صالح الرزيقي أكسجين البلديات الذي نتنفسه برئتين
توقيع"
شهادة شخصية أقدمها للزميل العزيز صالح الرزيقي، ما خطه قلمي القزم أمام قامة مجيدة بشهادة الجميع، ليست إلا رحلة قلم ضائعة لا تعرف من الحياة سوى التوهان وسبر أغوار الكتابة، شهادة صدق في حق شخصيات عايشتها في حياتي.
..................
كتب
يحيى المعشري
.................
من بواكير الصباح
تتتابع خطوات الزملاء والزميلات أمام شاشة دمغ البصمة التيبي ون ذائعة الصيت
الصافنة أمام نافورات سويسرا السامقة وكلهم شوق ورغبة في قضاء سويعات العمل بين
أحضان أجهزة الفوجستو والأتش بي والسامسونج لإنهاء معاملات المواطنين في ثغور
الوطن العزيز، ويأتي صالح الرزيقي كصلاة، كترنيمة تُلهب الروح، فقد سابق الزمن
وسابق الندماء في وزارة البلديات في هذا وذاك، يأتي صالح إلى مقر عمله من بواكير الفجر
قبل أن تنتشر أسراب الطيور إلى وجهتها؛ وشوقه فاق السيل العرم الذي جلجل أصوات
الإذاعات والشاشات المتلفزة العُمانية؛ عندما أعلنت ساعات الإنذار حالات التأهب
لقدوم الضيف الغير مرحب به مكونو، فهب الكل لنداء الواجب من جبل الحريم في مسندم
إلى جبل سمحان في محافظة ظفار.
يفِدُ الزملاء والزميلات
إلى العمل بأريحية ونهم؛ لقضاء أوقات العمل وروحهم مستبشرة وقلوبهم مشروحة
للمُراجِع إلى مقر عملهم؛ لإنهاء المعاملات أو يغنم بعقد صفقة مناقصات يكون الرابح
الأوحد هو ومن يأتمرون بأمره، وفي الرابع والعشرين من نيسان (إبريل) إلى التاسع
عشر آيار (مايو) توغلت صالة العرض، إحدى الصالات في مركز تنمية الموارد البشرية،
مركز التدريب سابقا في مقره المقابل لمطار مسقط، كانت هناك معرفتي الأولى بصالح
الرزيقي، حيثُ الأستاذ أحمد الفارسي كان محاضراً ومعلما في دورة الأكسس التدريبية،
المتدربين فيها آنذاك هم الآن في مصاف الإدارات ورئاسة الأقسام، ومن تلك الدورة
حضونا بشرف معرفة النديم صالح الإنسان الذي لانت له القلوب قبل العقول، حلو الطبع
دمث الخلق، هادئ كل الهدوء، ومن تلك الفترة إلى الآن ثمة علاقة وطيدة توغلت في
عُمق الزملاء مع صالح، ومنها كنت ولازلت على علاقة أخوية وزمالة معه إلى يومنا هذا
وهي من العلاقات التي تشربتُ منها وتشربت مني، فلم تعد العلاقة علاقة عاطفية
تتلقفها ترنحات الأزمنة ولم تعد علاقة عابرة تتلاشى وتنحسر بتلاشي الوقت لمصلحة
آنية في سويعات العمل التي نقضيها بين أروقة المكاتب، بل تعدت إلى أبعد من ذلك
وأكثر، وبداية البداية للرزيقي موظفا في قسم إنهاء الخدمة والتقاعد قبل أن يرأس
القسم لسنوات إلى حين تعطر قسم تنظيم
وتصنيف الوظائف برئاسته في الفترة الزاهية التي تشرفت فيها بمعرفته.
وتعاقبت الأزمنة
وتوالت الأيام إلى أن تنحت القرارات وأدارت ظهرها للبعض وأقبلت للبعض، والسعيد من
ظفر بالمغنم والخيرات والتعيس من لم تشأ له الأقدار ولم تعره شيئا من شآبيب الزمان
والمكان، وفي غمرة الأوقات كنت أدمغ بصمتي على أجهزة الدمغ السويسرية نهاية العمل
وفي أي وقت تسعفني اللحظات لزيارة صالح في مكتبه، كان صالح صالحاً بمعنى الكلمة
وكان صالح بمعنى الصلاح الذي يقدمه الموظف لعمله، وقد عرفته علاوة عن كونه منتظماً
ودقيقا في عمله، عرفته بالسخاء، فقد كان يُقرض الوزارة من أوقاته التي نقضيها نحن
في مقر عملنا وهي الثمان إلى التسع ساعات، كانت ساعات عمله ولا زالت تتعدى الاثني
عشر ساعة في اليوم وأكثر، وفي أوقات الأنس والتنعم بزيارة الأهل في الإجازات كان
صالح يستقطع جزء من هذه الأوقات لوضع بصمة أخرى في مقر عمله، يكبس زر التشغيل، يتابع
المعاملات المؤجلة أو التي لم يفرغ منها في أوقات العمل الاعتيادية والتي لا تريد
أن تنتهي، يمر الوقت وتمر الساعات وصالح لا زال قابعا في مقر عمله والمراسلات في
تزايد والعمل الإداري روتين لا يفرغ منه، وبينما مركزية أعمال الموارد البشرية
تتيح لصالح التعامل مع أقطاب البلديات ورموزها، فقد أزاح صالح هذه المعارف التي لم
تشبعه؛ فأرخى تواصله مع الجميع دونما تمييز أو تذمر.
وعندما أحبو إلى
مقهى ركن الكرك في الخويــر أضاجع الأشجان وأسامر الأيام الخوالي؛ قبل أن يفارق
صالح الرزيقي ملاذه في بناية الخويـــر متنقلا إلى العامرات في بيته العامر، أزحف
برفقته قاصداً ذلك المقهى
الصغيرة، مستفكراً ذلك الحِراك البشري في تلك البقعة التي بالكاد تكفي أعداد بشرية
لا تتجاوز أشخاص معدودين، ففيه تتسابق الأرواح وتتقاذف الأقدام، بعضها تهفو جاثمة،
تتثاقل بخطواتها من كثرة الأفكار التي تُرهقها، والأخرى تتسابق للوصول إلى.. إلى
أين يا تُرى.. هذه المرة.. إلى أين يا رفاق.. إلى مقهى "ركن الكرك" حيثُ
أتسامر مع صالح الرزيقي، بضع كراسي بيضاء ذات شكلٍ دائري كأوشحة الأكفان في
لمعانها، مصفوفة من هناك وهناك، عارية من ِكل شيء إلا من البقع العالقة إثر
الانسكاب الدائم للشاي عليها، ونحن هناك نجلس مثلهم في أي كرسي يستطيع أن يحتوينا
أو أي ردهة بالإمكان أن تستوعب شخصين منزويين لوحدهم، هذا المقهى يبدو وكأنه ذا
أبعاد لم تخضع للمواصفات والمقاييس عند الترخيص لمثل هذه المقاهي، ففيه تعتمد
البلدية على مساحاتٍ محددة، وفيه يركن صاحب المقهى إلى سلسلة إجراءات قبل أن تنفك
عقدة الإجراءات ليبدأ رحلته العملية واضعاً لوحته المضيئة، التي جلدت جيبه ونزفت
من عروقه آخر قطرات الدماء؛ لتتمكن من أن تستقطب الزبائن من مسافات.
في هذا الوقت وبينما صالح الرزيقي منهمكا
مع بريده اليومي، يزيح أزرار البريد ذات اليمين وذات الشمال، يغوص في بحار الموارد
البشرية بتجلياتها وشجونها، لا أجد من يسامرني في غمرة انشغاله بالعمل وانهماكه
بمتابعة مواضيع الموظفين، أجدُ ضالتي مع ملاحق "شرفات" التي أحتفظ بها
في سيارتي فتلازمني أينما حللتُ وارتحلت، أقرأ ما يروي فضولي منها، أمرق على
ملخصات الروايات بسردياتها وقصصها التي لا أريد لها أن تنتهي، أدخل مع الكتّاب وهم
يعصفون أفكارهم على شرفات وبيدي الأخرى أمسك القلم لعلي أجدُ ما أستطيع أن أرسمه
على ناصية الورق، أغرق في هذا العالم وأهيم فيه كيفما شاءت لي الأقدار، رغم ضجيج
الأصوات ورغم قرقعة الأكواب عندما تتصادم بعضها ببعض في يد النادل قبل أن يرميها
على طاولة الانتظار إلى أقرب عابر تستهويه هذه الجلسات، في هذه الأوقات نرَ جموعاً
من الناس تعبر المقهى منهم من يرتدي أسمالاً بالية، ومنهم من يبدو عليه وكأنه أحد الخواجة الذين يتباهون بما يملكون،
تلك النفس البشرية تعيشُ حياتها وفق رغباتها، فلا يمكنني تصنيفها من ذلك الهندام
المُلقى على جسد هذا وذاك، رأيتُ سيلاً من الخنافس تمرق شقوق بناية أحد التجار،
رأيتُ السحالي والقمل وعدد من الحشرات تتسلق سلة المهملات القابعة بين أحزمة النور؛
المتسللة من التلفاز. وفي عروس البحر المتوسط الإسكندرية في رحلة أرض الكنانة
العام المنصرم، أومأ لي صالح بأن نركن جانبا بعد رحلة نهار مجهدة قائلا: هنالك
مقهى، وقبل أن أنبس ببنت شفة باغتني علينا أن نجرب رؤية إطلالة المساء من هذا المقهى،
فقلت لك ذلك يا رفيقي، دثرت مشاعري بإكليل ورد ابتعته من أحد الباعة الجائلين
الذين يسرحون بين الأمكنة من أجل الحصول على حفنة مال؛ تقيهم شر الجوع والفاقة،
وقبل أن نبدأ بطلب مبتغانا أخرج الرزيقي جهازه ليتفقد آخر أخبار العمل وآخر
المستجدات في قسم التنظيم
وتصنيف الوظائف ليستعيد أمجاده في بواكير العمل ويمخر عباب السفائن في قسم الرواتب
والأجور لعل أحد العاملين اُسّتقطع من راتبه ليسد الحاجة ويتفقد قسم الملفات والإجازات
إن ثمة مستحق لها ليعينه، وفي قسم التعيينات وموازنة الوظائف أجده فاغر الفاه،
مبتسم فهناك أفئدة تعتاش من هذا التعيين، وقبل أن ينتهي النادل من تقديم الطعام
اندلق زر الجهاز على حين غرة إلى قسم إنهاء الخدمة والتقاعد فبدأ الوجوم على محيا
صالح الرزيقي، وقد فاضت عيناه واغرورقت دموعا عندما يقترب من لحظات الوداع لموظف
كان أم موظفة قضى فصول حياته بين أروقة البلديات.
وبدخولك مكتب الرزيقي
الذي تدخله دون استئذان كما يفعل البعض في مكاتبهم الموصدة، فلا دبابات تفزع ولا
وجوه تزمجر ولا أفئدة تتغول، فعندما تأذن لك السكرتيرة بابتساماتها العفوية، هنالك
بداية النهاية قبل أن تحصل على استشارة العارف من الرزيقي تكفيك لتذرع إلى فنجان
القهوة المشعشعة التي لا تفارق مكتبه مع حبات تمر تسد بها نهمك؛ تغنيك طول
الانتظار، وقبل أن تقفل راجعاً إلى وجهتك عليك أن ترتل الصلوات والدعوات بصوتٍ
مسموع وتضرّع إلى البارئ بخشوع وخنوع بأن يرفعه أعلى المراتب، فالصادقون المخلصون
والمجدّون هم أكسجين الوزارة نتنفسهم برئتين.
كل نهر، وله نبع ومجرى وحياة..
يا
صديقي..
أرضنا ليست بعاقر كل أرض، ولها ميلادها..
كل
فجر وله موعد ثائر- محمود درويش
![]() |
برفقة العزيز صالح الرزيقي في أحد المقاهي في كامب شيزار- الإسكندرية |
الأربعاء 19 سبتمبر
2018م
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام