في حضرة مزرعة "بدع سدرة"
يحيى المعشري 📖
السبت ١٩ أكتوبر ٢٠١٩م.
... /////... ...
دفلت حيّ قلهات في بوشر في الساعات الأولى من بواكير الصباح، دلفته ويغلبني الحنين إلى مهد الطفولة ومعانقة تفاصيل الصبا، ظللت أمشي كالذي يسير مجدورًا من أرق السنين، امتشق كاميرة هاتفي الهواواي الممتلئة حد التخمة وعيني على شيء من الذكريات، رميت بكلتا مشاعري جانبًا ودثرت السنين بما تحمل من جمال وبؤس، من تواءُم وتنافر، تركت الشارع الموارب لبيتنا القديم وألقيت عليه تحية الوداع القريب على أمل العودة متى ما سمحت الأقدار، غمغمت بيني وبين نفسي في ذهول إلى حجم التغيير الذي طرأ على المكان والناس وما يحوي من تفاصيل، على الشوارع الداخلية واصطفاف السيارات المركونة عند بيت الراحل محمد بن عدي، على الباحة في وسط الحيّ التي كانت فيما مضى تستقبلنا كالجمرة في حرارتها من الشوق،كانت حجارة مصفوفة بثقل السنين، نجلس عليها في صباحاتنا ومساءاتنا التي تمر علينا بعد أن يداهمنا الصباح وتتلاشى عتمة الليالي القائظة ونور القمر يقبل ريق الأرواح الحالمة، بعد أن نفرغ من ملاحقة نحلات العسل في قمم جبال "قني" والعوينة"، بعد أن نقضي ساعات طويلة في مداعبة المستديرة التي أسرت العالم بأسره، فتحتُ عيني بتثاقل وتفاجأت بالبوابة التي تتوسط مزرعة "بدع سدرة" تُفتح على مصراعيها، انتابني شيء من الفضول وبدأت أسترق النظر إليها من أعلى بيتنا القديم، لمحتُ أحد العمال يحملُ أرتالًا من الأثاث والمفروشات تتبع أحد الفرق الخيرية، بدأت أتفرس الساحة المغطاة بصفائح معدنية "شينكو"، أشحت بنظري قبل أن تستقبلني تلك النخلة المحدودبة الساق، رأيتها تستند على "السجالة"؛ كاتكاء الرضيع في حمى والدته، أتفحصها وأذني تصخ إلى صوت البيدار ذات زمن وهو ينشد الأهازيج بفرح وصوته يصدح من بين المزارع؛ فيسمعه الصغار والكبار ويتركون كبار المغنيين في إذاعة صوت العرب هنا مصر؛ ليشنفوا آذانهم بسماع البيدار ببساطته المعتادة يدلق عباراته الشجية قائلًا:
يا جداد اخدم على عيالك
وعيال عيالك يو جداد
يا جداد لن طاح ميرادك
يالعجوز اشتلي
قالت امشتله
وهلم جراء تتابع الكلمات والعبارات بأسلوب بسيط وفريد، في تلك اللحظة كنتُ على موعدٍ مسبق قد سلب مني اللحظات القادمة، كنتُ بحاجة للتحدث مع إنسان أو الجلوس معه فلم أجد إلا العامل الآسيوي ولم أسلم من رده المقتضب عندما سألته ماذا يفعل ولماذا هذه الشاحنة تخترق مزرعة "بدع سدرة" ولماذا هذه الكرفانات بأحراشها تستلقي مكان الفرض والخنيزي والخصاب والخلاص، لماذا ولماذا، أسئلة حائرة تركتها قبل أن أقفل عائدًا بعدما أنهيت المهمة التي أتيت من أجلها وقد أطبقت جفوني غمامة لا تريد أن تبرح مكانها.
السبت ١٩ أكتوبر ٢٠١٩م.
... /////... ...
دفلت حيّ قلهات في بوشر في الساعات الأولى من بواكير الصباح، دلفته ويغلبني الحنين إلى مهد الطفولة ومعانقة تفاصيل الصبا، ظللت أمشي كالذي يسير مجدورًا من أرق السنين، امتشق كاميرة هاتفي الهواواي الممتلئة حد التخمة وعيني على شيء من الذكريات، رميت بكلتا مشاعري جانبًا ودثرت السنين بما تحمل من جمال وبؤس، من تواءُم وتنافر، تركت الشارع الموارب لبيتنا القديم وألقيت عليه تحية الوداع القريب على أمل العودة متى ما سمحت الأقدار، غمغمت بيني وبين نفسي في ذهول إلى حجم التغيير الذي طرأ على المكان والناس وما يحوي من تفاصيل، على الشوارع الداخلية واصطفاف السيارات المركونة عند بيت الراحل محمد بن عدي، على الباحة في وسط الحيّ التي كانت فيما مضى تستقبلنا كالجمرة في حرارتها من الشوق،كانت حجارة مصفوفة بثقل السنين، نجلس عليها في صباحاتنا ومساءاتنا التي تمر علينا بعد أن يداهمنا الصباح وتتلاشى عتمة الليالي القائظة ونور القمر يقبل ريق الأرواح الحالمة، بعد أن نفرغ من ملاحقة نحلات العسل في قمم جبال "قني" والعوينة"، بعد أن نقضي ساعات طويلة في مداعبة المستديرة التي أسرت العالم بأسره، فتحتُ عيني بتثاقل وتفاجأت بالبوابة التي تتوسط مزرعة "بدع سدرة" تُفتح على مصراعيها، انتابني شيء من الفضول وبدأت أسترق النظر إليها من أعلى بيتنا القديم، لمحتُ أحد العمال يحملُ أرتالًا من الأثاث والمفروشات تتبع أحد الفرق الخيرية، بدأت أتفرس الساحة المغطاة بصفائح معدنية "شينكو"، أشحت بنظري قبل أن تستقبلني تلك النخلة المحدودبة الساق، رأيتها تستند على "السجالة"؛ كاتكاء الرضيع في حمى والدته، أتفحصها وأذني تصخ إلى صوت البيدار ذات زمن وهو ينشد الأهازيج بفرح وصوته يصدح من بين المزارع؛ فيسمعه الصغار والكبار ويتركون كبار المغنيين في إذاعة صوت العرب هنا مصر؛ ليشنفوا آذانهم بسماع البيدار ببساطته المعتادة يدلق عباراته الشجية قائلًا:
يا جداد اخدم على عيالك
وعيال عيالك يو جداد
يا جداد لن طاح ميرادك
يالعجوز اشتلي
قالت امشتله
وهلم جراء تتابع الكلمات والعبارات بأسلوب بسيط وفريد، في تلك اللحظة كنتُ على موعدٍ مسبق قد سلب مني اللحظات القادمة، كنتُ بحاجة للتحدث مع إنسان أو الجلوس معه فلم أجد إلا العامل الآسيوي ولم أسلم من رده المقتضب عندما سألته ماذا يفعل ولماذا هذه الشاحنة تخترق مزرعة "بدع سدرة" ولماذا هذه الكرفانات بأحراشها تستلقي مكان الفرض والخنيزي والخصاب والخلاص، لماذا ولماذا، أسئلة حائرة تركتها قبل أن أقفل عائدًا بعدما أنهيت المهمة التي أتيت من أجلها وقد أطبقت جفوني غمامة لا تريد أن تبرح مكانها.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام