حبيسة المطر

حبيسة المطر
همسات ضائعة أضعها بين أنامل الدكتورة "عائشة الغابشية" بعد أن غادرت وزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه اليوم الإثنين 30 نوفمبر 2015 م.
 
...عندما تشرق شمس صباح يومٍ جديد ويعلن الفجر أفول خيوطه، حتى نبدأ صباحاتنا المشرقة كشروق تلكَ الأرواح الصادقة، أرواح ندين لها بجيش من العواطف ونغدقُ عليها سيل من الودِ والحب، هكذا هي الحياة سفينة تحملنا إلى مرافئ الأمل بين دفة الموج الهائج وتلاطمه ورسوها إلى شط البحر بأمان.
وكما أن النقيض يعيش بيننــا فإن الوحيّ الجميل القادم يجعلنــا أكثر إشراقاً وطمأنينة، أكثر القاً وصفاءً، أكثرُ نقاءً ومحبة.
قد يعلن أديم الليل سدوله وتغيب شمس الصباح في كلِ يوم، قد تأفل ساعات الصفاء وتتلاشى بين الأحباب، لكن ثمة شيء يبقى خالداً، شيء يحيق المشرئبات العالقة في نوائب الزمن، (علاقاتنا، نقاء سرائرُنا، صفاؤنا، صدق مشاعرنا ونفوسنا الطاهرة التواقة لرؤية الحب الساكن في تلك الأفئدة.. كلها تتجمع لتشكل ملحمة من التواد، يطبع جمال من يجمعنا في يومِ عمل جديد بين أروقة المكاتب المكتظة.
تهل علينا خيرات الصباح الباكر بنسائمه الهانئة وروائحه الطيبة بطلة جميلة للدكتورة "عائشة الغابشية" بين صفاء الجو ورشة "عطر" نشتمها كل يوم وروائح البخور المشعشعة  تعبر الممرات؛ كسيجارة تنفث دخان كثيف يعلو في السماء، كطائر يضرب بريش جناحيه الريح ليحلق أعلى ليعانق عتبات النجوم في ليلة صافية في منتصف شهر أيلول، بيدّ أن أوجه الإختلاف في حسن ما يخرج منها.
هكذا كانت الدكتورة :عائشة الغابشية" كعادتها تنثر أيامنا في ساعات العمل شظايا بلور من الحب المتساقط على أرض داسته قدماها.
يتساقط حسها إكليلاً في صباح نتجمع فيه في مكاتب تآلف القلوب، نسبر أغوار الحكاوى وبسماتنا تسبق ضراوة الحديث..
أشجان على ضِفاف الأمكنة
كثيرة هي اللحظات الجميلة التي تأتينا في أوقاتٍ عابرة، وكثيرة هذه اللحظات التي تؤنسنا في أيام حياتنا الهانئة..
هل لكَ أن تتخيل سقوط ورقة من زهرة الباتشولي اليانعة الصبا كما ذكرتها وضحاء في رائعتها "الباتشولي" قبل أن تؤنسنا بغزارة حسها بإمرأة من الدانتيل الأبيض وانعتاق أرواحنا عندما تُدندن بشخصياتها التي شنفت أرواحنا قبل مسامعنا (دينا) و(فراس) قصة حب وفراق تحت المطر، قصة السكون الذي يغدقنا عشقاً وحباً.. تسقط الورقة وقبل أن تصل الأرض أسمعُ طاقة صوتي..
وحين يبدأ صوتي أن يتجرد يا "دكتورة" من غمد أنفاسي أسمع صوتاً عالياً يشبه الحنين لتلك الأيام، تذكرتُ الحديث الدافئ حين صبــاح في مكتب "أم خالد".. تذكرتُ عنفوانك وأنتِ تومئين وحدقتا عيناكِ ترفرف وجلاً من الأنّات والفراق.. قلتُ لكِ حينها اننــا نسيرُ تحت المطر..
أذكرُ يا دكتورة ذاك اليوم كما أذكرُ هذه اللحظة الآن وأنــا أرسم حروفي على بياض هذه الورقة الناصعة البياض.. حتى خيوطها الهامشية لم تعُد كما كانت في بدايةِ صنعها.
السماء ملبدة بالغيوم والجو في الخارج شديد البرودة وما يطفئ لفحات البرد التي تعصفنا من نافذة مكتب "أم خالد" المطلة على النادي الدبلوماسي إلا تلك الحوارات اللاهبة بيننا، أر أبا أحمد كعادته يلوح بيده إلى الأعلى ويصرخ بصوتٍ عال.. كنت ساعتها أسترق السمع وكأنني أتلذذ الحديث في صمت..
أر الوجوم على أم خالد.. تفغر فاها.. لوت رأسها.. أر شلال من العواطف يُمطرنــا ذات صباح، أر هيجان يحرك ذواتنا، يلطم أمواج صباحاتنا، أر رمال الصحراء تزحفُ إلينا وكأنها وادٍ أقبل والناس نيام.. وهنا لا أملك البوح بكل ما يختلجني يا دكتورة.. قد تسقط الكلمات وتنزوِ إلى مآلات بعيدة.. بعيدة.. بعيدة..
ونبقى عابرو سبيل.. نبقى مارون في الحياة كما تمر الكلمات الدافئة، تماماً كما وصفها "درويش" في شعره
"عابرون في كلام عابر"
ايها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسمائكم وانصرفوا
وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا ،و أنصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور،كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء
ايها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة اخرى- ومنا حجر منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص..و انصرفوا
وعلينا ،نحن، ان نحرس ورد الشهداء
و علينا..شكراً "درويش" تبقى معنا وفينا إلى أبد الآبدين.
وعبر أروقة مداخل التوعية أشتم عبق الأمس فيكِ، أجوب اقسامها قسماً قسما، ركناً ركنا.. أفتش عنكِ علك مختبئة هنالك في غرفة المونتاج.. لاح لناظري أحد زملاء العمل..
بادلته السؤال تلو الآخر..
أين الدكتورة؟
قلتها في حالة نسيان!
فغر فاه وانعقدت حاجبيه وران الصمت على المكان.. وقبل أن ينبس ببنت شفه..
راحت!
قالها: كلمه خرجت من جوفه كانت حبيسة المطر، أشعلت في بركان مشاعر، فجرت صيحات وأنات كانت مكبوتة.. وقبلَ أن أجفل وأعود أدراجي أشحتُ بنظري إلى الممر الضيق المؤدي إلى مكتبي بدائــرة الصحة الوقائية.. فاضت مني العبرات وسالت دموعي كجريان الشعاب الوفيرة على ضواحي الجبل الأبيض في ريف شامونيه المهيب بين باريس وعاصمة النافورات جنيف.. تفجرت كما تتفجر العيون والأفلاج بقطاع موارد المياه وحكايات حِيكت بأيادٍ تربعت على مهد الورق، أنامل خطت في شتى القطاعات لتخرج من بينها أنبل العبارات وأرقى الهمسات.. لتنال شرف توقيع منك ويطبع اسمك في بدايته ونهايته.. كل شيء يشي بجمال أيامك، كل شيء يعود إلى تلكم الأيام حيثُ حضورك يضفي رونقاً آخر يا دكتورة.. أراكِ تعبُرين المسار المقابل لمكتبي وخطاكِ تدندن على مسامعي كإحدى رائعات الموسيقار "باخ" في سويعات العمل.. كُنتِ تجوبين دوائر الرقابة الصحية في كلِ وقت وحفاوة الترحاب تظهر على وجوهنــا، ما أجملها من طلاّت يا دكتورة تلك التي تسبقها ابتسامتك الصادقة، ما أروعها من لحظات تلكَ التي كنا نتسامر معها بين الفينةِ والأخرى، رجفات أصابعي، حرارة جسمي، تعابير وجهي تبدلت.. ما عادت كما كانت قبل سماعي خبر ذهابكِ.. تسمرت أوصالي أسترجع الجلسات الحانية قبل بدءِ العمل وقبل حتى أن نحتسي كوب الشاي المعد من قِبل الرائعة "مريم" تجمعنا الأحاديث في مكتب العزيز "أبأ أحمد" برفقة فنجان قهوة. عندها تذكرت القاص خليفة العبري في مجموعته القصصية "فنجان قهوة عند سوق مطرح" عُدت إلى تخوم الماضي أستطرد صانع البن وجلسات الرحبيين والعابرون عبر سكة الظلام، أستجمع فقدان ذاكرتي "بناية طالب" الشهيرة لكل من عاش تفاصيل الماضي.. ومن ينسى "المقهوي" صاحب الدشداشة القصيرة الذي يضع الجمر تحت الإبريق، أراه يتجول بين ردهات السوق وأصوات الفناجين تجلجل راسمة أجمل النغمات.
 
أعصف بذهني تلك الأيام وأعود إلى جلساتنا الحانية بمكتب "أبا أحمد" كومة من المشاعر تدفقت.. سنشعر بالحيرة والتيه عند غيابك يا"دكتورة".. تماماً كما يشعر المفكر بزحمة الأفكار الواردة كسيل عرِم يبحث من خلاله عن قشة توصله إلى البر المحاذي.
 
أسئلة أضعُ لها خطين تحت السطور.. أسئلة لا أملكُ لها أجوبة..كيف لا وزميلة العمل ليست كالتي يربطني بها اسم مقيد في أجهزة شؤون التوظيف في مقر العمل.. هي أكبر من ذلك وأكبر، هي أكثر من أن تخط بحبر القلم..
 
كعادتي اليومية/ صباحاتي تبدأ باطلاع على بعض المشاهد الأدبية في جرائدنا اليومية لخبرات التهمت مئات الكتب قبيل الترجل عن صهوة سيارتي لبدءِ مشهدٌ جديد وسيناريوهات تعودنا عليها منذ زهاء خمس سنوات ونيف من الزمن (سيف، سالم، درويش وبعض الرفاق.. كعادتهم بعدَ أن نحتسي فنجان القهوة اليومي، بعد أن نرتشف ما فيه من بن في قاع الفنجان، آآآآآآه ما أروعها من لحظات تنتشي معها الروح..
فصل الصيف..
الصيف لاهب والجو مشتعل في الخارج بين حرارة ورطوبة.. واحتساء القهوة وشرب الشاي الساخن مع الحوارات اليومية الصباحية برفقة الدكتورة كفيلة بأن تشعلُ فتيل حرب كلامية تنتهي على الأغلب بقهقهات وتأويلات حميمية نجدُ معها دفء العلاقات الأخوية وحسن السجايا.. نبدأ النقاشات المعتادة، نسبرُ أغوار مختلف المواضيع وعلى كافة الأصعدة..
"أبأ أحمد" دائماً ما يفتتحُ الجلسة..هو من يسبرُ كل مداخلة بمواضيعه الشيقة، تبدأ المداخلات وتتداخل الأحرف اللفظية، بعض الألسن يخونها التعبير فتبدأ بالتلعثم.. وكأننا في مؤتمر أقيم في منظمة عالمية بهــا"محاضرين، خبراء، مستشارين وبعض المسؤولين" من ثم نخرجُ بتوصيات نحددُ معها مصير هذه الأمة!
 
الفرقُ بيننا وبينهم/ جلساتنا بالمجان يلتهبُ فيها الحديث مع التهاب حناجرنا ونحنُ نحتسي فنجان قهوة من يد "الناعبي" وعلى طريقته الخاصة التي لا تستهويني على الأغلب، ويحتدمُ النقاش وتعصفُ فيه لذة الأخوة رغمَ الاختلافات الدائمة في أغلبها..
ويمر الوقت، ودقت ساعة التنبيه على معصم يدي المبرمجة في عقلي الباطني، آذنه بوقت انصرافي إلى المكتب.
الصباح يمرُ سريعاً برفقة الدكتورة والرفاق على عكس صباح زهرة اللوتس بالقرب من شاطئ سيدي بشر وجابر بالاسكندرية حيثُ تنعكسُ الإيماءات الحميمية من الرفاق وتختلطُ بقالب الإبتسامة كأحمر الشفاة اللاصقُ على شفاه زميلتنا الحسناء في مكتب ليس ببعيد عن مكتبي..
فكرتُ لحظتها ما بال "سيف" واجم لا ينبس ببنت شفة، ما باله اليوم ساكن الحس لا يشاركُنا خزعبلاتنا اللطيفة.. أفكارٌ تأتي وأفكار تأفل وتبقى ذكرياتك معنا يا دكتورة
"حبيسة المطر"
يحيى المعشري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر