روبابيكيا
يحيى المعشري 📝
الثلاثاء ٦ أغسطس ٢٠١٩م
...
مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا
...
يندفع باستماتة العاشق للقيا المعشوق وتندفع معه أحلامه إلى ذلك العالم المليء بالعديد من مفاصل الحياة التي تتجلى فيها التحديات بما تحمل من أماني وطموحات، يخترق الطرقات ويلامس أزقة قرى مصر المليئة بالأحداث التي يجد فيها المرتحل لذة أخرى تضاهي تطوافه بين أحيائها وأفنيتها، بين مقاهيها وساحاتها، بين أنفاقها وجسورها، هكذا اندلقت عبارة خاطفة من الحاج يسري بعد أن سألته عن ماذا يفعل هذا الشاب العشريني وما معنى الصوت الذي يصدح به من الصباح الباكر، صمت الحاج يسري لبرهة من الوقت وأخذ يشعل سيجارته؛ لينفث سحبًا من الدخان تمامًا كما فعل محمود درويش وهو يجلس على أريكته في مقهى الفيشاوي في خان الخليلي بأريحية فبدأ يمط شفتيه ممتعضا، كدأب الماغوط والمثقفين الذي ارتبط اسمهم بمعاقرة الدخان وهم على مائدة الكتابة. يفرغون ما لديهم من كنوز معرفية وأدبية؛ لتخرج روائعهم للأنام.
في ماذا تفكر؟ سؤال عابر طرحه الحاج يسري وأنا أجول بنظري يمنةً ويسرة في أزقة الإبراهيمية في ليالي الإسكندرية الحالمة، قلت ماذا يجر هذا السائق وما الذي بداخل جوف العربة ولماذا يمر هذا الشاب من الصباح الباكر إلى المساء يقصد الأزقة بين المنازل وفي الأحياء الشعبية ولماذا يحدقُ إلى شرفات المنازل والمشربيات ويصرخ بأعلى صوته "بيكيا"، مرددًا ذات الكلمة وتمتمات أخرى لم أستطع استيعابها أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، بدأت أطلق لمخيلتي العنان وبدأت التنصت عليه وقرنائه كلما مروا بجوار الأزقة والشوارع وعلى حواف البنايات المتصدعة، أردفت قائلًا: في زيارتي الأولى إلى جمهورية مصر في عام 2009 كنتُ أتأمل العديد من المشاهد من خلال المعايشات اللحظية التي تمر عليّ بين الفينة والأخرى، أصيخ إلى ذلك الصوت المنبعث من هناك، الذي بدأ يتسلل من النوافذ والجدران الصدئة، حيثُ المكان الذي يفرغ من البشر، حيثُ الناس يغطّون في نومٍ عميق، أسترق السمع إلى صوت صاحب العربة وهو يصدح بأعلى صوته من أول انبلاج خيوط الفجر، أحدقُ في المآذن والكنائس؛ لعل الصوت هذا ينبئ عن طقس من الطقوس الجميلة في مصر ولا غرو في ذلك فإن مصر تجمع العديد من الثقافات وهي ملتقى يقصده الناس من كافة أصقاع العالم، أحاول لملمة أفكاري فتذكرت بأن المصعد الكهربائي في البناية يحتاج إلى وقت وجهد حتى ينطلق من الأسفل إلى الأعلى في رحلة البحث عن الساكنين، تلاشت الأفكار التي داهمتني فجأة وجثمت على مخيلتي وجعلتُ أدقق في الشاب الذي يجر العربة الحديدية، كانت العربة تستند على إطارٍ قديم أشبه بإطارات الدراجات البخارية وهي ذات العربة التي رأيت أحدهم يقودها في شارع "طلعت حرب" بجوار مقهى ريش بالقاهرة، لكنها عملية أكثر وتمتاز بالسرعة وعندما تملكني وتمكن مني الفضول لمعرفة ماذا تعني كلمة "بيكيا" التي يطلقها سائقي هذه العربات الصغيرة الأشبه بالآلة الحدباء "النعش".
ماذا يوجد بداخل العربة وماذا تعني كلمة "بيكيا" قلت: حدق إليّ الحاج يسري باستغراب فوقفت منتصب القامة مشدوهًا من ردة فعله رافضًا كومة الدخان التي بدأت تعكر المكان وبدأت تلف جسدي من كل الاتجاهات، أزحت بيدي بعض الدخان المتراكم، انتبه لذلك وأخذ يغض الطرف وكأن شيئًا لم يكن، على الفور بدأت أتساءل هل أنا مخطئ في سؤالي وهل اقترفت من الذنوب لتترك الحاج يسري يثور قبل أن تظهر الابتسامة على محياه وقال وبدون مقدمات: كلمة "بيكيا" هي اختصار لكلمة "روبابيكيا" وهي إيطالية الصرف والمعنى وتعني الأشياء أو الملابس القديمة وهذه الكلمات تؤكد اندماج الثقافيات والجنسيات في مصر والجنسية الإيطالية على وجه الخصوص، قاطعته مبتسمًا لأني حصلت على معلومة مهمة بالنسبة لي وتفسيره هذا مكسب اهتديت إليه؛ ليشفي غليل تساؤلاتي؛ لأنه ردّ على تساؤلات لم أجد لها جواب منذ سنوات طويلة وبقت حبيسة الذاكرة وأردف قائلًا: سائق الربوبيكيا لدينا في مصر ومحافظاتها يسمى "السرّيح"، عندها بدأت أخمن في معنى كلمة "السرّيح" لربما هي في من يسرح ويجول في الأرض بحثًا عن قوت يومه، يمر على الميادين والأحياء، عقّب الحاج يسري إن "السرّيح" في تطوافه اليومي يقوم برحلات شاقة باحثًا عن الرزق، معيلًا لأسرته، مستشرفًا مستقبله من وراء هذه المهنة التي لا تتطلب شهادات جامعية ولا دورات تدريبية، تماديتُ في الأسئلة وقلتُ له ماذا يحمل في العربة وبدون مقدمات قال: متعلقات الحديد "الخردة" والبلاستيك والأجهزة الإلكترونية والأثاث المنزلي والأدوات الصحية وغيرها من المقتنيات المستعملة، مستعملة؟! سؤال آخر بعد أن قطبت حاجبي واضعًا استفهامات وعلامات تعجب، نعم مستعملة وأغلب ما يحمل "السرّيح" هي أدوات مستعملة هكذا قال الحاج يسري وهكذا بدأ يعرفني على كلمة "بيكيا" وبين الصمت الكبير ورائحة القهوة المصرية أحسست بالخدر يندفع في عروقي اندفاع الدماء في الوريد وبحصولي على هذه المعلومات التي أشبعت فضولي كان الدخان مبتسمًا وكنت بدأت التعود عليه وزادتني رائحته طيبا فلم أعد ذلك الذي يلوح بكلتا يديه مبعدًا الدخان في شعور تهكمي ينم عن عدم القبول والرضا، عزمته على قهوة في مكانٍ آخر يتفوق في أناقته وجمال تصاميمه وكانت قهوة "ليالي الحلمية" حتى أعود بالذاكرة إلى المسلسل الذي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالممثل الشهير صلاح السعدني في رائعة درامية خطتها أنامل المتألق أسامة أنور عكاشة، ربت على كتفه وأزحت هالات الغضب التي طبعتها على وجهه في بادئ الحوار، طلبت من البارستا أن يمدنا بكأسين من الشاي الكشري على الطريقة المصرية الأصيلة وزاد على طلبنا كأسين من الماء اندلقت من الحاج يسري معلومات أخرى كإضافة تلطف الأجواء، عزيزي يحيى "روبابيكيا" بمفومها المختصر هي إعادة تدوير الأشياء وإنعاشها؛ لتعود إلى الحياة مجددًا وبثوب مختلف بعد أن أصابها التلف أو التململ من قبل مالكها أو رغبة تجديد أثاث البيوت الجديدة، هتفت في حماس قائلًا: ماذا بعد وفي غمرة تعمق شفتينا الغائرتين في احتساء الشاي الكشري والتلذذ بمذاقه ومشاهدة الجموع البشرية تلتف على المكان، توجد عربات "الكارو" أيضًا قال الحاج يسري: باغته "كارو" وما هي؟ متابعًا عربة "الكارو" تجرها الحمير والأحصنة وهي عبارة عن عربة خشبية تؤدي ذات الغرض، حالها حال العديد من العربات التي تدخل في أعمال الـ"روبابيكيا" والبسطاء يستخدمونها علاوة إلى هدفها المهني والحصول على قوتهم اليومي وتكوين ثرواتهم لممارسة هواياتهم على أرصفة الطرقات ومدرجات الملاعب في وهج آخر يضيف لـ"السرّيحة" مزيدًا من التوائم مع الحياة بكل ما تحمل من مفارقات.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام