تطواف بين ميدان التحرير ورمسيس الثاني في رواق المتحف المصري


يحيى المعشري
 
 
يحدث أن تخرج من منزلكَ لتحدث نفسك بأسئلة عابرة تمرُ عليك فجأة في يومٍ تشعر فيه بالنشاط والحيوية، متسائلَا إلى أين الوجهة يا ترى وكأنك تائهٌ في الأمكنة التي ستحتضنكَ برهة من الوقت لتتوافق ورغبات العقل الباطني لديك- هكذا كنتُ أحدث قيس وفهد وناصر في الغرفة التي احتوتنا لأيامٍ في فندق "سيتي فيو" في القاهرة بعد العودة من عروس البحر الأبيض المتوسط الإسكندرية، حينها لم يخطر في بالنا إلى أي وجهة سنشدُ الرحال، فالتخطيط والبرنامج الذي وضعناه ونحن في مسقط رأسنا يقتضي الذهاب إلى الأقصر "مدينة الملوك" وأسوان "حاضنة النوبة" والبوابة الجنوبية لمصر، فتركنا البرنامج يمور في أكفّ الخيال واتجهنا من بواكير صباح اليوم الموالي إلى أحد المكاتب المعنية بتنسيق الرحلات الداخلية والسفر، كان المكتب في أسفل الفندق وهو عبارة عن بهو في الطابق الأسفل، به درج موصل إلى الأعلى، ونحن نمرق المكتب وعلى عتبة الباب المفضي إلى الداخل لاحت لنا فتاة باهية المنظر، نحيفة الخصر، متوسطة الطول، في مقتبل العمر وهي المتعهدة والموكل إليها إنهاء معاملات الرحلّ ومن على شاكلتنا ممن يستهويه التِطواف في الأمكنة والبحث عن الجديد لنشّد إليه الرحال، عندها وبعد أن أخبرناها برغبتنا الجامحة إلى زيارة الأقصر وأسوان، كان ردها على وجه السرعة "رحلتكم ده مش حتنجح" أومأتُ للرفاق بأن لا يتعجّلوا الحديث، وأن يتريثوا قليلًا فما قالته يحتاج إلى تمحيص وروية، نعم، هكذا فعلنا ولأن خطة هذه الزيارة رسمنا ملامحها ونحن في العاصمة العُمانية مسقط ولنترك لها المجال لتفرغ ما لديها وكنتُ أقرأ في معالم وجهها محاولة لإفشال مخططنا الذي كانت أهم معالمه وملامحه زيارة الأقصر وأسوان وبدون أن ننبس ببنت شفة قالت: الدنيا حر جامد، البرنامج ده مش هينفع" هكذا قالت وبدون مقدمات أو حتى بوادر لمجاملتنا وأردفت قائلة: عليكم أن تغيروا وجهتكم وأقترح أن تكون محطتكم المُقبلة "شرم الشيخ"، هتفتُ في سري وأنا المولع بزيارة المدينتين بعد ما قرأت عنهما في محركات البحث وتوغلت في المحتويات اليوتيوبية وعرفت شيء عنهما، لا بل أشياء من التفاصيل والمعالم التي رسخت فيّ الإصرار لزيارتهما، لذلك هرعت للاستزادة من المعلومات والكيفية والطريقة المناسبة لزيارتهما وأي الوسائل التي تتناسب وميولاتنا؛ لما تمتلك تلك المدينتين من حضارة وتاريخ عظيم تضما في جنباتهما من مخطوطات وآثار وتحف نفيسة تعادل ثلث آثار العالم كما يروَ، وهما لم تكونا ضمن الوجهات التي يقصدها غالبية السياح، خاصة من أبناء جلدتنا ومن يميل إلى سحنتنا، مددت يدي إلى ناصر وأتبعت ذات الحركة على قيس وفهد وبنظرات تلاقت معها الوجوه بالوجوه، إيماءة وابتسامة وحديث مقتضب دون الولوج إلى التفاصيل، يبدو أننا سنغير وجهتنا قلت: لم يبدي الرفاق انزعاجهم ولا عدم تقبلهم، خاصة أن مبلغ رحلتنا إلى شرم من ميدان التحرير عن كل شخص (100) دولار، أي ما يعادل (38) ريالًا عمانيًا، شاملًا وسيلة التنقل بالباص وفندق فئة ثلاث نجوم والإفطار، إضافة إلى ثلاث ليالٍ نقضيها بين أنياب شرم في هذا الصيف الحار وهي أقل من ناحية التكلفة بكثير وتحفظ ما تبقى لدينا من مبالغ لأيامٍ أطول عن الرحلة التي سنقضيها في الأقصر وأسوان، قليل من الهدوء وكثير من السعادة غمرتا الرفاق وكأني أقرأ أمارات الرضا عليهم، حينها وبلا تردد وقبل أن أنبس ببنت شفة قاطعني قيس قائلَا: موافقين وبدون أن يأخذ بمشورة البقية وفي كلِ الأحوال صفة الاستعجال هي من الصفات التي يتحلّى بها قيس وهي ليست بتلك السوء بقدر ما يحتفظ قيس بروح الألفة والوداعة وحب الاستكشاف والأخيرة من الصفات التي نشترك بها معًا في أغلب سفراتنا خارج حدود الوطن وداخله.

 

أحاديث ما قبل شدّ الرحال"

وبعد أن قمنا بحجز مقاعدنا في الباص الكبير استلمنا تذاكرنا ووضعناها في ظرفٍ أبيض، به اسم المكتب السياحي وبياناته وأرقام التواصل والمعرفات المعينة للوصول إلى المكتب في الشبكة العنكبوتية، تركنا النوم في تلك الليلة خلف أسوار الحلم وتعلقنا بمقاهي القاهرة لاحتساء القهوة المركزة التي تساعدنا أو تمدنا بالحيوية والنشاط وتمنع السهاد من أن يُطبق علينا، ولأن القاهرة هي حاضنة الليل والنهار فلا تكاد تصحو من هجعة الليل أو لم يغالبكَ النوم ويرف طرف عينيكَ فإنكَ وبلا تردد تستطيع أن تطرق أبواب أقرب مقهى، تنزوِ إليه وتختلي بنفسك وتعيش أرق الليالي مع أحدهم وهناك سيحدثك عن التاريخ والسياسة والفلسفة وليالي الطرب في أروقة القاهرة وأزقتها وقد يُقحمك عنوة دون أن تشعر في الفن والسينما وحياة الأبهات "زمان كان يا مكان"؛ فتعيش اللحظات ويمضي بكَ الوقت سريعًا كحصانٍ جامح فرّ من ضيم الرعاة أو يمكنك أن تخترق ميدان التحرير أكبر ميادين مصر على الإطلاق وأكبر ميادين القارة السمراء وهو مركز القاهرة وحاضن رمسيس وطلعت حرب وقصر العين ويمكنك التوجه إلى كوبري النيل، تشتم نسيمه، تستمتع بإطلالاته، تستمع إلى أصوات الباعة، تحدقُ في مراكب النيل أو تمعن نظركَ إلى عاشقين قررا أن يأخذا السيلفي ليوثقا لياليهم الحمراء في صفحاتهم في الفيس بوك وتويتر والأنستجرام والسناب وقبل أن تقفل عائدًا من نشوة النيل ورقص المراكب وتغنج أحصنة الحناطير والتمعن في بائعي الذرة والبقوليات وبارستا الشاي البلدي ورؤية التفاتة الكُتب على رواق الباعة الجائلين الذين يفترشون الطرقات؛ باحثين عن طالبي العلم والمعرفة ومحبي القراءة واستراق السمع إلى حسيس الورق تلو الورق في الروايات والقصص والسياسة والكتب العلمية  وكتب التنمية البشرية وما لذّ وطاب من الموسوعات وكتب التقنية والحاسوب، تُمعن النظر في الطفلة البهية البائسة التي تتأبط الورد في ساحة ميدان التحرير، تتحسس الكرم الحاتمي فينا؛ علّها تظفر بجنيهات تستطيع شراء لعبة أو قشاط أو حتى شراء جبنة بلدي تضعها في خِدر أبيها المُقعد وأمها التي خرجت هي الأخرى لتقول: أنا الحياة، أنا من يطفئ الظمأ، أنا الفزع الذي يعتريك عندما يلفَحُك النشيج، أنا الأم التي تركت متابعة التلفاز وتقليب القنوات ومشاهدة الطرب وتمايل الأجساد؛ لتبحث عن لقمة العيش وترسم بصص من الحياة على شفاه أبنائها، وبينما كنا نتبادل الصمت والتحديق في العربات والسيارات والناس والأمكنة؛ بغية انقضاء الوقت للتوجه إلى محطة الباصات (جو باص) في مدينة نصر بميدان التحرير في صيف القاهرة المسائي، ثمة أفئدة تفترش الأرصفة والأزقة وثمة أرواح تتوافد من كافة أقطاب العالم؛ لإنعاش الحياة في هذا الشارع، حينها ألقى أحد سائقي سيارات الأجرة حصاة السؤال في بركة السكون الذي يعتملنا، وبإصرار المحتاج الذي يبحث عن من يسلي عزوته ويغرف من جيبه الجنيهات كلماته، بل نداءاته التي تبين رغبته الجامحة لكي يوصلنا إلى أي مكان؛ بغية نفض الغبار عن محفظة الجمعية التي كانت تغازل عيناه، حشرجة بحجم ألم الحاجة لعلّ وراءهُ شيخ كبير يعيله أو أطفال يطلبونه كراسة أو أقلام ورغيف خبزٍ يسد حاجتهم قائلًا: بعد أن باغته "ناصر" مشاويرنا التي نحتاج ستكون على خدمة التنقل "أوبر" وبدون أن يُكمل ناصر حديثه رأيت أمارات الحنق والتهدج على محياه وبدأ يقطب حاجبيه وبصوتٍ عال أخذ يصرخ "أوبر ده خِرب بيتنا" لم تشفع له تعالي صرخاته عندما باغته "ناصر" معقبًا، نحن هنا جالسون فقط ولا نية لنا للذهاب إلى أيِ مشوار، من هنا نتأمل ونستذكر اللحظات التي مرقنا بها قبل أيام من زيارة المتحف المصري ومن هنا دخلنا عوالمه وطرقنا بوابته التي بدت هي الأخرى مرحبة بالوفود الذين يطلبون ودّها ويرمون بثقلِ أجسادهم عبر ممرها المفضي إلى الداخل وأمام نافذة شباك التذاكر يتدافع الناس من كلِ مكان، ولأننا من ذوات السحنة العربية نتشارك هذا الأمر وهو الذي أعطانا الإجازة الدائمة للدخول إلى الأماكن السياحية والأثرية وبأسعارٍ أقل عن بقية الشعوب ذات البشرة الحمراء أو شعوب العم سام وكذا الأمر ينطلي على شعوب شرق آسيا والأمريكتين وغيرهم ممن لا تنطبق عليهم الشروط ولا يتشاركون معنا العروبة وبدون موعدٍ سابق قررنا الولوج إلى المتحف المصري الذي نعتبره أحد أكبر وأشهر المتاحف العالمية وأقدمها على الإطلاق في رحلة البحث عن الجمال المفقود، وهو المتحف الذي أسس ليكون متحفًا على عكس المتاحف الأخرى في بقاع الأرض التي كانت إما قصرًا أو حصنًا أو معلمًا لا صلة له بالمتاحف، مررنا على الفناء الداخلي وبه إطلالة أولية على ملامح حضارة أبناء النيل فغمغمنا قائلين: كيف لهذا المتحف الذي تم تغيير مكانه من موقع لآخر إلى أن استقر به الحال في عهد الخديوي الثاني أن تلتف عليه هذه الأفواج من كل بقاع الأرض، دخلنا متاهته وبدأت التساؤلات من أين نبدأ وإلى أي وجهة سنولي، فرأينا من أتى مثلنا لذات الضالة لوحده ورأينا من أقبل رفقة مجموعات سياحية والآخرين أتوا بدافع التعليم وهم من الطلبة المصريين الذين يقرأون الهيروغليفية التي تتكون من (24) حرف وهي عبارة عن رسومات وهي الكتابة المصرية القديمة أو بما يعرف بالكتابة المُقدسة أو المقيمين من سائر أقطاب العالم وكان سعر الدخول للمتحف (20) جنيهًا للفرد الواحد وهو ثمنٌ بخس قياسًا بمتاحف العالم وسعر الدخول إلى متحف رمسيس الثاني "فرعون" قرابة (40) جنيهًا وهناك لم نستطيع أن نوثق دخلونا بالصور الضوئية؛ فالإجراءات حازمة والقوانين الدنيوية لا تجيز تصوير فرعون والأسعار رمزية قياسًا بحجم الصرح العظيم وبحجم الكم الهائل من المومياوات والأحجار والأخشاب والآثار والتاريخ الذي يحويه هذا المتحف. تركنا التساؤلات ويممنا السير بخطى ثابتة؛ فشاهدنا المنحوتات المنقوشة على القبور وهناك تُشكل الوفود جماعات، تحملق في هذا التكوين وفي الرواق القريب شاهدنا كتبة الملوك وحافظي أسرارهم يمسدون على فرشاة خصصت لتوثيق المخاطبات الرسمية والخاصة، يوثقون بها أحداثٍ تعود لقرون خلت وأسرار أمم أفلت وفي الدواخل تجد الملك توت عنخ آمون وأخناتون وأمنحوتب وتحتمس الثالث فرأينا أسرار الحضارة الفرعونية شامخة في أعلى تجلياتها، حينها أيقنا بأنه المتحف الكبير بحق وأننا لا نستطيع أن نسبر أغواره في يومٍ واحد.















































 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر