العمة عائشة أتت إلى دنيانا بصحيفة بيضاء ورحلت عنا بصحيفة بيضاء

("أنا صابرة، أنا صابرة والصبر فيه نعمة ونعيم)
يحيى المعشري

الأحد 8 ديسمبر 2019
 

ماذا تظنينَ
ماذا تظنينَ أننا فاعلون وأنتِ تُحملين على الآلةِ الحدباء، ماذا تظنين أننا فاعلون وأنتِ موشحة بالأكفان وحنوط الوداع وروائح الطيب
وألسنٌ تلهج بالدعاء

من كل وفي كل مكان
ماذا تظنينَ

وأعينٌ تذرف الدمع ونواحٌ وبُكاء
وأزيز هواء ديسمبري بارد

ماذا تظنينَ
وعقلٌ مشتت سكنه الضياع، وحزنٌ يطبق علينا

وحشرجة بألم الفراق
ماذا تظنينَ أننا فاعلون وحشرة اليعسوب تجثم على ليمونة منزل ابنك "سيف" وهي تحدقُ إلينا بألم الفراق وتلويحة الوداع وعامرٌ يسامرني العزاء ويسرد ذكرياته معكِ!

ماذا تظنين!!!؟
...////...
وعلى كرسي أحد المقاهي، كنتُ متكومًا باسترخاءٍ تام وسط أضواء خافتة وخوفٌ تملكني وتواءم معي هذه الأيام، كنتُ أحدقُ إلى الكراسي الخشبية والطاولات والأشياء المبعثرة في باحة المقهى، أتمعن في ألبوم هاتفي، أختلس النظر إلى الوميض المنبعث وإلى الصور القديمة التي قمتُ بتحديدها؛ لتكون ضمن قائمة المحذوفات وعندما بدأتُ أرسم حدود الصور الغير مرغوبة وقعت عيني على صورة العمة عائشة بنت خلفان المعشرية وهي تلازم كرسيًا، تستفرد به ويستفردُ بها ويجلس بجوارها شقيقها العم عبدالله، كان بصري معلقًا بتلك الصورة التي رأيتُ بها معالم الدهر وتتابع الأزمنة وحظوظ الأمكنة، وبينما كانت صورة العمة عائشة عالقة في ذهني، كنتُ أشعر بأن شيئًا ما يجثم على صدري وكنتُ أتحلى بالشجاعة وأتحيّن فرص الانتظار التي طالت وطالت؛ حينما تلقيت خبر تنويم العمة عائشة في المستشفى السلطاني، عندها بدى لي وأن ثقل العائلة بأجمع قد تحرك وقد بدأت الأسرة تطيل الحديث والحديث، فالحديث اليوم ليس عن عالم المال والأعمال ولا عن رأسمالية التجّار ولا عن الشؤون المجتمعية وأحوال الجلسات العصرية في زوايا بوشر وما وراء بوشر، بل الحديث اليوم  كان عن العمة عائشة "حفيدة الصحابة"، نعم حفيدة الصحابة؛ لأنها المحبة لذكر الله في السراء والضراء وحين البأس وهي من يلهج لسانها بالذكر في العشي والإبكار، فأمر الله في هذه الأيام اقتضى أن يداهم المرض العمة عائشة وهي في هذا العمر، فالأجساد ليست هي الأجساد والقوة التي تحلت بها ذات زمن ليست هي القوة، فشتان بين الأمس واليوم وبين تقادم الأزمنة، وعندما كانت تشجعنا على العمل وحب العمل ومعاونة الوالد سالم والعم عبدالله، حفظهما الله؛ فدورة الحياة تمر بمراحل عمرية والسلم الذي نصعده يبدأ بخطوة ثم تتوالى الخطوات والخطوات، وعندما كُنا نجلس على مائدة الطعام في منزلنا الحالي في "جال"، أخذنا نستذكر الماضي الذي ينير لنا زوايا البيت القديم في "قلهات"، عندما كانت العمة "عائشة" تضرب موعدًا مع شقيقتها العزيزة العمة "أسماء"؛ ليتوشح البيت بضياء الألفة واللقاءات الحميمية وتسامي القلوب وتسري في أرواحنا تلك الهواجس المتناغمة؛ فتُشعل فتيل الود والمحبة، وعندما تبدأ العمة "عائشة" الحديث كان كل من في البيت يلوذ بالصمت وتنكّس الرؤوس، ليس خوفًا وجبنا؛ بل احترامًا وإجلالًا لمكانتها وقدرها ويُخيم الصمت على المكان فكانت تطيل الحديث وتسرد الحكايا وتضحك تارة وتصنع البهجة في أكثر أحاديثها وتمتماتها، بين استذكار والدها الجد "خلفان بن سعيد" وأمها الجدة "شيخة بنت عبيد..."وبين تلك الأحاديث الشائقة التي تنقلنا معها بتذكرها سيرة مولد عُمان الحديثة وعُمان ما قبل النهضة، وكأني عندما أصيخ السمع إليها أقرأ كتاب "مُصلح على العرش قابوس بن سعيد" فهي لا تقل عُمقا عن ذكر أحداث عُمان وشخوصها عن الكاتب الروسي سيرجي بليخانوف وكتاب "تحفة الأعيان في سيرة أهل عُمان" لنور الدين السالمي واللؤلؤ الرطب" لشبيه الصحابة العلامة سعيد بن حمد الحارثي وغيرهم من مشايخ وعُلماء عمان الأقحاح الذين مخروا العالم وجابوا الأرض من أجل الاستزادة بالعلم والأدب وذكر سير ومناقب الصالحين الأخيار، هم مختلفون لأنهم وثّقوا مخطوطاتهم في كُتب بقت خالدة مدى الأزمان وتُقرأ بين الأنام، بينما العمة عائشة كانت تقرأ علينا شفهيًا وكانت توثق التاريخ بالأحاديث والحكايا وبأسلوبها الندي البسيط على الرغم أنها لم تتلقى العلم ولم يُتاح لها الحصول على المعارف، فالتجارب والاستذكار والإخلاص في الدين والوفاء مفاهيم كافية بأن تضعها في مرتبة العلماء، ولأننا لم نكن مغرمين بهذه العلوم في تلك الفترة، تركناها تلقي علينا القصص ونحن مشتتون في الأرض ولم نعلم بأن الأرض من تحت أقدامها تنضح علمًا وأدبًا وسلوكًا وخلقًا وهي مرتكز أساس في الحياة، وكعادتها العمة "أسماء" وبهدوئِها المعتاد ورحابة صدرها تؤيد ما تقوله أختها الكبرى وكانت ظِلها ونصيرتها وقلبها النابض وزهرة لوتس يتفتح بُرعمها وقد تبدى ذلكَ للجميع عند إطلالتهنّ على البيوت والأمكنة ولأن الارتباط الروحي والوجداني بهنّ كان في "قلهات" فزوايا بيتنا القديم يستنطق كل بارقة صباحية وكل لحظة نفتش بها على الغرف الضيقة وتلفازنا الصغير والقصبة الهوائية المعلقة في سطح منزلنا، نتحسس وجودهن نستلهم منهن تلك البساطة وحب الحياة وتبدأ العمة "عائشة" بنباهة بصيرتها وسكنات جسدها الطاهر تنادينا إلى أين أنتم ذاهبون يا أولادي وماذا تصنعون والعديد من النصائح التي تُلقيها علينا بين الفينة والفينة، فالسنوات التي علمتها مذ كانت طفلة إلى أن تدرجت في مراحلها العمرية والصعاب التي لازمتها كفيلة بأن تعطيها الأحقية أن تلقي علينا دروسا في الحياة لم يستطع إلقاءها من تصدّر كراسي الكليات والجامعات، فالمجرب والمعايش ليس كالمنظّر الذي لا يعرف زوايا بيته، ثمة بون شاسع وطريق طويل آخره سراب، ولأن العمر أخذ منهن والأيام تزحف لتزاحم الشهور والسنوات، فقد بدأت تقل زياراتهن وينحسر ذلك الطيف الجميل وتتلاشى بهجته الوضاءة ويضعف الوميض المشرق، يا لصعوبة الأيام ويا لضعف الإنسان، ولأننا مأسورين بزحمة الحياة وثقل المسؤوليات وأشياء من  اللامبالاة والقصور لم نسأل يومًا أو ربما الحياء المطبوع بداخلنا يجردنا من الهواجس المخبوءة في تلك الكتلة الضعيفة برؤوسنا ولم نشأ أن نُقحم أنفسنا في زحمة الأسئلة وتضارب الإجابات، وكان السؤال المطروح على غصون الأفكار، لمَ وكيفَ فقدت العمة "عائشة" بصرها في ريعان شبابها وفي تلك السنوات كانت العمة تتلفع بالحيوية والنشاط، كقريناتها الشابات في الأحياء البسيطة وأزقة القرى وجبالها وكهوفها ومزارِعها، وكان حلمها الوحيد أن ترتسم البهجة على وجوه الجميع ومن بواكير الصباح كانت تستلذ بسماع ضغيب الأرانب ونقنقة الدجاجات وتغاريد الطيور، فمن لا يمكنه رؤية ما حوله، يتحسس الأصوات ويستشعرها بحب؛ فتصبح أيقونته اليومية وروحه المعلقة كجرم سماوي لا يريد أن يبرح مكانه، وعلى مائدة الإفطار بمقاييس الأمس، حيثُ تتلاقى الوجوه بالوجوه وتتسامى النفوس وتتقارب الأفئدة كانت هي المتصدرة في ذلك المشهد وكانت هي المتسيدة، فكبير القوم سيدهم وهو آمرهم وهو من يُلقي النصائح ويسدي التعليمات ويستفتح المواضيع وبيده الحلول الناجعة، كنَّ بحق "كِحل الوجود"، ولأن المستوصفات كانت شحيحة بمقاييس اليوم والعقاقير كانت عملة نادرة ومن الصعوبة بمكان أن تجد ما تريد في غمضة عين كما يحصل اليوم والأيام ليست هي الأيام ولم تكن السيارات متاحة؛ فوسائل النقل ونتوءات الطرقات وحشرجتها، هي الأخرى شكّلت زنزانة تواءمت معهم، إضافة إلى أن الأطباء كانوا من الرجال وقد يكون من الأسباب التي حالت دون المضي إلى الطب؛ ليكون هو المنقذ والمخلص وشيء من تفاصيل التفاصيل ويبقى الأمر الحتمي الذي لا غضاضة فيه أن تتوجه العمة "عائشة" إلى ما يعرف بالطب البديل وسلمت أمرها لله وأخذت تقرأ المعوذّات والتمائم ويلهج لسانها ترطيبا بذكر الآيات القرآنية التي تلقتها في زمن "الكتاتيب"، تحت الأشجار أو الباحات التي يفترشونها في الساحات الترابية التي خُصصت لتكون مكانا يعج بالذكر، فكانت تلك الأمكنة وتلكم الشخوص معينها الذي لا ينضب ومعينا لها لإداء العبادات الصلوات التي تقربها من الله زلفى وبخطأٍ غير مغفور فقدت العمة "حفيدة الصحابة" بصرها وليس من كان مبصرًا وفقد بصره كالذي ولد كفيفًا، فالثاني أراه أهون وأخف وطأة وقد يتم الاعتراض على قولي من المجربين ولهم ذلك؛ فمن يكتب ليس كمن عاش مرارة الفقد، ولأن مشئية الخالق كانت أسبق فأطبقت على جفوها غيمة سوداء؛ مارست العمة عائشة حياتها بصبرٍ وجلد، وكعادتها لم تركن لأسر العمى وأغلال فقد البصر، فقد دأبت على تكرار الزيارات ومواصلة أقربائها، فأحبوها وأكرموها وأنزلوها منزل صدق وأغدقوا عليها من المحبة الكثير والكثير، ولأننا رهناء الأقدار ومجبولون على مواكبة الحياة بما تحمل، تلقينا نبأ مرضها بأسف وحنق على التفريط في حقها؛ فهي الأم وهي الأم وهي الأم والوطن الذي يضمنا وخلال فترة مكوثها في المشفى وعمرها الذي ناهز المائة عام، تبدى لنا بأن ساعة الرحيل قد أقبلت وأن الأقدار ستطوي دفتر حياتها؛ لتلتجئ إلى البارئ فهو حسبها وهو نعم النصير.
أحبت العمة عائشة أبناءها وأحفادها وذويها وجيرانها ومن داس تراب بوشر، أحبت العمة عائشة الحياة والإنسان وكلُ ما يحيط بها، فأيقنت منذ الصبابة وعينيها ترمق أبيها وأمها وإخوتها منذ أول الأصيل وعندما أغمضت عينيها تفتحت روحها وقلبها، فالأنّات لا تفيد والركون والخنوع والتذمر ليسا ديدنها، فتمسكت بالسبحة والسجادة وأصخت سمعها لصوت البراك والشريم والغامدي والسديس وغيرهم من مقرئي العالم الإسلامي. لقد رحلت العمة عائشة بعد أن قضت ريعان حياتها في "الجويزية" ومنها فاضت روحها وهي تمسد على أيادِ أبنائها سيف ومحمد وإبراهيم تلويحة الوداع وكانت تقول قبل أن تطوي آخر صفحاتها عشية الأحد من شهر ديسمبر للعام 2019 للميلاد ويهال على قبرها التراب في "صرمة سعيد" وتعطر بالعطر والورس "أنا صابرة، أنا صابرة والصبر فيه نعمة ونعيم.
وبشر الصابرين الذين قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون.
العمة عائشة "حفيدة الصحابة" بصحبة شقيقها العم عبدالله

ما كتب عن العمة عائشة

تعزئة نادي ظفار بعد تلقي خبر وفاة العمة عائشة
 
 

 

تعليقات

إرسال تعليق

مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر