من شرفة الحسين، تأملات في خان الخليلي



من الرواق الداخلي بمقهى الفيشاوي القاهرة


وبعد أن وصلنا إلى فندق الحسين السياحي بعد أن قمنا بتغيير الاتفاق المبرم بيننا قبل أن تحطّ أقدامنا مطار القاهرة الدولي، كنا على يقين تام بأن ما تم الاتفاق عليه سوف نتمكن من تنفيذه، إلا أن في السفر بعض الاتفاقات قد تتنازل عنها؛ لأسباب مهمة تصب في صالح الجماعة المرتحلين، المحملين بأمتعة السفر، تخفرهم الأشواق إلى صفحة جديدة وبلد جديد، فأنا من الأشخاص الذين لا يميلون إلى الوجهات المسيرة عن طريق مكاتب السفر والسياحة، باختصار لأن برامجها تتوافق ورغبات مُعد البرنامج وقد تلبي ما يحتاجه المسافر من الرحلة؛ لاختلاف الأمزجة والميولات بين شخصٍ وآخر، أما في رحلتنا هذه فقد توارت فكرة السكن في المهندسين، لأن أغلب الشقق التي مررنا عليها كانت في حالة غير مرضية ولا تلبي الطموحات، علاوة عن استنزافنا الكثير من الوقت في عملية البحث عن سكن ملائم.



وفور العثور عن مأوى نرخي به أجسادنا من عناء السفر؛ لنغفو ويتجدد النشاط، فتتحرك الدماء في أوردتنا، فإن فندق الحسين السياحي هو الملاذ وهو المقصد الذي يستطيع أن يجمعنا والرضا والتوافق دائماً وأبداً هو ديدننا، ومع إنهاء إجراءات الدخول عكف الرفاق مشدوهين على رؤية الجموع البشرية التي تتوافد على منطقة الحسين، متلذذين برؤية مداخله ومخارجه، يتتبعون دبيب الأقدام التي تنساق قبالة حاجز الشرطة الذين أخذوا من الوحدة القابعة في زاوية الشارع مكانًا للتأكد من خلو أي ما يقلق راحة المسافرين الذين تأسرهم هذه المنطقة بالتحديد، وفي خضّم تحليق الرفاق على قوافل الغادين والعائدين من شرفة الفندق، تراءى لهم مسجد الحسين الشريف بمآذنه التي شارفت على الوميض؛ لدنو أول الليل إيذانًا بأفول النهار، فأخذت المنطقة تتلبس ثوب الضياء وأخذت قبة جامع الحسين الشريف تتزين باستقبال الأضواء الخافتة، كنتُ أسترق السمع إلى صوت الرفاق "فهد وناصر" من الشرفة المواربة في الغرفة (30) من الدور الثاني، فكان مجمل ما شدهم المكان والشخوص من مختلف السحنات والمشارب، وبجواري "قيس" الذي قرأ وتابع القصص اليوتيبية عن هذه المنطقة في عين الرحالة الذين يحكون عن معايشاتهم وانطباعاتهم، ساردًا في قوله: هذه المنطقة توالت عليها عهود خلت وما نراه الآن هي إضافات لمن سبقهم في العهد الفاطمي، مسترسلا، مسجد الحسين في حيّ الجمالية، يعتبر أحد أهم المساجد المقدسة في القاهرة، متابعًا، يُقال بأن به مقام الإمام الحسين بن علي وبين الحقيقة وما يروَ يتكفل التاريخ بإثبات الحقائق أو دحضها ما يهمنا هنا في هذا التطواف هو التعايش والاختلاط بمختلف الثقافات وسبر أغوار الأمكنة بما تحويه من مقتنيات وطقوس، ففي جامع الحسين ثمة أنين وتسبيح من كل الاتجاهات، دموع تنهمر كالغدير على ضفاف ترعة النيل، نداءات ومناجاة، وفي مضجع الحسين الشريف أصبح الناس كالعجزة لا يقوون على امتلاك أنفسهم، وعلى وقع صوت المبتهل فوزي الشاب اليانع الذي حرك شجوني كمزمار من أصوات السماء، كترنيمة النقشبندي على تكية السادات، تجمعنا على صحن المسجد؛ لنتبادل أطراف الحديث مع المبتهل فوزي فكان يمتلك من الحياة الكثير والكثير.


وبعد العودة مجددًا إلى الحسين لإنهاء إجراءات النزيل الذي يجب عليه احترام قوانين الفنادق بحسب ما تسنه، اندفعنا لأداء ركعتين، فثمة أفئدة من المصريين يتأبطون أحذيتهم الخاصة وآخرين يودعونها عند أحد الأشخاص المتعهدين بحفظ أحذية المصلين في صناديق وكأنها أقفاص الحمام مقابل ما يدفعه المصلي؛ لأجل صيانة المسجد وتنظيفه وهو أجر غير معلوم؛ طالبًا حفظ حذائه في مكان آمن ومتقربًا للخالق جلَّ في علاه؛ نظير المبلغ الذي يدفعه وهناك ثمة معادلات وثيمات وتأملات، الفائز فيها من يستشعر الروحانيات والسكينة بعد أداء الصلاة.


وفي وسط خان الخليلي يقبع مقهى الفيشاوي العتيق الذي أنشئ في القرن الثامن عشر لصاحبه فهمي الفيشاوي كما كان يخبرنا به محرك البحث جوجل، وبين الأمس واليوم اختلفت الأهداف والمقاصد من إنشاء مقهى الفيشاوي، ففي عهدٍ خلى كان نجيب محفوظ يتفيأ ظلال المقهى ويتخذ من إحدى زواياه مكانًا؛ لإفراغ روائعه الأدبية والروائية فكتب الثلاثية وكان المقهى يستقبل الأدباء والفنانين والمشاهير والرؤساء وعلية القوم وأقلهم منزله بحسب حسابات المال والأعمال وكان نجيب محفوظ يلتقي بطلاب العلم، كما كان يستقبل مقهى الفيشاوي المناوئين للإنجليز وفيه تكثر التجمعات الأدبية والسياسية، فتتحول المناقشات بين الطلبة والمثقفين إلى حلول في صورها الناصعة، فهو مستودع الأطروحات فتخرج منه الأفكار وقد توأد وتقيد في مهدها قبل أن تخرج من جلساتهم.


دبّ شعور جميل في عيون الندماء وهم يأخذون زاوية تاريخية في وسط خان الخليلي بها رائحة العظماء من أبناء أم الدنيا، أرض الكنانة، مصر العظيمة والأجمل شعورًا الجلوس في أحد أشهر مقاهي مصر على الإطلاق، فبمجرد رؤيتك إبريق الشاي پألوانه الفضية والمذهبة يزحف إليك ينتابك شعور خفي وبمجرد رؤيتك ذلك الرجل الذي بلغ من العمر ما بلغ وهو يعزف العود والكمان ويغني لكَ أجمل الأغاني المصرية والخليجية تستشعر قيمة المكان وقيمة التاريخ الذي يمتلكه هذه المقهى.


مطّ "ناصر" شفتيه وقال في برود وعلت محياه البسمة عند رؤيته النادلون وكأنهم يتفسحون في هذه المساحة الضيقة فالمهارة التي يمتلكونها وهم يقبضون الأرجيلة "الشيشة" وفي أعلى قمعها الجمر إذا ما امتلكها لاعب كرة القدم لرجحت كفته وهتف "فهد" قائلًا: أين الكتب التي ألفها نجيب محفوظ ويوسف إدريس، أين طه حسين وإحسان عبد القدوس، أين العقاد وأنيس منصور، أين تعقد المناقشات الأدبية، فأخذ يجول ببصره إلى زوايا مقهى الفيشاوي المحشورة بالناس والدخان المنبعث من جوف المدخنين، أين المثقفين والكتاب الذين يمسدون على يراعهم؛ لتخرج من قمقمه أحلى القصص والروايات، أين النخب المثقفة التي تتحاور عن الأدب والتاريخ والشؤون المحلية والخارجية، أسئلة حائرة أطلقها "فهد".احتقن وجه "قيس" وغمغم في صرامة أنتم هنا رحالة تستهويكم الأمكنة بما هي عليه الآن، اتركوا عنكم الأمس وتمعنوا في الحراك البشري، حملقوا في المداخل والمخارج، ركزوا في هذا المكان الضيق وكيف يجتمع الناس في محيطه من كل السحنات والجنسيات، هنا أنتم تقلبون خريطة العالم وأثناء مداخلة "قيس" اعتلت وجهي ابتسامة أظهرت بياض أسناني، أتبعتها بقهقهة جعلت من يجلسون في الطاولة المقاربة منا يلتفون إلى مصدر الصوت في دهشة، قلت: هنا يتجلى الفارق بين الزمنين، شنفوا آذانكم بسماع الأصوات الطربية في هذا المكان وتأملوا الحركة الدؤوبة وتأملوا في الأطفال الذين يحملون أرتالًا من الحمولات التي تفوق أوزانهم، تأملوهم وتأملوهم وهم يعرضون الكتب والمصاحف والخزفيات، انظروا إلى ذلك الأبكم البشوش الذي ما إن يرانا إلا ويطبع ابتسامته علينا، ولا تشيحوا بنظركم عن تلك الفتاة اليانعة "منة" التي تبلغ من العمر الحادية عشر ربيعًا وهي تتحدث بلباقة المنظرين المتشبعين من تجارب الحياة رغم أنها لم تكمل دراستها بحثًا عن لقمة العيش، انظروا إليها وهي تتلفع عباءة فضفاضة بالية، تأملوا حياة الناس في سكناتهم وهمساتهم، فالمرتحل كالذي يقبض الكتاب، إما أن يقرأ في الصفحة الأولى ويتركه وإما أن يستمر في القراءة إلى أن ينتهي من القراءة ويأخذ انطباعات جديدة تعطي حياته قيمة مضافة
 
 
 
هذا الشاب من فئة الصم والبكم أحب الجلوس معنا بين الفينة والأخرى
 
 
 
 
 
 
 
خان الخليلي
 
 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر