اطلالة مسائية على مطعم روزنة التراثي وعين على بيت الرديدة رفقة ندماء العمل.


 ... /////...
يحيى المعشري 📝
الأربعاء ٩ أكتوبر ٢٠١٩م
... /////...

ذات مساء كنا قد أتممنا العمل المعتاد بروتينه اليومي بين أوراق الوثائق والمحفوظات وبين أجهزة الحواسيب التي بدأت تعبث بالأبصار وتنتشل الدمعة الحائرة حدبة الأعين الناعسة بين ممرات المكاتب، نسترق النظر إلى الساعات في الحائط بمركز سلامة وجودة الغذاء، نستمع إلى دبيب أقدام الموظفين والموظفات في دائرتيّ العلاقات والتعاون الدولي والتوعية والإعلام؛ الزاحفين إلى أجهزة البصمة المنظمة لساعات العمل التي نقضيها في المجتمع الوظيفي.
تركنا مكاتب العمل مجدورين بأرق الليل الطويل، تمعنا في البيارق المرفرفة في أعالي البلديات، تمعنا كآخر نظرة عابرة؛ فرأينا كحِل الإثمد المغروس على عيون الغجريات الذي أثار الجدل على مواصفاته القياسية في مركز مختبرات الأغدية والمياه ذات زمن، رأيتُ فيما رأيت ضوءٌ خافت يتسلل من بين جدران المكاتب، رأيتُ العزيز صالح الرزيقي يلوّح بكلتا يديه وكأنه يناديني هلم يا صديقي نتبادل أطراف الحوار هنا في مكتب التوظيف، هلم إليّ قبل أن أهم بالرحيل، رأيتُ الممر الداخلي المفضي إلى مخرج البوابة في مقر العمل يحجب أشعة الشمس وكأنه مظلة كوزيت في رواية هوجو البؤساء التي تقيها من غزارة المطر؛ جرّاء القمع المقيت من المتمردة تينارديه، وفي سكون المكاتب وهدأة المكان كان صوت طرقات عمال المنشآت هو الوحيد الذي يحدث ذلك الضجيج، ثمة أعمال مهمة تتهيأ لنا؛ لتكون بيئة عمل صالحة لممارسة ما يمكن إنجازه ونحن نطرق أبواب العمل رائحين وعائدين من بواكير الصباح إلى بداية إطلالة المساء، تحدثنا بعمق واستفاضة وتحدثت معنا الهياكل التنظيمية والتقسيمات الداخلية وما وراء هذا وذاك، وبينما كنا منهمكين في الحديث رنّ هاتفي كالرنين المغناطيسي على جماجم الموتى، فرمقت الاسم فإذا به المهندس علي الغافري وبدون مقدمات أخذ ينعتني "كابتن" أين أنت، اليوم موعد لقاءنا مع المهندس باسم الزدجالي في لقاء محبة وإخاء نخرج فيه من دائرة العمل وما وراء العمل من أصداء، جلسة أخرى تضاف إلى رصيد أهمية تجسير العلاقات خارج المنظومة العملية في المجتمع الوظيفي، وأثناء الحديث علقت المكالمة ووضعتها على مكبر الصوت؛ لكي أترك المجال للصديق صالح الرزيقي يسترق السمع وإذا به يومئ بالإيجاب وبدون مقدمات قال: أنا معكم.
وعند نيل الموافقة من الجميع قررنا الذهاب إلى مطعم "روزنة" في مرتفعات المطار، على أن نستكمل زيارتنا إلى مركز المؤتمرات والمعارض في مدينة العِرفان الذي يحتضن واحدة من أهم أعماله في صناعة المؤتمرات والمعارض وهو صنّاع عُمان، حينها لم نكن مطلوبون في الإنتربول أكبر منظمة شرطية دولية ولم نكن مرغمين على السير خلف دياجير الظلام على الرغم من التعب الذي نال منا، كيف لا، فالبعض رافقته الأحلام الوردية بعد أن خامرتهم طِوال جنح الظلام؛ فأخذ الأرق منهم وتسلل إليهم السهاد إلى أن دنت خيوط الصباح بعد انبلاج الهزيع الأول من الفجر، فاندفعنا إلى المدخل الرئيس في مطعم روزنة فانكشفت لنا عوالم تارخية وتراثية تعود إلى سنوات خلت، فقد لاحت لنا سيارات كلاسيكية تعود إلى محركات الهندل وربما كانت تخلو من عناصر الراحة والرفاهية المفرطة، وفي زاوية أخرى يجري فلج أشبه بفلج الخطمين في بيت الرديدة الذي يرد مياه الأودية عن بركة الموز، ويبدو المشهد الخارجي مختلف كثيرًا عن الباحة الداخلية "الحوش" في نوعية التصاميم المستوحاة من التراث العُماني الأصيل، فبمجرد أن ترمق العين هذا البورتريه التراثي يلج إلى مغامرة في سيميائية الصور والتشكيل في مقاربة سيميولوجية هامة في العلوم، إلا أن في مطعم "الروزنة" لم يكن المشهد كما تصورت على الأقل في الرؤية الخارجية، تركنا الباحة تتفيأ الجمال وتركنا من خلفنا من جاليات إمتاع أعينهم كما كنا نفعل قبل قليل وفي المدخل إلى الرواق الداخلي استبحنا لأنفسنا رؤية ما لم نراه في الخارج، وفي غمرة تدافع الناس وقرقعة الصحون أخذنا طاولة محشورة في زاوية أشبه بأديرة المتصوفين في حقول شامونيه الفرنسية، وعلى وقع أصوات أبناء جلدتنا الذين ملئوا الطاولات قمنا نسترق النظر إلى المشهد الذي غدا رافدا وتشجيع للمشاريع العمانية الواعدة، تبادلنا الحديث بانتظار النادلة أن تحضر الطعام وكان صوت الأذان أقرب إلينا من صوت النادلة، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، برح صالح الطاولة؛ لأداء صلاة العصر فقد كنا قد أتممناها قبيل المجيء إلى هنا، رمقنا قائمة الطعام المحشورة بأصناف المأكولات، نقلبها ذات اليمين وذات الشمال، نستمع إلى صوت الماء المفزوع في قعر البئر، أشحت بنظري إلى ناصية مواربة قِبل "المجمرة" و"الملهبة" والسعف والخوص، رأيت كابينة الاستقبال تزفنا أن أقبلوا يا رفقاء الحياة، وبعد الانتهاء من طقوس الطعام وإشباع البطون مما لذّ وطاب، حمدنا الله على وافر نعماه، تركتُ طاولة الطعام المهزومة والمجردة من كل شيء فورًا وتركت خلفي كل الزملاء؛ يفيضون بأسئلتهم من هنا وهناك، يقضون الوقت بين شجون العمل وتململ بين غلبة النوم والصحو، يشنفون آذانهم على وقع أغنية الراحل طلال مداح
زمان الصمت
حبيبي ياحبيبي/
كتبت اسمك على صوتي/
كتبته في جدار الوقت
على لون السما الهادي/ على الوادي
على موتي وميلادي/
حبيبي لو أيادي الصمت.. خذتني لو ملتني ليل
حبيبي ياحبيبي
أنا عمري انتظاري لك
لاتحرمني حياتي لك/
وترحل .. صرختي .. وتذبل..
وقبل أن يفرغون من سماع زمان الصمت بدأوا يهرعون إلى "صفة" حبوه ونزوى وبوشر وحبابوه، يتمعنون في الأضواء الخافتة وهي تومض طوب الطين المرصوص على الجدران، يتفرسون المثاعيب المتدلية من الأعلى، مفجوعون ومنهكون بعد يومٍ قضون بين أنياب التعب، وبعد أن وثق الندماء لقاءهم هذا في أجهزتهم المحمولة قفلنا عائدين إلى حيثُ نركن سياراتنا موعودون بيوم جديد وحوارات جديدة هانئة خارج أسوار العمل.
 























 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر