِكَ وأفكارك وسكناتك، همساتك وتجلياتك، ويملك ليس كل الصفات التي تحملها، وإنما شيء من الصفات التي تتحلى بها؛ حتى يتم الترحال بتوافق ومرونة دونما تعكير مزاج وما يقض المضاجع أو يعكر صفو المخطط الذي رسمناه.

السماء مشمسة وبانكوك هذا اليوم تبدو متوهجة يا يحيى، قال ناصر: نعم لكنّ ذلك لا ولم يثنينا عن عزمنا لزيارة مكانين كنا قد أدرجناهما ضمن مخطط اليوم ومن المتوقع أن يحدث ذلك من بواكير الصباح إلى أن تغرب شمس بانكوك وتتوشح الظلام وتلامس أعيننا أحزمة النور، فمن المسلمات هنا بعض الأماكن تحتاج إلى إعطاء النفس فسحة من الوقت ومجال للتأمل وسبر أغوار التساؤلات، تركنا سائق التوك توك يجر وراءه أذيال الأمل في أن نكون ضمن غنائمه هذا اليوم واخترنا أحد سائقي سيارات الأجرة المنتشرين في شارع نانا سوكومفيت، أقلنا السائق إلى السوق العائم "فلوتنج ماركت" بانكوك، وحين فرغنا منه توجهنا فورًا إلى السوق الذي وضعته ضمن أهم الزيارات في هذه الرحلة، حوقل "ناصر" قائلًا: لربما الوقت لا يسعنا ولربما سائق سيارة الأجرة لا يعرفه ولأنني أؤمن بالمحاولات وأؤمن أن "ناصر" لديه ذات الشعور وذات الهواجس؛ أردت وناصر أن نُقلب صفحة الخرسانات الإسمنتية وصخب المدن وصرير الفئران المتراقصة، هكذا كنا نمني النفس من خلال هذه الزيارة، فإمعان النظر في الأرياف والأسواق التقليدية ورؤية الباعة وهم يفترشون الطرقات، شيء من مبهجات النفس بعد صخب المدن وضجيج الأمكنة، ونحن على مشارف الوصول إلى محافظة ساموت سونخرام في الجهة الغربية للعاصمة بانكوك، ها هو سوق مايكلونغ يرمقنا من شرفة السيارة وها هي القرية الصغيرة القابعة خلف أسوار المدينة؛ تطل علينا، دلفنا مداخلها الضيقة ومن ربوة عالية انحدرنا إلى "قنطرة"، كانت بداية الحقيقة التي ثُتبث أننا في القرية التي بها سوق مايكلونغ (Train Market  ) وهو أخطر سوق في العالم؛ بمصطلح محركات البحث في الشبكات العنكبوتية،  وكما ذُكر في كثير من الصحف العالمية، تركت تلك الأقاويل وتركتُ التأويلات والانطباعات المسرودة في مواقع التقييم وقلت لـ "ناصر" نحن محظوظون أكثر من غيرنا من الذين غرّتهم المدينة "بانكوك" وداعبتهم أيادِ المساج والزيوت والأعشاب وهمهمات الاسترخاء، قطّب ناصر حاجبيه وقبل أن أكمل حديثي، باغتني قائلًا: يبدو أن القطار لديه مواعيد ومواقيت لعبور السوق ويبدو أننا نحتاج أن نُبلّغ السائق بأن ساعات الوقت ستدور وتدور وأن أحجية الغروب في كورنيش مطرح  وجبال بوشر ستطلُ علينا هنا في مملكة سيام، قابلته بابتسامة المتوهج الذي وجد الكنز ولأن حضارة تايلاند وما تتمتع به من تعدد في الثقافات وبما تحوي من إرث تاريخي ومخزون معرفي؛ كنزٌ متجدد، نعم قلت، علينا أن نسدي التعليمات للسائق ليسأل الباعة عن مواعيد القطار وجدول مساره، فرأيت في ما رأيت قبلة تستقطب السياح من كل مكان ورأيت اصطفاف الناس على خطٍ موازٍ في مسافة لا تتعدى الأمتار، ومع مرور الوقت وقضاء اللحظات، تبعثرت ساعات الانتظار، قلت لـ ناصر: انظر إلى الباعة الذين يتقابلون في البيع ويتقاطرون لقمة العيش وهم يمدون أرجلهم، باسطيّ أكفهم، يعرضون أصناف المنتجات المحلية التقليدية والأطعمة المعروضة من خضروات وفاكهة، تمعن بهم وأمعن النظر إلى أصناف المشغولات اليدوية وتحسس أصوات الباعة والموسيقا وتمازج الوجوه ولا تُشغل نفسك كثيرًا بما يعانيه الناس من تهافت الأقليات الآسيوية وتقاسم المعيشة معهم واسترق النظر إلى كل ابتسامة تخرج من هذا وذاك، قلت حقًا إنها بلاد الابتسامة كما ينعتها الكثيرون، وعندما كنا نحدق بهم، هالنا مشهد الشريط الحديدي الذي يخترق الباعة ويقَسمهم إلى فريقين، أو يتفرع إلى الجانبين، فريق في جهة الشرق وآخر في جهة الغرب ومن هنا وإلى هنا يتقاطر الناس المهووسون برؤية العجائب والغرائب في الشعوب من كافة أقطاب العالم ومشاربه، متأملين في الشعب التايلاندي الذي لم ينزعج من مرور القطار بين أمتعتهم ومبانيهم، فهنا يتم بيع مختلف البضائع وفي هذا السوق تصاحبه ظاهرة غريبة لا تحصل أو يندر حصولها في أي قطر أو أي سوق في العالم، حيثُ يمر عبره القطار بسرعة بطيئة، أشبه بسرعة بترام سان ستيفانو الإسكندرية، حينها يضطر الباعة من خلاله إلى إعادة بضائعهم وإغلاق محلاتهم لثوانٍ حتى تنتهِ فترة مرور القطار، ثمة أسئلة أرجأتها ولم أشأ إزعاج رفيق الدرب "ناصر"، فأخذنا ناصية مواربة نرتشف شراب "جوز الهند" ليقيننا أنه يحتوي على العديد من العناصر الغذائية التي تمدنا بالطاقة وتعيننا على مواصلة الانتظار وتحمل حرارة الجو ووهج أشعة الشمس الذي بدأ يتلاشى مع اقتراب موعد الغروب والأهم من ذلك كان كفيلًا بأن يسد ضمأنا في تلك اللحظة، عين على خط القطار وعين على التوافد البشري من أجل توثيق تلك اللحظة التاريخية، تلاشت الأسئلة وتركنا الأحاديث الجانبية، بدأ الناس يتوافدون وهاجت حركاتهم وانسلت كاميراتهم من غِمدها؛ ليوثقوها في سجلاتهم، من هذه الزاوية أتحسس الأنفاس المتشوقة لمرور القطار فرأيتها أكثر شغفًا منا ورأيت إصرارها يفوق ما تمنينا، وكان على القطار وكما هو المخطط له أن يعاود المرور ثمانِ مرات في اليوم، جيئةً وذهابا، واستمرت رحلة الانتظار عند مدخل القطار زهاء ساعتان ونصف الساعة، ولم تكن لحظة ولوج القطار لحظة تاريخية فحسب بالنسبة لنا، بل ما ملأ ساحة الانتظار صرخات وصيحات الناس المشدوهين والتعابير المطبوعة على وجوههم وهم يحدّقون إلى الحياة التي أوجدها هذا القطار للقاطنين في هذه القرية الصغيرة والنائية على حدٍ سواء، لربما تأتي الأوامر في قادم الأوقات بإزالته، فتزول حقبة مهمة من الحقب النادرة وهي من المستبعد لمثل هذه الشعوب التي أوجدت من الأخطار مصدرًا مهمًا يدر لهم الخير الوفير والنعم، وهي سياحة الغرائب والعجائب؛ من بالباحثين عن الشغف والنوادر، فأثناء مروره أخذ يحدث دويًا أرعب من كان معنا في استقباله وكان دأب الكثيرين كدأبنا وكان الجموع يتلفعون اللحظات ويطوقون منطقة دخول القطار بغية التوثيق وحال ذلك دون تمكننا من التوثيق الفوتوغرافي وفي مثل هذه الأوقات كان للتوثيق المرئي كلمته وهو أبلغ وأشمل؛ لإبراز المشاهد النادرة والغريبة.
الباعة المتجولين يفترشون الأرض بانتظار مرور القطار

لحظة انتظار القطار إلى أخطر سوق في العالم
 

 

تعليقات

إرسال تعليق

مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر