من شاطئ الغبرة إلى فرضة جتّي العذيبة، حديث بين الشايب حميد والهنقري
حيازات أراضي المدينة وضواحيها
........../////..........
يحيى المعشري ysk24@hotmail.com
الأربعاء 20 فبراير 2019م
نجول الأرض شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، نتفرس
أقطار العالم أجمع، نسأل عما يحق للبشرية أن تستفرد به وما لا يحق، نتحسس أعماق الحياة؛
لعلنا ننسل من هذا العالم العجيب ولعلنا نخرج من شرنقة التيه، تساؤلات الشايب حميد
الذي ناهز السبعين من العمر وبلغت به الأيام مبلغ العاجز؛ بعد بدأ يقف على قارعة
الطريق بالقرب من العريش عند فرضة قوارب جتّي العذيبة ذات زمن، يمسد على فنجان
القهوة بحنية؛ خوفًا من أن يحرقه، ممسكًا دلة القهوة التي ابتاعها ذات يوم من
البحرين في رحلات الغوص وحبات التمر التي أتى بها نسيبه من مزرعة المربع إحدى
عوابي بوشر بني عمران في جرّة فخارية، مزجيًا المديح له في كل وقت وحين، يتفحص
الغادي والذاهب، يحملق في العجائز اللاّئي بلغن من العمر هن كذلك مبلغ يكفي بأن
يتركهن يتكئن على رصيف الوقت؛ بانتظار رسائل الموت على بريد قابض الأرواح.
تلكم إضاءات عائمة أطلقها الشايب حميد، طاعن في
السن، عسير الحال منذ أن كان يبيع السمك في شاطئ الغبرة وعلى فرضة جتّي العذيبة،
منتظرًا قوارب التجّار القادمة مع أسراب النوارس، معلقًا ما علق في صنارته من
أسماك على عصا خشبية مهترئة، ومنذ أن بدأ يسترق السمع إلى صياح ابنه البكر هويشل؛
فرحًا به كأول الضيوف الذين يهلّون على البيت بالفرح والسرور، ولم يكن يعلم الشايب
حميد باستراتيجيات المدن الحضرية التي يفدُ إليها الناس من أمصار العالم ولا الخطط
التي أسسها موظف التخطيط من مكتبه في الإسكان، أطلقها قبل أن تنقشع غمامة التفكير
التي أطبقت عليه ولم يكن يعلم كيف يتوسع في الحيازة التي يقطن بها وهي عبارة عن
عريش به بعض الفخاريات والنطل وبعض الحلي والمناديس الصدئة، هذا العريش صغير في
المساحة كبير بقلوب ساكنيه، لا يتجاوز الأمتار، مكسي بأوراقٍ غبراء، كان ما يحيط
به أشبه بالمدينة الفرعونية رينكلورا في كنانة العرب التي تختلط فيها زرقة مياه
البحر والرمال البيضاء، كشطآن الجزر المنسية في زنجبار، من بواكير الصباح يقوم
الشايب حميد يستمع إلى نقيق الضفادع وبجواره آلة السنطور على مواويل ناظم الغزالي
مدندنًا بكلمات " له خال على صفحات خد، كنقطة عنبر في صحن مرمر.. وألحاظ كأسياف تنادي على عاصي الهوى الله اكبر" وضوء الشمس الحاد يُطل على عريشه في
صيفٍ حار، وفي غمرة الأيام ومع توالي السنين بدأت أسرة الشايب حميد تتوسع وبدأ
نفوذ الهنقري الذي يمتلك الجاه والسلطة يزداد بامتلاكه فدانات؛ كونه صاحب كلمة
مسموعة، ورأي موجه في القرارات التي تطرأ على العاصمة، بل توسعت ميرته بامتلاكه
اقطاعات ومساحات شاسعة من الأراضي، ضاقت عينا الشايب حميد وهو يقول في غضب، ترى
متى يتوقف الهنقري عن أخذ الحيازات وترك ما تبقى للأجيال، مستفكرا في المستقبل
المجهول، متأملًا أن تصيبه التخمة، لكن
هيهات، شيئًا من ذلك لم يحدث ألبته، استمر الهنقري في ممارساته وبدأ يصدر الصكوك
الشرعية التي تخوله الاستفراد بهذه الحيازة وتلك ولم يكتف بذلك فمسلسلات الأخذ
باسم القانون أجازها المشرع وصنفت على أنها مسموحة له وتقع ضمن الحقوق لأنه من
القبيلة الفلانية وأدوارهم مشهودة ومعروفة، بل عمد على تأمين حصته وغلة العائلة المصونة من
الأموال بتسجيل أراضٍ لكل مولودٍ يولد من عائلته، فكر مليًا، هل أكتفي بذلك وهل يا
ترى سقف الطموحات لدّي يقف عند هذا الحد، فانسل من صومعته وترك مخدعه؛ ليتوجه إلى
الديوان الملكي مطالبًا بجزءٍ من خزينة الدولة للحصول على امتيازات له وأسرته،
لربما تأمين طبي أو تذاكر سفر يستطيع من خلالها عبور العالم وتمكنه من رؤية
الأراضي التي يمتلكها من فوق؛ لعله يستطيع عدها وحصرها، ولعل مخيلته تسعفه على
تذكر جل أملاكه، فقام يسعى ويسعى ليؤمن دخله ويضاعف من حصيلته الشهرية، علاوة عن
الإيجارات التي يجنيها من البنايات الفارهة التي أجّرها للطلبة والطالبات بنظام
السرير الواحد مقابل مبلغ متفق عليه.
توالدت الأموال لدى الهنقري وتوالت مطالباته
المتكررة للأراضي وبدأ يبحث عن مخططات يؤكدها لمخلص المعاملات الإسكانية بأنها إرث
أجداده وأنها تدخل في قائمة الحقوق التي يستحقها وقوبلت مطالبه بالقبول والدعم
وازدادت رقعة الأملاك لديه في التوسع وجعل صباح كل يومٍ يناظر مخططات المدينة،
متجولًا في إحداثيات الخرائط الورقية، حينذاك لم تكن أجهزة الجارمن ولا مسارات
الجي بي أس حاضرة في قاموسه. وهي ميزة يتستر عليها ليخفي ما يملك عن أعين البشر.
لوّح الهنقري للمسؤول الذي يقبع في مكتبه الوثير،
أتيتك عن طريق الشيخ فلان الفلاني وأريدكَ أن تُشركني في لجنة من اللجان الإسكانية
ولجنة أخرى من اللجان الاقتصادية، كوني أصبحت أحد ملاّك الأموال وأحد أشهر الذين
يمتلكون العقارات في المدينة، هل تريد أن أحدثك عن أملاكي، رمى سؤاله فجأة وسكت،
عقد حاجبيه ثم أردفه بسؤالٍ الآخر، هل تريد أن تعرف كم هو دخلي الشهري من
الإيجارات وكيف استطعت عن طريق العقارات أن أدير عدد من الشركات وإغراق السوق، نزل
المسؤول من على كرسّيه وأخذ يقربه بعد أن سمع قصته وقال له بصوتٍ خافت بالكاد يخرج
من فاهه، أنتَ في مكتبك وأنتَ من يأمر ويطرح الأسئلة شيخي العزيز
"الهنقري".
أحاديث مليئة بالفنتازيا والخيال، تُعقد في أروقة
مكاتب صنع القرار، لم يكن الشايب حميد في عريشه يتمكن من تحليل الحقائق التي لو
فطن لها لأدركَ بأنها تحدد مصيره ومصير أجيال تأتي لاحقًا، فالمدينة ظلت صامته
وتواصلت عليها الإدارات وظلت الطريق وفقدت سندان التطوير وبريق المدن الحضرية منذ
أزل ليس بالقرب، عدا من عامل وعاملين يتجولون فيها وكأنهم ضائعون في لعبة المتاهة،
الداخل إليها لا يمكنه الخروج.
دلف الشايب حميد أروقة القبور؛ بعد أن فاضت روحه
إلى بارئها في عالمها السرمدي، وبعد أن تلونت عينيه بلون المدى البعيد، لكنه لم
ينسَ أن يُعلم أحفاده كيفية قراءة الكتب والمسح على اليراع، علمهم كيف يتحررون من
قيود الهنقري وأعوانه، لكن لم يعلمهم الكره والبعد، علمهم كيف يواجهون حقيقة كيف تم
تقسيم المدينة إلى إقطاعات، علمهم بأن الأراضي التي ورثها الهنقري وأذنابه لم تكن
لهم وإنما هي لأجيال ضاقعت بهم السبل بعد أن طوق الهنقري على مفاصل المدينة
الوادعة تحت طائلة القانون، علمهم بأن البنى التحتية لم تكن لتكتمل ولا شبكات
الطرق الصرف الصحي، علمهم بأن المدينة لن ترى القطارات ولا شبكات النقل كالمدن
الحضارية في العالم، لأن أراضيهم غطّت
طريق التنمية. ولأن نظرة أبناء الشايب حميد وأحفاده للمستقبل مختلفة، بدأوا
يتجولون في شوارع المدينة، محملقين في محلاتها بنظرة المتطلع لاحتواء المدينة التي
احتضنتهم، متطلعين لها كأيقونة متلألئة بأحزمة من نور؛ كشظية بلورية لا ينبغي أن
تؤخذ على محمل الطمع ولا رفقة المصلحة، وعلى عكس تطلعاتهم المرسومة، فإن أحفاد
الهنقري لم تكن المدينة بالنسبة لهم تلك المدينة الهلامية التي يعقدون عليها حياة
الأبّهات والبشوات، فقد اعتبروا المدينة محطة ترانزيت يلقون عليها أمتعتهم ويودعون
بها أملاكهم، كخزينة حزينة تذرف البؤس، بينما عواصم العالم تتألق كأوبرا تجمع
الفنون السبعة.
يقول لي أبي:
هم بيننا، في أوردتنا، متغلغلين في أوردة الدماء،
عندما تجري مجرى المحبين على سفينة الحياة، هم ظلنا الذي نحتمي به، لا لشيء سوى أنهم
استلموا مفاصل القرارات في المدينة، نحن نحضر معهم، نرافقهم، نحضر أفراحهم
وأتراحهم، نجالسهم وهذا ديدننا، لا نستطيع نكرانهم؛ لأننا لا ننكر ذواتنا.
أليس الهنقري ذلك الإنسان الرحب السمح في عالمنا
اليوم، هو ذاته الكائن المليء بالدسائس، أليس ذلك الطين الشغف بالملذات، واليوم هو
وأحفاده يتربّعون على كراسي صنع القرار؛ بعد أن فرغوا وتشبعوا من ملذات المال
وامتلأت خزائنهم، باتوا يناظرون لذة الوجاهة والسلطة ويزينون مكاتبهم بمخطوطات
وطنية تنظيرية.
![]() |
نموذج العريش قديمًا |
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام