سدرة الحارة المسكونة ولفيف أبناء بلدة بوشر

سدرة الحارة المسكونة ولفيف أبناء بلدة بوشر
 
عند مطلع صباح الغد سوف أذهب في جولة عابرة، تبدو لي هكذا، نعم هي عابرة أو تبدو كذلك، لا يهم المهم أن أقوم بما خططت له، طبعًا جولتي هذه ليست إلى مقبرة الكتب المنسية لزافون، ولا قاصدًا رؤية أسلاك شامونيه الباريسية المتدلية من المونت بلان، أتنفس معها روائح الطيب وأسترق السمع إلى صخب الليالي الباردة، فوجهتي هذه ليست الأولى والثانية والثالثة، وجهتي ستكون إلى قلهات بوشر موئل الطبيعة وملاذ البيئة، كالأفلاج ورؤوس الجبال التي تفوح منها رائحة تميزها عن غيرها بتكويناتها الجيولوجية المتفردة، رائحة جاءت من تاريخ يضرب في الأعماق عشرات السنين وأكثر، هي واحة زراعية غنّاء تميزت عن غيرها وماثلت القرى المجاورة في أصالتها، سأدلف أروقة قلهات من بواكير يوم الغد؛ لأتفرس القبور، باحثًا عن سدرة كان يجثو تحتها لفيف من أهالي ولاية بوشر.
ولأن بعض البشر من طبائعهم حب الهيمنة والسيطرة وقد تشذ القاعدة لديهم فيتركون المدن المبنية من أسقف القرميد الأحمر وينأون عن المياه اللازوردية المحاطة بأفخم المنتجعات والشاليهات فيتوارون خلف الكهوف والأحراش، متلذذين بمجاورتها والمقام بها.
يدلفون أروقة القبور تتلفعهم حرارة الشمس الوهجة، محبين لروائح الأكفان وحنوط الأموات، مبتعدين عن ملاذ الحالمين في الأراضي البكر، فيدنون من المقابر ويتركون حياة النعيم، الصباح متوهج في بواكيره هذه اليوم والعصافير شبه مخنوقة تقف على أطراف الأغصان، طائر اللقلق هو الآخر منكفئ على غصن الزيتون، يومئ للمارين إلى حيثُ سدرة الحارة في قلهات بوشر، وقد يرجع سبب تسميتها بالحارة إلى الطعم الحار لثمار النبق بها هو الطعم السكري أو يعود ربما إلى أنها تقع في حارة قلهات، أي بمعنى قرية أو حيّ، لم أتحقق من سبب التسمية الحقيقي وماذا يخفي وراءُه، كانت الجو مختلفًا في بوشر هذا اليوم،لاح طيف جدي أمامي كالحلم الجميل وهو يقبل ببشائر الفرح كما اعتاد الجميع منه في تلقي بشائر السرور في قلهات، فأزحت الحلم الجميل الذي راودني وأشحت بنظري تجاه السارية المنتصبة هناك في أعالي ذلك البيت الكبير الذي سدّ على غشاوة عيني رؤية جبل القليعي، فتركتُ عادة المكوث سويعات في جلوريا كافيه ودثرتُ شيئّا من الرغبات لرؤية إطلالة اصطفاف السيارات على دوار دوحة الأدب وسماع أصوات السيارات المشتتة للذهن، كالتشتيت الذي يصيبك عندما تقف عند إحدى بنايات الإسكندرية في سان ستيفانو وتستمع إلى أصوات المارة وعنعنة السيارات.
رغم شآبيب المطر المنهمر بقوة ورغم الرائحة العطرية التي تخرج من بيوت النمل المنتظمة، تجرني الخطوات إلى التقاط المزيد من الصور لقلهات، فمثل هذه القرارات عادةً تأتيني بلا موعدٍ مسبق وفي لحظات لم أخطط لها قط، قد تتدخل الأمزجة وتحدد المساقات كما حدد الساسانيين طريق الحرير ذات وقت، طفقت أحدث نفسي، أيُ طريق سأسلك بعد أن ولجت قلهات، فأزحتُ التفكير وعمدت على إيقاف سيارتي لأتجه إلى الطريق الذي يخترق بيت ابن العم ناصر بن عبدالله المعشري وعابية "بدع سدرة"، فعرجت بها وتوغلت إلى حين رمقت مشهد "سدرة الحارة" فرأيتها تتوسد الجدار الإسمنتي وكأنها تستغيث ببيادير بلدة بوشر الذين يصطفون حولها، مشكلين حلقة مستمعين لصوت "الدلال" الذي يصدح بأعلى صوته ورائحة القهوة تتسلل إلى أنوفنا، بدا صوته يخترق أدني عندما كان كبار السن يسترقون السمع؛ فيمن ينال السبق بأخذ زمام المبادرة ويكون ضمن الفائزين بشرف جني ثمار نبق سدرة الحارة اللذيذ الطعم الذي اعتبرته ويعتبره أهالي بلدة بوشر بأنه أحد أجود الثمار الذي تذوقوه.
شعرت بغصة عارمة تسللت إليّ على حين غرة عند رؤيتي الجدران الإسمنتية تُحكم قبضتها على هذه السدرة التي شكلت إحدى الشواهد التاريخية في قلهات، فغدت مضرب الأمثال في جودة ثمار النبق وبدت الآن كما ترون منسلخة من كل شيء عدا جذعها المتين الذي بدى عاريًا هو الآخر وسط زحف الجدران الإسمنتية وحشرجة الجرافات، وعند موطئ قدمي وجدت الصولجان يرتفع ويتعالى فيقبض على سدرة الحارة يريد أن يقتلعها لتلفظ أنفاسها الأخيرة ببطء، لم أحتمل هذه المشاهد فقفلت عائدا إلى حضن سيارتي لعلها تخفف شيئًا من خطايا البشر- سأظل أفتش عن بقايا البقايا في الأزمنة التي نأت بنفسها عن ضجيج المدن وتكونت في ذهني كومة أسئلة تذكرت مهنا تحذيرات جدتي شيخة بنت عبيد وهي ترشقنا بهذه العبارة بين الفنية والفينة "لا تقربوا هذه السدرة يا أولادي، فهي مسكونة"
 
الخميس 27 ديسمبر 2018م
سدر الحارة

أتوسط مقهى جلوريا كافيه

بعض الشواهد في قلهات بوشر

إطلالة على مقبرة قهات
 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر