من كامب شيزار إلى حمام كليوباترا
يحيى المعشري 📝
"مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا"
"مشاهدات ومعايشات من أم الدنيا"
الاثنين ٩ سبتمبر ٢٠١٩م
![]() |
رواية من كامب شيراز إلى حمام كليوباترا |
وفي أيار من العام المنصرم ٢٠١٨ م كنا واقفين متقابلين نتجرع مرارة الانتظار وبؤس البحث عند الكراسي الممتلئة بالسحنات الآسيوية في مطار مسقط الدولي، حينها قد حزمت حقيبة سفري، صغيرة الحجم كبيرة المحتوى، قاصدًا زيارة أرض الكنانة جمهورية مصر وإلى الإسكندرية عروس البحر المتوسط كانت محطتنا الأولى، وفي ذلك الفصل كانت الأجواء جميلة ومنعشة ولكّي تزور الإسكندرية وضواحيها في هذا الوقت كان عليكَ أن تعمل في حسابك إنك مُقبل على فصل يمتاز بين البرودة والأجواء المعتدلة وكان عليكَ أن تتوشح الملابس الثقيلة كإجراء احترازي؛ لتقي نفسك لسعات البرد القارسة، وبعد أن يبدأ النهار يرخي سدوله وتتوالى النجوم السطوع في السماء شيئًا فشيئا. أخذت سفينة التفكير تموج ذات اليمين وذات الشمال، وفي حين قررنا السكن في شقة صغيرة تحوينا في اليوم الأول، كان بصري معلقًا بذلك الفضاء الذي رمم البيوت القديمة، كنتُ أحدق باستحياء وأتمتم في نفسي متسائلًا هل هذه هي الإسكندرية التي رأيتها في المسلسلات والأفلام المصرية في حين زمن، هل هذه هي المدينة التي تطل علينا ونحن صبية برؤية بائع الفول وأنواع البقوليات وهو يجر عربته مناديًا زبائنه بعفوية لا متناهية، أين بائع الجرائد الذي ينادي إهرام، جمهورية، إهرام ويمسد بيده الأخرى على كتب نجيب محفوظ والعقاد وغيرهم من الذين ملأوا ساحة الأدب المصري والعربي وشغلوا الدنيا بنتاجاتهم الأدبية والفكرية، بدى لي كل شيء لم يتكشف من الوهلة الأولى، إذًا هي دهشة البدايات، دفنت تلك الإيحاءات جانبًا وتركتُ رفيق السفر يتفاوض مع أحد ملاك المكاتب العقارية، أشرف السمسار؛ عله ينقذنا من عناء التجوال وثقل الأمتعة وزحمة التساؤلات، ثمرة التفاوضات كانت ليلة رائعة من ليالِ الإبراهيمية، ذلك الحي الذي يقع بوسط البلد وهو أحد أقدم أحياء الإسكندرية الذي يتهافت عليه الناس من كل حدب من أجل قضاء لحظات جميلة تخلد ذاكراتهم وتوثق زياراتهم في أحياء الإسكندرية، الشقة كانت صغيرة، ليس مهما، الأهم أن موقعها لم يرق لنا ولم تكن ضمن خياراتنا المطلوبة، وفي اليوم الموالي قررنا البحث عن شقة مطلة على البحر "باصة على البحر" لأننا لم نجد مطلبنا في الإبراهيمية، فقررنا البحث في منطقة كامب شيزار التابعة لحي وسط البلد، هذا الاسم الذي تركني أتجول في الشبكة العنكبوتية للاستزادة بمعلومات أستطيع من خلالها فهم التسمية وإلى أي لغة تنتمي وما المعنى المراد من هذه التسمية وأي زائر للإسكندرية وبمجرد أن يلتقط الاسم ويُطبع في ذاكرته؛ تبدأ لديه التأويلات والتحليلات والتساؤلات، حينها قاطعني رفيقي قائلًا: منطقة كامب شيزار من المناطق العريقة التي تشتهر بوجود جاليات أجنبية في حقبة ما ولا زالت بعض العقارات مملوكة لأصول أجنبية كما تشاهد أمامك، كامب شيزار تعني معسكر القيصر كما تشير المصادر عندما حضر القائد الروماني يوليوس قيصر إلى الإسكندرية لفك النزاع القائم بين كليوباترا وأخيها بطليموس الصغير على حكم مصر، حيثُ أقام معسكره وثكناته خارج الحدود، أخذني الفضول للبحث في محرك الفضاء الإلكتروني "جوجل" فوجدتُ اسم رواية لكاتبة سويسرية كان مهدها الأول في الإسكندرية قبل أن تعود رفقة عائلتها إلى وطنهم الأم، ثمة انتماء غريب يسكن دواخلنا للأرض التي نزورها برهة من الزمن، نتذكر صباحاتها ومساءاتها، شخوصها ومقاهيها، نتأمل أبنيتها وشوارعها، كيف وإن كنا بدأنا نحلق منها أولى مراحل حياتنا، يبدو أن الكاتبة قد خطت روايتها بدم القلب، لا حبر القلم كما يبدو لي، وما زادني رغبة لقراءتها والحصول على نسخة منها؛ عشقي للإسكندرية وتنظيم المدينة رغم قدم الأبنية وتآكل الطرقات، وبغية الاطلاع على النوع الآخر من الأدب السويسري؛ الذي يؤرشف تاريخ واحدة من أعرق المدن العربية لكاتبة يافعة تذكرت حكايات المدينة التي قضت بها أجمل فصول حياتها وهي طفولتها.
انقضت الزيارة؛ وفي عام 2019 أثناء البطولة الإفريقية عزمت للحصول على نسختي من هذه الرواية بعد أن أبلغت الرفاق بنيتي، وبعد البحث والتحري، باءت جل محاولاتي بالفشل، أشهر المكتبات المنتشحة في أرجاء الإسكندرية لا تتوفر لديها النسخة رغم انتشارها في الأزقة والميادين وحواف الطرقات، رأيتني تائهًا أنهض كل صباح للبحث عنها، أتجول في المدينة، أستنشق انتعاشة الصباح أرتشف قهوتي من البارستا "القهوجي"، امتلئ بالندى، عبق الصباح يزيدني رغبة في البحث، أتفحص في المداخل والمخارج، تصميم المدينة ينبئك بالحميمية والتآلف، اجتماع الناس على أنبوب الشيشة رغم قُبحها وقبح كومة الدخان المتطايرة وفنجان قهوة نهاري، تستشف بأنها المدينة الاجتماعية التي تجد في أزقتها نفس المدينة المليئة بالحياة، لا عليكَ يا يحيى قال أحد الرفاق: غدًا موعدنا لزيارة مكتبة الإسكندرية العظيمة، لا تتعجل الأمر ولا تيأس، لا زالت رحلة البحث قائمة، تلك الكلمات رغم بساطتها بدت لي عميقة، نعم عميقة جدًا إلى حد لا يمكن تخيله، وفي اليوم الموالي توجهنا وكلنا أمل لرؤية كنز من كنوز المعرفة والثقافة قاطبة وهي مكتبة الإسكندرية لما تحويه من معارف وأبحاث لا يمكن عدها وحصرها، وفي ذات الوقت أرنو للحصول على نسختي من الرواية، اندفعنا لدخول المكتبة بلهفة المشتاق، شوق عارم تملكنا وفي مكتب الاستعلامات أخذت أولى محاولاتي، قبل ذلك جثوت مسرعًا إلى ردهة من ردهات المكتبة وبدأ الرفاق يستلون أجهزتهم لأخذ صور تذكارية لمعالم المكتبة، في حين فتحت هاتفي وعلى محرك البحث وجدتُ بأن تدشين الرواية كان في أحد أروقة المكتبة، توجهت فورًا إلى مكتب الاستعلامات للاستفسار عن كيفية الحصول على نسختي وأين يمكن أن أجد الرواية، انتفضت فجأة أتحسس علامة النصر والفوز بالحصول على نسختي قبل أن يطبع عليّ موظف الاستعلامات بعد دخوله محرك البحث الداخلي للمكتبة قائلًا: لا تتوفر لديّ معلومات عن النسخة ولا عن الكاتبة، وقفتُ مشدوهًا لبرهة من الزمن وبدى على وجهي الوجوم وعدم تقبل رد موظف الاستعلامات وعندما قرأ ملامح وجهي، سألني مجددًا عن اسم الرواية، مثّل الهدوء في حركة جسمه، اختلست ارتعادة أوصاله، فقد لاح في الأفق القريب حركة سريعة لقدميه؛ فرأيتها تتلاصق وتبتعد وكأنه في مضمار رياضي يقوم بإحماء التمارين السويدية، لم تظهر، قال الموظف: عقدتُ حاجبيّ وألقيت نظرة تعجب، قبل أباغته بأن ينظر إلى هاتفي، كنتُ قد عرضت عليه رؤية الخبر المكتوب في محرك البحث، مط شفتيه وقال في برود: كما هو واضح بأن التدشين قد تم هنا في المكتبة وكيف لمحرك البحث الداخلي لم يتعرف عليها، حينها أومأ لي بأن أتوجه إلى مركز دراسات الإسكندرية وحضارات البحر المتوسط بالمكتبة، حيثُ مكان تدشين الرواية، ففيها رسمت الكاتبة طفولتها وفيها قويّ عودها، حيثُ بداية تشكلها وتكوينها، فتتحدث فيها عن تعدد الثقافات في الإسكندرية في مطلع القرن العشرين وما تتمتع به الجاليات السويسرية التي وجدت لها متكأً هناك، من عادات وتقاليد وشواهد تحكي حقبة وجودهم وتاريخ تغلغلهم، نزلت الرواق الذي وصفه لي موظف الاستعلامات وهو في مكان أشبه بالبهو بالدور الأرضي، أتفحص الممرات والكتب المصفوفة في المكتبة، أتأمل حجمها الكبير، علوّها الشاهق، دبيب أقدام الأفئدة التي تستزيد من معارف المكتبة، اندفاع الزائرين من مختلف الجنسيات ومن كافة أصقاع المعمورة، أرمقُ العدسات التي توثق الصور التذكارية للزائرين، أحدق في القنوات المتلفزة العربية والأجنبية التي وجدت من المكتبة مكان خصب لتوثيق الأخبار ونشر المعرفة، لعله مونتاج لتقرير ثقافي يُعرض في إحدى القنوات العالمية التي أرادت أن تُعرّف الناس بهذا المكنون الثقافي، تركتُ الضجيج والحراك البشري الذي يتوافد وتوجهت إلى حيثُ أجد الرواية بحسب ما أفاد موظف الاستعلامات، دخلت مكان أشبه بلعبة المتاهات، مستعرضًا المعلومات المدونة في محرك البحث جوجل وبعد عملية بحثٍ دامت زهاء الساعة ونصف الساعة وجدت ضالتي، نعم وجدت ضالتي، وجدتني أتمتم وحدي ولمع البريق في وجهي وأبديت أمارات الرضا، هكذا كانت مشاعري عند سماعي أحد الموظفين يحدثني بأنها موجودة وهنا تم تدشينها وقبل أن أعبّر عن مشاعري بصوت عال، هذه النسخة غير معربة أي باللغة الإنجليزية، قال موظف المكتبة: هكذا بدت مداخلته في بادئ الأمر قبل أن يضيف هذه هي النسخة الوحيدة وليست للبيع وبإمكانك تصوير ما يروق لك بالهاتف ويمكنك أن تكتب ما تريد إن رغبت، وكأن الحمى داهمتني فجأة، بدأ العرق يتصبب مع ارتعاشة لا إرادية في أوصالي وفي حديثٍ مطول بعد أن فقدت الأمل في الحصول على نسختي من الرواية لاحظ موظف المكتبة على ملامح وجهي نظرة العتاب، بلعت ريقي وغمغمت في صمت وتحدثت في سري، كيف لمكتبة بحجم مكتبة الإسكندرية، تحتوي على عدد كبير من مخطوطات العالم، صرح علمي ومعرفي تليق بالنبلاء وعموم الناس، كيف لمكتبة بها هذه الرواية التي لا أعلم مدى قيمتها الأدبية والتاريخية، لا يهم المهم هي المكان الذي احتضن تدشين الرواية للكاتبة السويسرية "إيثر زيميرلي"، كيف لا تقوم بتعريب الرواية وعرضها في المكتبات الخارجية؛ لتتيح للناس قراءة شيء من ملامح الإسكندرية في تلك الحقبة بعيون أخرى غير مصرية وقبل أن أقفل عائدًا بعد أن باغتني الزملاء في مجموعة "أم الدنيا" الواتسابية؛ معلنين موعد الرحيل، قلتُ له على عجالة افسحوا الطريق لرواية "من كامب شيزار إلى حمام كليوباترا".
وللكاتبة السويسرية كتاب آخر هو "رحلتي إلى مصر" وهو مترجم إلى العربية.
ردحذف