(مقهى المشردين)
الشردة نصف المرجلة
(مقهى المشردين)
الأربعاء 27 مارس 2019م
في صيف مسقطي خرجت من
مطار مسقط إلى العاصمة الصربية بلجراد رفقة رفيق الرحلة حينذاك الرحال خالد
العنقودي ولأن طبيعة الرحلة لا تخلو من عنصر المغامرة والإثارة في هذه السطور أسطر
بعض المواقف العصيبة التي لا أتمنى أن تحدث لأيٍ منكم في سفر.
لم يكن يومًا طريق اللجوء
سهلًا وكأن بينه وبين رحلة ألف ميل ذات المسافة وأكثر.. قال خالد: بإسهاب وأخذ
يستجمع كل ما لديه من معلومات عرفها عن صربيا ومواقفها تجاه اللاجئين، كل ذلك بعد
أن مرقنا إحدى الحدائق التي يتجمع بها آلاف اللاجئين السوريين وغيرهم من الجنسيات
من مختلف مشارب الأرض، الذين غربتهم الحرب الطاحنة وألقتهم في غياهب اللاوطن،
فورًا ضغطت على زر هاتفي في محرك البحث العالمي جوجل بغية معرفة مساوئ اللجوء
والجحيم الذي يعيشه من أوقعتهم حبال الحرب في شراكها، فوقعت عيني على القرار
التركي بإنهاء الهجرة غير الشرعية من تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وهنا الصدمة
الأخرى التي ألقت بظلالها على من يبحث عن الأمان في هذه البسيطة، على من يبحث عن
الظل هربًا من هجير الظلم والتشرذم؛ لتُسد في طريقه الهجرة إلى دول البلقان دول
الأمان، قطّبت حاجبيّ وغمغمت في ذهول قائلًا: كيف لهذه الأفئدة البريئة أن تعيش وكيف
لذلك الشيخ الكهل الذي أدهشنا بابتسامته وهو يعتمر قبعة يبدو عليها الشموخ فور أن
حطت راحلتنا في محطة الباصات، مخترقين الإشارات المرورية مشيًا على الأقدام، وكيف
لذلك الطفل البريء أن يضم حضن أمه المكلومة في البحث عن لقمة العيش الخانقة لتسد
جوعه، وكيف لتلك المرأة السبعينية التي آثرت البقاء في الخيمة؛ متدثرة برداء العفة
والطهر أن تتأمل في مستقبل أحفادها المنتشرين بالخارج، في رواق الحديقة وفي أزقة
الشوارع التي تستظل بسحابة عابرة، تسطع منها أشعة ضوء خافتة وذاكرة مهتزة، أحوال
الشعوب لا تنتهي بانتهاء رحلة عابرة مررنا خلالها العاصمة المحلية الصربية بلجراد،
كانت العبارة التي قلتها لـ خالد ونحن نحتسي القهوة الصربية بمذاقها المتفرد وفي
اللحظة التي تسبق مكوثنا في المقهى، كنا نتحدث عن تجولنا المريح الذي لم تشوبه
شائبة بعد انقضاء ثلاثة أيام من وجودنا وبعد أن عدنا من Avala Tower أعلى مكان مرتفع في
بلجراد وبعد أن عدنا إلى الفندق بعد جولة دامت زهاء أربع ساعات أخذنا قيلولة ننعش
بها أجسادنا؛ ليعود النبض إلى عروقنا وتعود الحيوية لنتأهب لجولة أخرى ستأخذ منا
ساعات إضافية مشيًا على الأقدام في مركز المدينة بالتحديد ممشى المدينة الذي يحبذ
وجوده المرتحل أسوة بالدول المتحضرة لنطلق عليه شارع النبض وفيه رأينا حياة صربيا
بشكلها الأنيق ولم نترك لأقدامنا التحكم في كل تفاصيل الجولة في مركز المدينة دون
احتساء القهوة المحلية، نسترق النظر إلى العابرين الذين يفدون إلى هنا من كل أقطار
العالم، نتحسس دبيب الأقدام المنتشية، تتتابع الخطوات تلو الخطوات بألق نشاهد
أحفاد الصرب طوال القامة بهندامهم وقوامهم المميز، قلت لـخالد: قبل أن يطبع
ابتسامة حانية موثقًا ما قلته برؤية فتاة وصديقها يمتطون أحد الأبراج لتمثال رجل
تبدو عليه أمارات الهيبة بادية عليه، مط خالد شفتيه وقال في برود لربما هذا الرجل
ذا شأن بالنسبه لهم أو إنه القديس الذي يتبارك به العشاق ويطبعون بجواره قبلات الوداع
وبعد أن فرغنا من تكهناتنا قفلنا عائدين وفي طريقنا إلى الفندق شعرنا بالجوع فقد
حان نداء المعدة وبدأت تصدر أصواتها، عندها لمحنا مقهى يتوسط الطريق، محاط بزجاج
من جميع الاتجاهات، تتوسطه كراسي تخترقها طاولات طعام للعابرين والسياح الذين
قذفتهم الأقدار بين السحنات الصربية وهو على مرمى حجر من الفندق الذي نقطن به.
تحدث خالد في مواضيع
كثيرة وكان يعطيني آراؤه عن الدول العديدة التي زارها ونحن نهيم في الحديث شاهد
خالد اثنان من المشردين بالخارج، كانت نظراتهم مصوبة تجاهنا وكأنها وميض برق أراد
أن يطبق علينا، الأول طويل القامة وتبدو عليه أمارات الشقاء، نحيل الجسم والثاني
يرتدي أسمالًا ويعتمر قبعة متسخة توازي قبعة الكهل الذي رأيته بالقرب من كاتدرائية
نوتردام على ضفاف نهر السين ولأن خالد دائم الترحال وقد مرت عليه تجارب عدة ومن
التجارب تشرب الفطانة والكياسة للتصرف في مثل هذه المواقف، لا تنظر إليهم- قال
خالد على حين غرة- تلعثم قليلًا وبدأ يستجمع قواه وبدأ يرخي تعليماته وأسدى بعض
النصائح لي؛ كي نصرفهم عنا ونغتنم الفرصة المواتية.
تلاقت نظراتنا لوهلة ثم
نهض خالد ليحاسب صاحب المقهى- فاضت أنفاسي وتصبب العرق على جبيني، المشهد الذي
عشته في هذه اللحظة وأنا أحدق خلسة في الخارج إلى المشردين وكأنهم مسرنمين يمشون
بلا هوادة.
اندلقت مني عبارة غير
مركزة، شعرت أنني مطوق برهبة، على الرغم من العبارات التي يدلقها خالد عليّ راغبًا
في طمأنتي لم تؤتي ثمارها، كانت تتسلل إليّ وكأنها تتساقط في لجة هاوية سحيقة لا
قرار لها وفي اللحظة التي كنت أعتصر أفكاري وأتخيل المآل الذي سنصل إليه حال
تمكنوا منا.
دفعنا الباب نحو الخارج
فانفتح أمامنا بئر من نور أنار بصيص من حياة وبلا تردد- هيا نركض، قال: خالد.
أطلق خالد تلكم
الكلمتين سريعًا وبسرعة البرق لذنا بالفرار، لاحت لنا إعلانات شركة فيليبس وكأنها
ترافقنا إلى طريق الأمان، كانت تلك اللحظة لحظة أصابت المشردين بشيء من الملل
جرّاء الانتظار الطويل، لم يدركوا بأننا كنا ننتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر ولم
يدركوا بأننا كنا نعد الخطط تلو الخطط؛ حتى نتمكن من الفرار، يا لحسن الحظ ويا
لحسن الطالع قلتها ونحن نهم بالفرار أن الفندق يبعد عن المقهى بضع دقائق.. قلت:
لـخالد.
أيقنا عندها بأنه عند
هجعة الليل عندما يخيم الظلام ويختفي الضياء لتعوضه أضواء المدن الحالمة، على
المسافر أن يتوخى الحذر وعليه أن لا يجازف في تجواله، خاصة في الطرقات الضيقة
وأماكن الشبهات والأزقة المقفرة من البشر، سوى في الأماكن المأهولة لضمان عدم
التعرض والاعتداء عليك.
![]() |
برج آفالا في العاصمة الصربية بلجراد |
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام