العجوز التي نسيت أن تكون فتاة
يحيى المعشري 📝
السبت ١٧ أغسطس ٢٠١٩ م
السبت ١٧ أغسطس ٢٠١٩ م
...
مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا
...
شارع طلعت حرب "
بعد أن فرغنا من احتساء قهوتنا الصباحية في أزقة القاهرة الساحرة بميدان التحرير، انتبهنا أن النشاط بدأ يدب في سائر أعضاء أجسادنا بعد يوم سبقه قضيناه بين أنياب التعب معتمدين في تجوالنا على مواصلات القرويين، "الأتوبيس ومشروع" وغالبًا كنا نحث الخطى بأقدامنا والأخيرة أكثر ما تثيرني في السفر والترحال؛ ففيها أستطيع اسكتشاف ما لا يمكن اكتشافه أثناء التنقل بالمواصلات وفيها أستطيع معرفة تفاصيل التفاصيل في المدن والضواحي التي أرتحل اليها. القهوة اليوم أتت مفعول السحر فيّ والرفاق؛ ليس لأنها تحتوي على عنصر الكافين المنشط والمواد المنبهة فحسب، بل لأن المقهى يطل على الشارع الداخلي وعلى رواق ضيق يتيح لك المجال للتأمل والتفكر في تطويع الأشياء لخدمة الإنسان، محصورين بين إحدى الأشجار المعمرة وأراجيل الشيشة أشبه بالمصفوفة، هنا رغم الدخان الكثيف المنبعث وجدت بأن الطبيعة تتصالح معنا وتتسامى في أبهى تجلياتها، الكل هنا يتحدث عن السياسة، الكل يستفتح يومنا بأسئلة معتادة "انتوا منين" وعدد من الأسئلة التي اعتدنا عليها في سائر أرجاء مصر العظيمة.
حكاية شارع وكفاح امرأة"
ساد صمت رهيب بينما كان قيس ينبس ببعض العبارات وأحسست بالخدر يسري في عروقي، ارتعدت أوصالي وبدأت أتكوم خلف ظل بناية معمرة نستظل تحتها كما يستظل الرحالة تحت شجرة السنديان الضخمة؛ بدأتُ أحدق في يديها الوهنتين ولم أستطع أن أشيح بنظري عن الجلد الذابل المتدلي من سائر جسدها وقد بدى عمود ظهرها محدودبًا أثقله تعب السنين، رغم التعب البادئ على وجهها، رغم حركتها البطيئة المستقرة في دائرة محيطها لا يتجاوز الأمتار والمتوضعة في جزءٍ من شارع "طلعت حرب"، إلا أنها عندما تتراءى للرفاق ناصر وفهد وقيس، حيثُ العواطف الجياشة التي تلاحق ذلك الخيط الخفي من مشاعرهم، تلك العواطف ما هي إلا مشاعر تتوغل في حناياهم فتغور وتغور في قاعٍ لا نهاية له، إذن هي أشبه بعواطف الأم الرءوم التي تطبق على رضيعها بعد أن ينسل من رحمها.
صمت وذهول بدى على فهد قبل أن يلوّح بكلتا يديه قائلًا: رغم المشاق والعمل المجهد الذي تقوم به لم ألحظها تقف مطرقة الرأس شاردة الذهن، كانت تحكم براحة يدها اليمنى على ملقط الكنس ويدها الأخرى تضعها على خصرها؛ كمسندٍ تتكئ عليه من عناء العمل المضني وهي تقوم بكنس تلك البقعة من هذا الشارع المهم من تاريخ القاهرة في وسط البلد، أخرجتُ هاتفي الهواوي قليلًا؛ لأستزيد من معين المعرفة في الشبكة العنكبوتية عن تفاصيل التسمية وقلت للرفاق: شارع "طلعت حرب" الذي يقع بين ميدان التحرير وشارع 26 يوليو تعود تسميته إلى الرجل الاقتصادي والمفكر العظيم الذي رأى فيه جمال عبد الناصر الشخصية التي تحتاجها مصر؛ لتحل مكان ذاكرة الحقبة الصعبة والأحداث المشؤومة التي مرت عليها ليضع له تمثالا، فهو أبو الاقتصاد المصري ومؤسس البنك المصري الذي ما فتئ أن يخط الشارع باسمه فحسب، بل وضع له تمثالًا يؤكد أهميته؛ كشخصية في التاريخ المصري، فيبقى ذاكرة أخرى من شواهد شوارعها وأزقتها وكما يقال الشوارع ذاكرة الشعوب.
غطاء الرأس الذي تعتمره لم يوحي لي بأن منظمات حقوق الإنسان هي التي ابتعاته لها، قال ناصر: فقد كان لحافًا رقيقًا أشبه "بالليسو" الذي ترتديه العمانيات لا يقي قساوة حرارة أشعة الشمس الحارقة في هذا الفصل من شهر تموز، الحرارة على أوجها وبدأ الناس يتصببون العرق، فالعجوز ومن يتجول في نهارات القاهرة من هذا الفصل الحار يعرف كيف أن تقول الشمس كلمتها وكيف للإنسان أن يتحكم في مشاعره في مثل هذه الظروف، كيف إذا كانت العجوز التي شارفت على الثمانيين من العمر بحسب تقدير "قيس"، هي التي تستظل هذا السطوع المرهق، وجوه المارة بدأت تتصبب العرق وبدأت البقع تبلل القمصان الشفافة؛ لتتراءى لي من بعيد، الناس هنا لا يكترثون بمن حولهم وكأن الأرض ابتلعتهم، كلٌ يهتم في شؤون حياته، دأبت العجوز على تمشيط الشارع، تارة تتكئ على ملقط الكنس وتارة تلتقط بعدسة قرنيتها صورًا لجموع الناس الملتفون على "حلواني العبد"، فترمق لحظة اندفاع السيارات، فيتعالى أزيز المحركات وكأن الصوت المنبعث يشبه صوت امرأة تجهش بالبكاء تلتف على رضيعها الذي التقطته من أنقاض الحرب بعد أن فاضت روحه إلى بارئها، تلاشت أوهام المحركات والآلام وفواجع الحروب من مخيلتي؛ لأحدقُ في العجوز التي تمسح براحة يديها اليمنى على وجهها بعد أن يومض اللون الأخضر في إشارت المرور؛ معلنًا تحرك السيارات وبكم يدها اليسرى تحمي عينيها من دخول الغبار الذي بدأ يتطاير في كل مكان، فتستمر في الكنس وتستمر في عملها ونظراتنا إليها توحي لنا كمية النشاط الذي تتمتع به وكأنها فتاة عشرينية مفتونة بشبابها، تلفعت أبهى حلة وارتدت أجمل الملابس؛ لتحضر أحد أفلام الخيال العلمي أو أحد أفلام مصر الحديثة التي تتحدث عن الحضور المصري في شتى الميادين. استمرت في عملها وتركتنا نغوص في خيالاتنا وتركتني والرفاق نرهق أنفسنا بالتفكير في حالها وكأن الأمر لا يعنيها ونتتبع حسيس أقدامها الطاهرة وهي تدب الأرض بحثًا عن ما يخلفه المراهقين الذين لم يعيروا للبيئة والنظافة ما يدعو لاحترامها. وقبل أن نهم بمغادرة ذلك البساط المضّمخ بأحداث وأفكار ما برحت أن تنته بانتهاء زيارتنا الخاطفة وددت أن أسأل المرأة العجوز عن حالها وحال أبنائها وأسرتها وعشيرتها إن لم يكن هناك ما تخبئه الأقدار، وددت أن أتحين الفرصة المناسبة؛ لآخذ منها معلومة عن أدق التفاصيل في حياتها وما الذي جعلها تعمل هذا العمل الشاق وهي في هذا العمر وهو عمر الراحة والرخاء في البلدان التي يفيض من قعر منابعها النفط قبل أن يقاطعني أحد الرفاق سائلا: هيا نغادر ولنسأل العسكري "الشويش" عن وسائل المتعة والترفيه في هذا الشارع، فأومأ إيماءة إلى البعيد، حيثُ خيوط الغروب بدأت تتسلل فرأينا التاريخ والفنون والأبنية العتيقة في أبهى تجلياتها، رأينا ضجيج الشوارع المتداخلة والأبنية الإسمنتية الصماء بين بيوت وحجارة وأزقة جمعتها ذكريات عبر أناس عاشوا بين جدرانها ردحًا من الزمن، رأينا العسكري ببزته العسكرية البيضاء يحمل بندقية ملطخة بالسواد في كابينة صغيرة بالكاد تتسع لشخصٍ واحد فبدى عليه التمازج الذي جمع بين بياض قلوب المصريين رغم تقلبات الحياة وشظف العيش بما تحمل من مآسٍ والسواد الذي يواجهونه بأريحية وهم مدججون ببسالة الأبطال والبسمة على محياهم كما كانت تفعل المرأة العجوز وهي تكنس العوالق من شارع طلعت حرب بهمة ونشاط فتاة عشرينية يافعة.
ساد صمت رهيب بينما كان قيس ينبس ببعض العبارات وأحسست بالخدر يسري في عروقي، ارتعدت أوصالي وبدأت أتكوم خلف ظل بناية معمرة نستظل تحتها كما يستظل الرحالة تحت شجرة السنديان الضخمة؛ بدأتُ أحدق في يديها الوهنتين ولم أستطع أن أشيح بنظري عن الجلد الذابل المتدلي من سائر جسدها وقد بدى عمود ظهرها محدودبًا أثقله تعب السنين، رغم التعب البادئ على وجهها، رغم حركتها البطيئة المستقرة في دائرة محيطها لا يتجاوز الأمتار والمتوضعة في جزءٍ من شارع "طلعت حرب"، إلا أنها عندما تتراءى للرفاق ناصر وفهد وقيس، حيثُ العواطف الجياشة التي تلاحق ذلك الخيط الخفي من مشاعرهم، تلك العواطف ما هي إلا مشاعر تتوغل في حناياهم فتغور وتغور في قاعٍ لا نهاية له، إذن هي أشبه بعواطف الأم الرءوم التي تطبق على رضيعها بعد أن ينسل من رحمها.
صمت وذهول بدى على فهد قبل أن يلوّح بكلتا يديه قائلًا: رغم المشاق والعمل المجهد الذي تقوم به لم ألحظها تقف مطرقة الرأس شاردة الذهن، كانت تحكم براحة يدها اليمنى على ملقط الكنس ويدها الأخرى تضعها على خصرها؛ كمسندٍ تتكئ عليه من عناء العمل المضني وهي تقوم بكنس تلك البقعة من هذا الشارع المهم من تاريخ القاهرة في وسط البلد، أخرجتُ هاتفي الهواوي قليلًا؛ لأستزيد من معين المعرفة في الشبكة العنكبوتية عن تفاصيل التسمية وقلت للرفاق: شارع "طلعت حرب" الذي يقع بين ميدان التحرير وشارع 26 يوليو تعود تسميته إلى الرجل الاقتصادي والمفكر العظيم الذي رأى فيه جمال عبد الناصر الشخصية التي تحتاجها مصر؛ لتحل مكان ذاكرة الحقبة الصعبة والأحداث المشؤومة التي مرت عليها ليضع له تمثالا، فهو أبو الاقتصاد المصري ومؤسس البنك المصري الذي ما فتئ أن يخط الشارع باسمه فحسب، بل وضع له تمثالًا يؤكد أهميته؛ كشخصية في التاريخ المصري، فيبقى ذاكرة أخرى من شواهد شوارعها وأزقتها وكما يقال الشوارع ذاكرة الشعوب.
غطاء الرأس الذي تعتمره لم يوحي لي بأن منظمات حقوق الإنسان هي التي ابتعاته لها، قال ناصر: فقد كان لحافًا رقيقًا أشبه "بالليسو" الذي ترتديه العمانيات لا يقي قساوة حرارة أشعة الشمس الحارقة في هذا الفصل من شهر تموز، الحرارة على أوجها وبدأ الناس يتصببون العرق، فالعجوز ومن يتجول في نهارات القاهرة من هذا الفصل الحار يعرف كيف أن تقول الشمس كلمتها وكيف للإنسان أن يتحكم في مشاعره في مثل هذه الظروف، كيف إذا كانت العجوز التي شارفت على الثمانيين من العمر بحسب تقدير "قيس"، هي التي تستظل هذا السطوع المرهق، وجوه المارة بدأت تتصبب العرق وبدأت البقع تبلل القمصان الشفافة؛ لتتراءى لي من بعيد، الناس هنا لا يكترثون بمن حولهم وكأن الأرض ابتلعتهم، كلٌ يهتم في شؤون حياته، دأبت العجوز على تمشيط الشارع، تارة تتكئ على ملقط الكنس وتارة تلتقط بعدسة قرنيتها صورًا لجموع الناس الملتفون على "حلواني العبد"، فترمق لحظة اندفاع السيارات، فيتعالى أزيز المحركات وكأن الصوت المنبعث يشبه صوت امرأة تجهش بالبكاء تلتف على رضيعها الذي التقطته من أنقاض الحرب بعد أن فاضت روحه إلى بارئها، تلاشت أوهام المحركات والآلام وفواجع الحروب من مخيلتي؛ لأحدقُ في العجوز التي تمسح براحة يديها اليمنى على وجهها بعد أن يومض اللون الأخضر في إشارت المرور؛ معلنًا تحرك السيارات وبكم يدها اليسرى تحمي عينيها من دخول الغبار الذي بدأ يتطاير في كل مكان، فتستمر في الكنس وتستمر في عملها ونظراتنا إليها توحي لنا كمية النشاط الذي تتمتع به وكأنها فتاة عشرينية مفتونة بشبابها، تلفعت أبهى حلة وارتدت أجمل الملابس؛ لتحضر أحد أفلام الخيال العلمي أو أحد أفلام مصر الحديثة التي تتحدث عن الحضور المصري في شتى الميادين. استمرت في عملها وتركتنا نغوص في خيالاتنا وتركتني والرفاق نرهق أنفسنا بالتفكير في حالها وكأن الأمر لا يعنيها ونتتبع حسيس أقدامها الطاهرة وهي تدب الأرض بحثًا عن ما يخلفه المراهقين الذين لم يعيروا للبيئة والنظافة ما يدعو لاحترامها. وقبل أن نهم بمغادرة ذلك البساط المضّمخ بأحداث وأفكار ما برحت أن تنته بانتهاء زيارتنا الخاطفة وددت أن أسأل المرأة العجوز عن حالها وحال أبنائها وأسرتها وعشيرتها إن لم يكن هناك ما تخبئه الأقدار، وددت أن أتحين الفرصة المناسبة؛ لآخذ منها معلومة عن أدق التفاصيل في حياتها وما الذي جعلها تعمل هذا العمل الشاق وهي في هذا العمر وهو عمر الراحة والرخاء في البلدان التي يفيض من قعر منابعها النفط قبل أن يقاطعني أحد الرفاق سائلا: هيا نغادر ولنسأل العسكري "الشويش" عن وسائل المتعة والترفيه في هذا الشارع، فأومأ إيماءة إلى البعيد، حيثُ خيوط الغروب بدأت تتسلل فرأينا التاريخ والفنون والأبنية العتيقة في أبهى تجلياتها، رأينا ضجيج الشوارع المتداخلة والأبنية الإسمنتية الصماء بين بيوت وحجارة وأزقة جمعتها ذكريات عبر أناس عاشوا بين جدرانها ردحًا من الزمن، رأينا العسكري ببزته العسكرية البيضاء يحمل بندقية ملطخة بالسواد في كابينة صغيرة بالكاد تتسع لشخصٍ واحد فبدى عليه التمازج الذي جمع بين بياض قلوب المصريين رغم تقلبات الحياة وشظف العيش بما تحمل من مآسٍ والسواد الذي يواجهونه بأريحية وهم مدججون ببسالة الأبطال والبسمة على محياهم كما كانت تفعل المرأة العجوز وهي تكنس العوالق من شارع طلعت حرب بهمة ونشاط فتاة عشرينية يافعة.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام