على ناصية المُزيّن أزور نستعيد عبق بلدة بوشر
يبدو أنك دائم التردد على هذا الحلاق، انعقد
لساني للحظات وبنبرة فيها شيء من التعجب وعدم التوقع.... آآآآه...
إي نعم.. قلتها ولم أكن أتخيل السؤال، اصطكت أسناني بقوة كالذئب وقت الهجوم على ضحيته، كنت أضغط على زر الإرسال عندما أتتني رسالة من أحد الأصدقاء ينتظرني أن أرسل له قائمة الاحتياجات للرحلة المقبلة.. نعم.. قلتها له.
إي نعم.. قلتها ولم أكن أتخيل السؤال، اصطكت أسناني بقوة كالذئب وقت الهجوم على ضحيته، كنت أضغط على زر الإرسال عندما أتتني رسالة من أحد الأصدقاء ينتظرني أن أرسل له قائمة الاحتياجات للرحلة المقبلة.. نعم.. قلتها له.
هذا الحلاق العاشر، العشرين، الحادي والعشرين أو
المائة الذي أتردد عليه بين الفينة والفينة، هو من أيقنت معه بأنه الملائم لهذه
المرحلة، استرجعت قليلًا من الذكريات مع المُزيّنين، أتدري يا "راشد"
بأن أبي وأنا صغير كان يصطحبني معه إلى المُزيّن، كنا نقطع المسافات من أجل أن
ننعم بحلاقة "أزور" الذي كان حلاقاً بأوصاف الدكاترة،"أزور" باكستاني
الجنسية أتى إلى السلطنة كما كُنت أسمع من والدي وعمره لا يتجاوز التاسعة عشر
عامًا، كنا ندب الأرض من حيّنا إلى "حلة السوق" ببلدة بوشر الذي يقع به
محل "أزور"، نبدأ الاستعداد لزيارته من الصباح الباكر، ذات يوم فور
الانتهاء من صلاة الفجر وبعد أن حل أول خيط للصباح وبعد أن عدّت الوالدة
"سحناة القاشع" التي كانت بمثابة الوجبة الرئيسة في كل بيت، مررنا
باتجاه مزرعة المربع، شاقين الوادي مستمتعين برؤية أشجار الفرفار وطلعها الأصفر
وتحفنا ظلال النخيل الوارفة وعذقها المتدلي يتلاطم ذات اليمين وذات اليسار، أشحنا
بنظرنا إلى سدرة "القرطة" المتاخمة لمسجد قلهات، نعبر وتعبر معنا أشجان
العصافير وهي تغرد فرحة بإطلالة الصباح الهانئة، يممنا المسير ويممت معنا شمس
الصباح بوهج حرارتها المعتادة في موسم القيظ، ونحن نحث الخطى، كان الصيف لاهب وأشعة
الشمس تغازل كبد السماء، كانت كافية بأن تذيب شحمات الجسم لتزفر نافورة عرق
أجسادنا، كل شيء يشي بأن فصل الصيف قد حلّ وتباشير القيظ قد آنت، فقد تبين لنا ذلك
من طلع النخيل، مشوارنا اليوم إلى "أزور" كأي مشوار نقطعه منذ خروجنا من
البيت إلى المقصد المراد الوصول إليه، نمشي وعلى أقدامنا أحذية صُنعت من إطارات
السيارات، كتلك التي ينتعلها المغفور له "حمدون الراعي" الرجل المنسي
الذي لا تمر حكاية من حكايات الزمان والمكان في أرجاء الولاية قديمًا إلا ونجد له
بصمة فيها وهو الذي يسرج أمتعته من الصباح باحثًا عن الكلأ مذ خروجه من خيمته أو
بيته في حيّ"جال" المصنوع من السبيستو والواح آيلة للسقوط يكسوها حبل
بالٍ يُنتفع به لحزم الأواني الفخارية كالحب والخرس والجحال المُعلقة في أعلى
الوتد المهترئ، حيثُ لا يمكن أن يصمد مع تلك البيئة المتسمة بصعوبة تضاريسها،
التلال وحواف الجبال هي من يعترضنا في كل مساراتنا، وبعد أن نفرغ من مشاورينا نقوم
بفلي الحذاء "الزنوبة" من الشوك العالق في أسفله، يبدو وكأنه امرأة عجوز
لم تستخدم الشامبو البلسم ولا المِشط وأنواع منظفات الرأس المتوافقة مع الموضة
ردحًا من الزمن وقد تكالب على فروة رأسها القُمّل والقشرة فهي حتمًا بحاجة إلى
مزيد من الوقت لمكافحة ما يعتمره من أدران عالقة تساءلتُ بيني وبين نفسي اليوم
وأنا أدنو من "راشد" وقبل تساؤلاتي غمغمت خلسة قائلًا: هل لتبدل الحال
واختلاف الطرقات والشوارع والأزقة كالتي واجهتني وأنا على شفا جرف في أحد المسارات
الشائكة في قرية الغمب أمر.. تساؤلات عالقة لم أبح بها إلى "راشد" أحدثت
فيّ شيء من الارتياب إلى "أزور" المُزيّن وهو الآن ربما على وشك أن يلقى
ربه أو غادرت روحه إلى الرفيق الأعلى والعلم عند الله.. فقد انقطعت أخباره بعد أن
استغنى عنه كفيله العم "سلمان".
كنتُ وإخوتي
نجلس بالساعات نطالع عقارب الساعة المعلقة على الحائط وحولها ملصقات الجرائد كُتبت
بعدة لغات وقد مر عليها زمن طويل كما يبدو، كُنا نجلس على كرسي بالكاد يتسع لشخص
نهشت أعماقه وتحول إلى حديد كالحجارة الصماء.. تتدحرج العبارات من أريكة هذا الكرسي بين والدي
ومن يطلبون التنعم بحلاقة "أزور" عن شؤون الحياة، يتطرقون إلى أحوالهم،
كان حديثهم لا يخلو من العلوم والأخبار والسؤال عن صحة البعض وأخبار القيظ والرُطب
والجداد والحرث، استمع لهم وعيناي تحدق إلى "أزور" وهو يُسدي إلى أحدهم
نصائح طبية عن كيفية التخلص من الثعلبة التي أحدثت ثقبًا في رأسه وكأنها عين
انبجست فجأة وأخذ معينها يغدق.. أُمعن النظر إلى المُزيّن ومعه شاب عاقدًا يديه
خلف ظهره ويهم بتمتمات غير مفهومة وآخر يجلس القرفصاء.. أخذ "أزور" فصّ
ثوم ووضعه على رأس "سعيد" لدقائق.. قطرات الدموع تنهمر من عينّي
"سعيد" شيء من الألم حرك الخلايا النائمة في "سعيد" وأيقضت
حرقة ألم تغلغلت في صدره وكأن أمواج دجلة تسير في مسارها، بدت عيناه وكأنهما
جاحظتان.. كانت الشبة حاضرة في ميادين "أزور" وهي التي لم يستغني عنها
في نشاطه وكأنها جزء لا يتجزأ من حياته اليومية قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة عند
حضور المواصفات القياسية.
الأعشاب، الزيوت والخلطات بما يعرف بالطب البديل
استمدها من خبراته الطويلة وهو يزاول مهنته، كان يعرف كل خبايا وأسرار المدينة، وهو العارف
بميادين الأفراح والأتراح، يُدرك كل نسمة هواء عليلة تهب من زوايا الأمكنة، يهفو
إليه الصغار والكبار، يبادلونه الود والشجن، يحكون عن نوائب الدهر وصروف الأمكنة،
يزودونه بما تجنيه أياديهم من ثمار الليمون، والرقاط والجوافة والفرصاد، يقربونه
من جلساتهم، يتوددون إليه ويرمون ما يضمرون من أسرار في ثناياه، كان يُمارس مهنة
العطارة وحقيبة الضمادات لا تفارقه.. يطلبه عِلية القوم في بيتهم ليقدم لهم الخدمة
مقابل قروش ولم تنقشع من بالي تلك اللحظات حين يقوم "أزور" بمسح الموس
بجريدة وضعها على منضدة الحلاقة كُتب عليها بلغته تمتمات غير مفهومة بالنسبة لي،
لم يكن حينها يعصف في ذهن مفتش البلدية شيء من الاشتراطات الصحية المُطبقة في
يومنا هذا، لم يكن يهتم الزبون بوضع فاصل ساتر يختبئ من وراءه شتى تقليعات الموضة
وقصات الشعر ولا حتى تسريحات اللحى المحددة وكأنها ثعبان يلتف على أعواد شجرة
البامبو؛ خوفًا من أن تطاله أيادِ البشر، كل شيء يشي بالشفافية في مخدع المُزيّن
"أزور".. كل شيء يحدث بوضوح أمام مرأى الجميع.
أذكر في ذات يوم عندما قطّب "أزور"
حاجبيه عند سماعه خبر وفاة عدد من سكان الحيّ الذي يقطن به في بلاده، عندها أصدر
شهقة لا إرادية أحدثت دويّ.. على ضوئها أفقت من حالة الشرود التي تسكنني، ارتعشت
شفتاه مرات عدة وبلع ريقه، جعل يمسح العرق المتصبب على وجهه بكم قميصه، يُصدر صوت
أجش كالذي يطلقه الحصان أثناء نشوة الجماع.. لولا الأجواء الأسرية التي كانت تسود
المكان لانفلتت دموعه وأجهش بالبكاء، ران الصمت على الجميع وخيم عليهم قبل أن
يُطبق عليه العم "سلمان" مواسيًا له ومطبطبا، تدحرجت من العم
"سلمان" كلمات ثقيلة وهو يجول ببصره إلى تفاصيل الحنق التي ظهرت على
محياه، ربت على كتفه وأغدق عليه سيل من عبارات الحب التي كان يجيدها لعيشه بينهم
زمن.. أصبح كالمستغيث من الرمضاء بالنار.
لم يكن "المُزيّن " أزور مجرد شخص
يحمل أدوات لقص الشعر أو تشذيب اللحى فحسب، كان مقر المُزيّن مكان اللقيا وتبادل شجون
الحياة، كذلك تُعقد "هناك" تجمعات يصغي خلالها الصغار للكبار، يستمعون
إلى حديثهم ويستمدون الحكم من لديهم، يستلهمون من خبرات الحياة.. هكذا كنا بين
"حلاق" اليوم و"مُزيّن" الأمس الذي بقت سيرته عالقة في ذاكرة
من عاش بلدة بوشر وما جاورها وشائج تلك الفصول.. تُرى هل لتبدل نمط الحياة سبب في
ذلك أم هي همسات على ناصية المُزيّن أزور.. كانت تراودني بين الفينة والأخرى.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام