قبل أن تسافر تعلم لغة الإشارة

 
الخميس 21 مارس 2019م
من كانون الأول في عام 2015م، أعود لأقص عليكم بعض من حكاوى السفر والمعايشات اليومية التي أحتفظ بها في ذاكرتي وبعض المخطوطات التوثيقية؛ لحين أن تسنح الفرص لتفريغها؛ عن بلاد الابتسامة تايلاند، رفقة الندماء فهد الحسني وقيس الجابري.
تواريت خلف شوارع سوكومفيت بنانا حيّ العرب في العاصمة التايلاندية بانكوك، كنتُ أسترق السمع إلى حسيس الأصوات المنبعثة من الشرق والغرب والشوارع المكتظة بالتوك توك وسيارات الأجرة والنقل العام وباصات السياح الصينيين العملاقة الذين يتوافدون إليها جماعات وأتتبع دبيب الأقدام التي تنساق بين أزقة بانكوك من محلات الصرافة إلى مطعم أبو دبة الشهير ومن لا يعرفه أفضّل أن لا يكمل قراءة رعونة الكلمات المرسومة والحنق الساقط على رواق هذه الحروف، خاصة إذا كان من روّاد تايلاند وعشاقها، فهو معروف للجاليات العربية والخليجية كأعلام ترفرف من قمم جبال محاذية للشارع العام لا يمكن أن تعبره دون رؤيتها، وطوال فترة تجوالي في بانكوك كنت أعتقد بأنها مدينة الضجيج والحراك السريع وكنت أظن بأنها المدينة التي لا تعرف الهدوء والسكون، واختلفت الرؤية للمدينة كأي المدن من زاوية أصدقائنا ذوي الاحتياجات الخاصة (الصم والبكم) وهذا الشعور راودني في زيارتي التي صادفت زيارة أحد زملاء العمل أصحاب الهمم، رفقة زملاؤه من ذات السحنة.
فاضل وسمير وسلطان أصدقاء جمعتهم العاصمة مسقط في لقاءات متفاوتة في أروقة مكاتب البلديات مقر عمل فاضل وسلطان ولقاءات مسائية تنسيقية بين الفينة والفينة في كورنيش مطرح مسقط رأس فاضل تسبق رحلتهم التي خططوا لها مذ بداية العام قبل حزم الأمتعة وضب الحقائب عبر الناقل المحلي الطيران العُماني الذي وضع لهم مميزات خاصة من ناحية أسعار التذاكر.
بعد أن أنزلهم سائق سيارة الأجرة الذي طلبوا منه أن يقذفهم في حيّ العرب، قادمين من بتايا إحدى أهم مدن الخطايا في رحلة فحوصات طبية اعتيادية، كنت قد أعددت العدة لاستقبالهم أنا وزميليّ فهد وقيس، كان فاضل هو الزعيم وهو الذي يقوم بالعمليات التنسيقية لفريقه المكون من سلطان وسمير فكما يشاءون تركت لهم أحقية اختيار الفندق الذي سيقيمون به وتركت لهم المجال ليسلكوا الطريق الذي يودون، فثمة أشياء لا يمكنني أن أتدخل بها ولا يمكنني أن أحصرهم في زاوية قد تكون ضيقة بالنسبة لهم رغم الرؤية الفسيحة التي أراها ملائمة والتي لا تروق لهم ربما وهنا بطبيعة الحال لا يخضع المرتحل إلى قيود وبرامج معدة سلفًا لخط سيره في السفر وهذا الأمر ينطلي على الرحلات الجماعية  المعدة من قبل مكاتب السفر التي تتبع مزاجية صاحب المكتب وتلائم أهواءه وفي سفري جربت هذه الطريقة في رحلتي من صربيا إلى البوسنة والهرسك وهنا أحسست بأنني مكبلًا، لا أملك حرية الاختيار وانتقاء الأماكن التي توافق توجهاتي وقد حصرني البرنامج في تكرار المشاهد السياحية وهذا أخل ببعض البنود التي قطعتها على نفسي في الترحال لولا أن تداركت الأمر بتعويض بعض الفقرات بطريقتي الخاصة.
لقاء أصدقاء الصم والبكم
وفي اليوم الموالي من بعد قضائهم فترة العصر بين الرابعة والخامسة في الراحة وإلقاء أجسادهم في الفرش الوثيرة؛ ليغطوا في نومٍ عميق، أتى المساء وما أجمل المساءات والليالي في فضاءات تايلاند الباسمة، حلك الظلام تعوضه أحزمة النور المتلألئة، اللوحات الدعائية المتشابكة تربك الأنظار، الكل بدا عليه وقد تأهب للذهاب إلى وجهته في أزقة بانكوك، فكان على الأصدقاء فاضل وسمير وسلطان أن يحذوا حذو بقية الأفئدة المنتشرة وكان عليّ وفهد وقيس أن نسايرهم في جولتهم لهذه الليلة ومؤكد ستكون مختلفة كاختلاف الليالي المتجددة الأحداث كتعاقب الليل والنهار، الدهشة ليس باختلاف المكان فقد تشبّعتّ منه ذات وقت وإنما الشائق في الأمر وجود الأصدقاء من ذوي الاحتياجات الخاصة الصم والبكم، ليس في العاصمة مسقط هذه المرة، بل في سفر تسافر معه الأجساد لتبقى الأرواح معلقة في سماء المدينة والأهل والأحباب، أرخى فاضل تعليماته لرفاقه وأسدى لهم التوجيهات بأن يرافقوننا تجوالنا في أيامهم المتبقية قبل عودتهم إلى العاصمة مسقط، التزم فهد وقيس الصمت وأخذوا يتجولون في صفحات هواتفهم المحمولة كونهم لا يعرفون التعامل بلغة الإشارة، عدا الإيحاءات والإشارات التي قد تفي الغرض ويستطيعون من خلالها توضيح ما يودون توضيحه لهم، أما أنا فقد تمرست في لغة الإشارة لا بالطريقة المثالية التي تعطيني معرفة كل الحركات، بل بالصورة التي أستطيع منها عكس مع قد يعجز عنه فهد وقيس وإن استعصى الأمر أقوم بكتابة ما أود قوله فالدارج أن لغة الإشارة تنقسم إلى شقين (هجائية) وتعتمد على حركات الإصبع و(وصفية) وهي التي أعتمد عليها لإيصال رسالتي لـفاضل ورفاقه وتدعوني أن أربت على كتفه مرات ومرات تعبيرًا عن قربي وارتياحي لهم.
...
ومن بداية تحركنا ونحن نخفر بعض تبين لي بأن الباعة الجائلين من فئة الصم والبكم وهذا الشعور لم يكن ليكون لولا وجود فاضل ورفاقه في هذه الجولة وتبين بأن أسعار الباعة الجائلين تختلف نوعًا ما عندما تكون ضمن فريق الصم والبكم فهم ودودين مع بعضهم البعض وهم لطيفين ودائمي السؤال عن بعض، وأنا أتفيأ ظلال الأمكنة في أزقة بانكوك، رأيت أن لغة الصم والبكم أو لغة الإشارة لا تعرف التصنيف حالها حال بقية لغات المتحدثين أمثالي ويتجلى ذلك من خلال التفاعل بيني وبينهم كوني الوسيط الذي أعطى نفسه الأحقية ليكون المُخاطب والمستلم وهكذا كان الاتفاق بيني وبين فهد وقيس، فعندما تجيد لغة الإشارة عندها يمكنك التواصل مع من يجيد ذات اللغة في أوروبا عندما تتفاعل مع الأوروبي وهي الحركات التي تحتاجها عندما تتحدث مع الأمريكي والفنزويلي أو المكسيكي أو أي أحد من أمريكا الجنوبية أو أي قطر من أقطار العالم فهنا تتجلى أهمية تعلم هذه اللغة، فهي مفتاح لجميع الشعوب وعابرة للقارات أسوة بلغة المتكلمين التي يشوبها التعقيد وتحتاج إلى سبر عوالم لا عد لها ولا حصر.
بدت عينا فهد وقيس غائرتان وهما يحملقا في مدى التوائم والتوافق والتكاتف بين متحدثي لغة الإشارة وأخذوا يتطلعون في دهشة ويغمغموا في ذهول قائلين: يا سبحان الله أثناء زيارتنا إلى تايلاند صاحبنا العديد من الندماء، جلهم من الأسوياء المتحدثين وقبل أن يكملوا حديثهم أومأت لهم متحدثًا، عندما تخاطبوا هذه الفئة العظيمة عليكم أن تتحدثوا بجدية ولا تشيحوا بوجوهكم عنهم أو تضحكوا في وجوههم.
التفت العديد من الباعة الجائلين لإلقاء التحية عليّ ظنا منهم أني من متحدثي لغة الإشارة، تاهت أكاليل وجهي وغصت في عوالم لغة الإشارة وأعجبتني الفكرة، قطبت حاجبي غامزًا لـ فهد وقيس، مبتسما، لحظتها نبهني فهد قائلًا: بإمكانك الحديث يا يحيى ولا أحد يستطيع الانتباه إليك وبإمكانك حتى الصراخ دون أن يلتفت إليك أي منهم وهذا محال فالمكان مكتظ بالمارة والسياح، أحسست بالخدر يسري في عروقي مغبة أن تنكشف اللعبة ويعرفون بأني أجيد لغة الكلام وأني قد خدعتهم، يا ترى هل سيعرفون بأني كنت أداعبهم لا أكثر ولا أقل أم يظنون بأني مستهزئًا ساخرا منهم.
 
سمير الإنسان
ذات وقت جاء شخص قميء وتبدو عليه أمارات البشاعة، مكفهر الوجه، عابس الحال ومعه صغيرة بالكاد أنهت عقدها الأول، ترتدي ملابس عثة، منفوشة الشعر، عارية القدمين، تتأبط حذاء بالي في يديها اليمنى وحذاءها الآخر يبدو أنه مفقود في مقبرة الأحذية المنسية على غرار مقبرة الكتب المنسية لكاراكاس "ظل الريح" لزافون، أنا وفهد الحسني وقيس الجابري كنا غارقين في التقاط الصور التذكارية بعصا السيلفي، لم نكترث لحالهم ولم نعيرهم بالًا، عدا أن سمير انبرى مبادرًا وكأنه سيف ينسل من غمد محارب فذ أراد أن يباغت خصومه؛ لينقض عليهم حتى لا يلحقوا به ورفاقه الأذى وعلى عكس ما ذكرت أخرج سمير من جيبه شيئًا من النقود، رمقته خلسة يخرج (مائتي) بات أخفاها عني لأنه كان دائم القول بأن ما يدفعه للمعوزين والمعسرين ومن جلدت سياط العوز ظهورهم بيني وبين خالقي، كل ذلك يحدث بلغة القلوب الناصعة البياض، أعني لغة الإشارة.
وهنا أدركت بأن فلسفة السفر غاية في البهاء وغاية في التشويق والإثارة وهمست قائلًا لـ قيس (لا تخبرني أين سافرت ولا في أي مقهى جلست ولا على أي بار مررت، لكن أخبرني عن تجاربك التي تركت بداخلك أثر واستفدت من التجربة، الجميع يسافر والجميع يحزم أمتعته متى ما دعت الضرورة، لكن وحدها التجربة من يتحدث في مثل هذه الرحلات. من هنا أيقنت ورفاقي بأن تجربة مرافقة الأعزاء من فئة الصم والبكم كانت من أجمل وأنبل التجارب التي أتمنى أن تتكرر في قادم الوقت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر