سدرة المقضمانية في قلهات وتجبيرة سالم بن عديم في حلة الصفة بغبرة بوشر

 
دنوتُ من سدرة المقضمانية التي عاشت ألق السنين، شأنها شأن السدر التي تستهوي البقاء في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، عشنا معها أجمل تفاصيل حياتنا، كانت لا تنكفئ على ذاتها ولم تتوسد "الدّك" المُرمى على أثدائها بكراهية وبغض.. وعندما نُقبل عليها في نهاراتنا المشمسة؛ عندما نفارق إناء القهوة المشعشعة التي تعدها نسوة الحيّ في تباريح صباحاتنا الجميلة، كنا نمرق بيوت الطين الراسخة في الحيّ، كنا نشاهد تفاصيل الجدران المُتعبة التي أرهقتها السنين، نرتحل في يومنا إلى عدة وجهات أرخاها لنا القدر، في ذات يوم تلفع الحيّ ضمور المكان ولواهيب الغربي، الشمس بدت وكأنها عالقة في منتصف السماء؛ رغم أن الصباح لازال في بواكيره، ولأن القدر الذي أراد لنا توديع القهوة على القِدر؛ هو ذاته من أراد لنا الذهاب إلى سدرة المقضمانية والتي تنبت ثمارها الخالية من النوى.
 
وفي غمرة اللحظات التي لم أضعها في الحسبان ولم تكن ضمن أجندتي اليومية، خرجتُ من قمقم السكون وضمور المكان إلى شقاوة الطفولة الموغلة في بواطن المغامرة وحب الغير مرغوب من الأحداث، فعمدت على تسلق سدرة المقضمانية حالي حال القرناء، كنتُ وغيري من صبية الحيّ رغم ظروف الحياة وضراوة اللحظات؛ نقوم بأعمال نعتبرها اليوم شيء من الجنون، لم أكن الحظ المجهول الذي ينتظرني وأنا أخطو إلى السدرة، لم أكن على دراية بالقدر الخافي في دواليب الغيب، وأنا أهمّ على صعود سدرة المقضمانية تريثتُ قليلاً لعل الجذر المتين فيها يحوي على أحراش تعيق عملية الصعود، تبينت بأن إزميلا قد اخترق الجذع المتين "الجوس"؛ يستخدمه الأهالي لامتطاء السدرة لجني ما تحوي من "نبق"، وفي تلك اللحظة كانت المرحومة جدتي لوالدي، شيخة بنت عبيد تفترش الأرض حالها كأي الجدّات اللائي يسرقن السويعات في المفيد من الأوقات، كانت تبيع القشاط والفول المحمص والأخير الذي كان يشتهر به حيّ قلهات والأحياء المجاورة في بلدة بوشر، في جولتي هذه يصحبني فيها أحد الندماء الذين لازموني رحلة الطفولة منذ البدايات، ودعت المرحومة شيخة بنت ناصر والدة الراحل محمد بن عدي المعشري الوداع الأخير إلى رحلة المجهول في مثواها السرمدي، رأيتُ سيلاً من النمل والزنابير والصراريخ تستند على حنفة ترابية أغرقتها المياه، رأيتُ الباحة خلف منزل المرحومة التي شهدت العديد من الأحداث، بين ملعب لكرة القدم ومسرحاً لإقامة الولائم وتأبين الراحلين عن الخليقة، فتلاشت تلك الأحداث في غمضة عين ولاحت أمامي سدرة المقضمانية التي آثرت اعتلائها بدون مسند حماية ولا رُكبان صعود الذي يعتمد عليه العاملون في منظمات الأمن والسلامة ومتسلقي أعمدة النور الذين يمتهنون أخطر وأصعب الوظائف في قوائم العالم، وصعدتُ وتفيأت ظِلال نخلة سامقة بعابية "بدع سدرة"، وعمدتُ فورا على جني ثمار النبق ومع كل تسلق أقوم به أتوغل بين الأحراش، أفتش عن ثمار النبق اليانعة والمحمرّة كخدود الأوروبيات، فجأة خرج ثعبانا من قمقمه أحدث صوتا مريبا، أحسست بالخدر يسري إلىّ، بلا إرادة مني دبّ الخوف إلى جسدي وكأنني أصبتُ بالحمى، ظللتُ أتسلق كالذي يمشي نائما دون هوادة، أحسست بقدميّ ترجفان، لكن هيهات هيهات، يبدو أن الثعبان بدأ يدنو مني رويدا رويدا، إلى حين أن قررت القرار الأخير!
 
.. تُرى كيف أتصرف، هل أرمي بثقل جسدي من الأعلى وأهوي إلى الأرض ويحدثُ مالا يحمد عقباه، أم أُسلم جسدي للثعبان؛ يعبث به كيفما يشاء ووفق الدناءة التي تشع من مخالبِه المقززة، كم أكره الثعابين وكم يصعب عليّ تخيل هذه اللحظة التي أحاول إفراغ الحبر من غمد اليراع لأكتب عن الواقعة، أفكار لم تبرح ذاكرتي، تماهت النفس وأصابها الأرق وفي كلِ مرة أتصفح فيها دوافع الكتابة عن حكايات من حكاوى بلدة بوشر، تجرني كتاباتي إلى تلكم الحماقات التي توقظ فيّ الوجوه المتململة عندما تلفظ النشرة الإخبارية في إحدى القنوات تخبر عن قرب نهاية العالم، وأن هذا الكون قد أزف على الرحيل وهو ماثل إلى زوال وعلينا أن نتخير الأقدار التي تأتينا فجأة ونستكين إلى لهيب الماضي المزعج بحكاياته وخرافاته، وفي اللحظة التي عمدت فيها على التفكير مليا في كيفية التصرف، قررتُ وبلا تردد أن ألقي بثقل جسدي فهويتُ كالخرقة إلى الأرض وكان من لطف الأقدار أن يتصداني عمود أخضر مليء بأوراق السدرة وكأنها عرفانا للعشرة؛ أرادات أن تقوم بحمايتي، وهذا من لطف الطالع وإرادة الخالق، فوقعت وحمى العود الأخضر جسدي إلا من فقدان التوازن الذي أربكني وأصاب يدي بالكسر والتشظي، ومن فضائل الخالق أن آلت الأمور إلى هذا الحد، فورا وبدون أن أدري وجدت نفسي أركب سيارة محمد بن عبدالله الجابري، جارٌ عزيز من الجيران الذين يشكلون رمزا من رموز الحيّ، أقلني بسيارته إلى المجبر سالم بن عديّم في "حلة الصفة" إحدى توابع بلدة بوشر ولأنني لم أتخير المصير؛ نظرا لصغر سني، كان عليّ أن أرضخ لرغباتهم بالموافقة، أومأت بالإيجاب، الصراخ نتيجة الألم الشديد كان ملازما لنا في رحلتنا من الحيّ إلى المُجبر سالم بن عديّم، وعندما وصلنا إلى المجبر لم أكن مخيرا في العودة أدراجي وكأنني وقّعتُ صك غفران ألزمني الوفاء بالميثاق، صوتا قويا أفقدني الوعي، كان الصوت هو العمل الذي قام به المُجبر عندما كسر يدي مجددا؛ حتى يستطيع تجبيرها بسهولة ويسر، لم أستطع الفكاك من قبضة والدي ومحمد بن عبدالله الجابري ساعتها، ولم أفق إلا وأنا نائما في البيت وجبيرة البيض والشاش لامع البياض وكأنه أكفان الموتى مع بضع عصيّ تقوم بتثبيت الجبيرة على مِعصم يدي، تلكم الكائنات استمرت معي زهاء شهر وكان الضمور بدى على يدي فتلاقت اللحمة مع العظم إثر المدة الزمنية وإحكام الرباط.
 
وأنا مستلقٍ على عابية الرُبّة مستذكرا تلكم الأيام، كان عليّ أن أطوي صفحتها كما طويت صفحة سدرة المعلم عامر المواربة لمزرعة الرُبّة بذات الحيّ، حدقتُ إليها ووجدت نفسي وكأنني في جزيرة مظلمة؛ أعيش فيها وحدي، لمحتها كما لمحت أدوات التصفير في البيت القديم الذي ينتصف الحيّ قبل أن تنتزعه جرافات البلدية وتمسحه كآخر الآثار التي زالت من الحيّ، وفي لحظة تحويله إلى أشلاء كنتُ حاضرا بجل الحواس، حدقت إلى بصيص النور يتسلل من الشرفة المثقوبة، رأيتُ النور يذوي على خشب الكندل وهو يتكئ على "طفالة" صلصال ضلت سعيها بعد أن هوت من جدران الطين المهيبة.
الخميس 11 أكتوبر 2018م

 
سدرة المقضمانية التي أحتاطها الدكّ

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر