سعيد العاطل ورئيس الشركة
مط سعيد شفتيه
واحتقن وجهه وهو يحدق في إعلانات التوظيف بجريدة عُمان التي اعتاد أن يتصفحها على
الرغم من التقانة الإلكترونية المتوفرة، فهي قناعته بأنه عليه أن يلج جميع منافذ
البحث؛ فقط لأنه يريد الوظيفة وهي قناعته بأن تصفح الإنترنت كثيرًا يسلب من رصيده،
كان بصره معلقًا بذلك الفضاء الذي بدأ يتلاشى في زحمة التنقيب والبحث والوقت.
يخرج سعيد من منزل
عائلته باحثًا عن عمل في رحلة شبه يومية من بواكير الصباح إلى مساءات قائظة في ـأيام
شديدة الحرارة؛ في رحلة بحث دامت زهاء خمسة أعوام، ها هو سعيد يخرجُ من صومعته هذا
اليوم في منزل العائلة المكونة من إخوته الصغار سامح ومنير ومؤيد وأخواته سلوى
وجهينة مهمومًا متكدرًا، عكر المزاج، مخلفًا وراءه عائلته ووالدته التي أودعت جزءً
من مدّخراتها والمصوغات الذهبية التي تملك والتي قضت معها أفضل سنين عمرها،
أودعتها هذه المرة ليس في مناديس البيت ولا قبالة الروزنة المواربة لتسريحتها في
غرفة النوم وإنما في خزائن الكليات الخاصة التي يهيمن عليها علية القوم وأصحاب
رؤوس الأموال من أجل تدريسه، هناك مرتع الأحلام وهناك تُرسم الآمال، وهناك تمتطي
فرسك الأبلق الذي يوصلك إلى مرفأ الطموحات، كان لدى أم سعيد بضع سبائك ذهبية وشيء
من المصوغات والحلي التي تذكرها بزواجها من أبا سعيد الذي قضى نحبه بعد صراع طويل
مع المرض، حصل هذه قبل خمسة وعشرين عامًا، يا لله طفقت تبكي وبدى عليها الوجل من
مصير ومستقبل ابنها البكر سعيد وبناتها بعد أعوام، وهي المؤمنة التي تؤمن بأن الله
هو مسير الأحوال ومصرف الأمور، فمشاعرها التي تجلت تجاه ابنها سعيد ومستقبله
المبهم أنستها ما تملك من مدّخرات والذكريات التي ترجعها إلى عقدين من الزمن ونيف،
كل ذلك من أجل قرة عينيها، ابنها المكلوم بحياته الخاصة وحياة عائلته التي عدته
المعيل الأول بعد أن أنهى تعليمه.
أخذت أم سعيد تربت
على كتفه كل صباح لتشد من أزره وتقويه على نوائب الحياة وتذكره بالمندوس وما كان
بداخله من مقتنيات تهمها وتشكل ذاكرة من تفاصيل حياتها، أرهف سعيد السمع لحديث
والدته التي باغتته هذا اليوم، يا ولدي للمندوس هذا حكايات وأحداث، شاهد الخشب
بألوانه الجميلة والزاهية، شاهد المسامير الذهبية المزخرفة والنقوش الهندسية، كانت
ولا زالت تشكل شيء من أصالة الحياة ورونق لا يندمل في تلك الحقبة الجميلة بكل
تفاصيلها.
فارق سعيد منزل
العائلة منذ أسبوعين بعد أن فرغ من أداء صلاة الفجر في المسجد الموارب لمنزلهم وبعد
أن قبّل رأس والدته قبلة حانية أشعلت فتيل الود وأعادت الحماسة في دواخله، قبّلها
ولم يستطع العودة إلى المنزل هذه المرة؛ لأنه ضرب على نفسه موعدًا بعد أن حُمل
بأرتال من الأفكار السوداوية؛ بعد أن سدت في وجهه أغلب الأبواب التي طرقها وهو
يبحث عن عمل يستطيع من خلاله البحث عن ذاته ويحسن من دخله ودخل عائلته التي تكبدت
مبالغ طائلة بلا عد ولا حصر، وما بين الحصول على العمل ونظرات عائلته والمقربين
التي ترمقه بين الفينة والأخرى، المليئة بالشفقة، بدى سعيد حديث الحيّ وبدت عليه
أمارات الحنق، تُرى ماذا يفعل وما الطريقة التي تساعده على قضاء حوائجه وعائلته،
كل الطرق التي سلكها أدارت له ظهرها وكل السبل التي تُتّبع للبحث عن عمل حث الخطى
إلى دربها، موظفي وزارة القوى العاملة أصبحوا يعرفون سعيد وموظفي الخدمة المدنية
هم كذلك بمجرد رؤيته وبدون أن تبدأ الحديث معهم يعرفون مطلبه ويعرفون المطالب التي
يبتغيها.
ها هي قدم سعيد
بعد رحلات البحث المتوالية والعديدة تحط رحالها في إحدى الشركات الخاصة في العاصمة
مسقط، فقد سمع عن هذه الشركة من أحد مواقع الدردشة التي يدخلها والتي أدمن عليها
بعد أن أطبق الفراغ عليه وعلى تفاصيل حياته، شيء من الفراغ قد يسوقك إلى طريق مليء
بالمآسي ومن الفراغ بعد عون الرب وتوفيقه قد يقذف بك إلى طرق الخلاص والصلاح، لكن
مسلسل البحث لـ سعيد مليء بالأحداث والمفارقة الغريبة أن سعيد صرف جل مدخراته التي
حصل عليها من بيع المشاكيك في أزقة الحيّ والتي كانت تعينه على قضاء أيام البحث.
انتفض سعيد فجأة وأخذ
يتحسس جيبه ونظراته على الأوراق المعينة له لكتابة مذكراته اليومية وبها رتوش
ومعلومات تساعده لأداء المقابلات على أكمل وجه وكما خطط، تلفع سعيد بعباءة العفة
والكرامة، فهو ينحدر كغيره من أبناء الجبل من عائلة أصيلة عندما واجه رئيس الشركة،
لكن ثمة وجوه عابسة تتكشف أقنعتها رغم أنها لا زالت في ريعان الشباب ويبدو عليها
الينوع منذ الوهلة الأولى، وثمة وجوه يتمتع أصحابها بالفطنة والكياسة فالتجارب
تصقل الإنسان وتعلمه التدقيق في تفاصيل التفاصيل والخصلة الأخيرة لرئيس الشركة وهو
في عقده السادس من العمر، فمع حالة التخفي التي بدت على سعيد، استطاع رئيس الشركة
أن يقرأ وجهه، فالأنَّات تظهر مخابئ الضعف عند الرجال، بدى على سعيد التجهم وعدم
الارتياح والارتباك من نظرات الرئيس وهو يتفحصه، يتمتم وقد فضحته لعثماته المتكررة أثناء المقابلة، شيء
غريب سرى على جسده، معارك ضارية تدب في أوصاله، تشرب منها جسده النحيل رغم أن هذه
المقابلة ليست الأولى له وليست الأخيرة كما يحسب هو على الأقل، وعند مباغتة رئيس
الشركة بالأسئلة وإلحاحه له قائلًا: أنت لست طبيعيًا يا ولدي وتبدو عليكَ أمارات
الريبة والقلق، هلّا كشفت لي قليلًا عن القناع الذي تتستر به، لكي أتمكن من
مساعدتك..؟
قال سعيد: ونبرة
صوته بالكاد تسعفه وقد اغرورقت عيناه ونهرا من المشاعر يجري بين وجنتيه.. يا عمي
أنا عاطل عن العمل منذ خمسة أعوام ورحلة البحث تلك أخذت مني العمر والمال، تلمس
رأسه، كان العرق يبلله، أخذ يتلو الآيات القرآنية التي لا زالت عالقة في رأسه وكأن
صفعة عفريت على مؤخرة رأسه وبعد أن بدأ يعود إلى وعيه لم يستطع أن ينبس ببنت شفة
سوى جملة واحدة لربما هي طوق النجاة.. عمي أنا لا أملك في جيبي سوى مائتي بيسة!
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام