عندما أقلب خرائط العالم جائلاً ببصري الدول التي أتيحت لي زيارتها برا وجوا وبحرا، لم أتخيل يوماً وأنــا أتفرس الخرائط بجغرافية اليوم أن تكون إفريقيا ضمن أجندات الزيارات ولم تكن زنجبار الثرية بهيبتها وطقوسها ومآقيها هي إحدى الجزر التي سأسبر أغوارها ذات يوم- إلى أتى يونيو حزيران من العام 2018م وقررت زيارة الجزيرة المنسية زنجبار القابعة في تنزانيا، وبعد شد وجذب وبعد التعاطي مع الفكرة بموضوعية والتراخي والتراجع عن القرار، وفي يومٍ ما بينما كنت أتبادل أطراف الجدال وفي حديثٍ ودي بيني وبين الرفيق خالد قال لي: أريدكَ أن ترافقني إلى زنجبار وقد سبق أن أخبرتك مرارا وتكرارا، عليكَ أن تزورها وعليكَ أن تشاهد ما تحويه عن كثب، وتوالت الدعوات والدعوات وبين العودة والإقدام قررت الرضوخ لطلبه هذه المرة وقررت أن أتفيأ ظلال زنجبار وما تحويه وبما أخذ يرويه عنها خالد في الأحاديث الشائقة التي نتحدث بها بين الفينة والأخرى، سواء في مقر العمل أو أثناء معانقة جبال الحجر الغربي والشرقي محليا في ربوع عُمان أو ترحالنا إقليمياً في أقطار المعمورة التي نزورها، نسبر أغوارها؛ قاصدين رؤية ما تمتلكه من مخزونٍ ثقافي وحضاري وتاريخي والتمعن في الحالات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها هذه الشعوب أو تلك؛ لا بهدف التلصص ومعرفة أسرار الآخرين بغية التعدي على حرماتهم، بل بغية التفرس ومعرفة ما يُفيدنا في سفرنا، فلا أبلغ من القول الإفريقي عن السفر؛ بما أن الوجهة هذه المرة هي درة إفريقيا ورونقها "أن ترى لمرة واحدة أكثر قيمة من أن تسمع مئات المرات"، فقد كانت زيارتنا والتي بدأت بعد عيد الفطر مباشرةً والتي استمرت زهاء تسعة أيام، لكنها حملت بداخلي أرتالا من المشاعر وأرتال من رعشات الماضي استرجعتها بكل ما تحمل من مآقي وبساطة، بكل الأحداث وتبدل الأفلاك، مستبعدا في سفري هذا الأحداث التاريخية الدامية التي حصلت إبان الهجوم الشرس الطاغي من الغادر عبيد كارومي على أبناء جلدتنا الذين حملوا زنجبار وحملتهم بكل محبة وتواد زهاء قرنين من الزمن وأكثر، ولست هنا بصدد الحديث عن الحضور التاريخي العُماني في القرن الإفريقي فقد دون ذلك الحضور أسلافنا نقشا على جدران الستون تاون المدينة الحجرية الأشبة بدواخل عُمان في تصاميمها، وفي دواليب زنجبار اتسعت رقعة الفرجة برؤية الزنجباري بالزي العُماني والذي يطلق عليه مروابو وهو في الأساس يتحدر من ثغور عُمان، وفي رابعة زنجبار شاهدتُ الإسلام والسلام على وجوه أهل زنجبار، فقد كنا نمرق الأزقة في أسواق فرضاني ودرجاني والماركيت وكانت النسوة يتقدمن الرجال ليلقين علينا السلام جهرا "السلام عليكم" وردنا بالمثل لكنها تخرج من فاههن بابتسامة مطبوعة تنبئ بالصدق والبساطة، مختومة بكلمة (كاريبو) بمعنى تفضلوا، وفي أنجوجا لا زلنا نتّفرس الطريق الساحلي على ميناء ماليندي المتربع على المحيط الهندي، وفي ذات الوجهة وأنت واقف متصلب القامة يمكنك رؤية السلاطين الذين مخروا عباب أفريقيا من خلال رؤية صروحهم- بيت العجائب وبيت الساحل والشاهد على ذلك الرفات في مقبرة السلاطين وذويهم، وعندما تلاشى النهار وأقبل الليل بسدوله اصطحبنا نصير أحد أبناء ناصر مورابو إلى(فومبا) المكان الآسر وكأنك في موج مسقط بإطلالته البهية على المحيط الهندي ومن هناك عندما تشيح بنظرك للوجهة المقابلة تتراءى لك البنايات المصطفة بنفس التصميم وذات التشكيل لمالكها المستثمر اليمني الذي قطن زنجبار وألفها.
وفي اليوم الموالي ونحن نسير إلى أحد المنتجعات توجهنا إلى بيت المرهوبي الذي بناه السيد برغش للاستجمام والاسترخاء، وعندما تركنا التاريخ تلتهمه نيران الغضب على الضياع في بيت المرهوبي توجهنا إلى (امبويني)، حيثُ زنجبار الحديثة ببيوتها الفارهة التي يمتلكها الأمريكان والأوروبيون والزنجباريون الأغنياء وأبناء جلدتنا الذين حبذوا البقاء هناك، فهنا يتركون بيوتهم للخدم والحشم للقيام بأعمال البستنة والتنظيف إلى حين عودتهم إليها، وفي زنجبار قمنا بزيارة (نونجوا) القابعة على ضفاف البحر، حيثُ الفنادق الزاهية المطلة على الشط، فهناك تشتم رائحة البحر وتمتع عينك برؤية زرقته ومشاهدة المناظر النظرة، وفي زحمة المواعيد والزيارات اليومية كان لابد لنا أن نترك بعض الأجندات جانبا وكان علينا أن نمخر عباب المحيط الهندي إلى الجزيرة الخضراء بيمبا، مستأنسين ومتجانسين مع القرويين في سفينة المؤن والمواشي إلى أن رسونا في ميناء (مكواني) حاملين أمتعتنا وأفراحنا التي تقدمتنا، فأي فرحة هذه التي ساقتنا إلى بيمبا وأي فضول هذا الذي أوزعني ومن معي إلى معايشة الماضي بالمكوث لحظات من الأوقات اليتيمة برفقة القرويين الذين ما فتئوا أن شاهدونا إلا وعواصف الترحيب والحنين تعود بهم إلى عهد السلاطين وتجارة القرنفل، وفي بداية تجوالنا في بيمبا كان علينا أن نرمق أحيائها ومبانيها المتواضعة، كان علينا أن نعبر مزارعها ومروجها الخضراء، كان علينا أن نجلس بجوار الحفيس ودكادكين البيع والشراء رغم بساطتها، وفي غمرة الحنين إلى عهودٍ خلت خاتلت نفسي وأوهمتها جافلا المكان والإنسان الذي تآلفت معه رغم السويعات القليلة التي قضيتها. وعندما أقبلت عواصف الرحيل التي عصفت بلحظاتنا الجميلة مستمتعين بكل شيء تحويه هذه الجزيرة النابضة، قررنا أن نستقل حافلات القرويين إلى إنجيز وامتدودا وأخيراً إلى تشكي شاكي وهناك قضينا فصولا من فصول الماضي وشاهدنا الطبيعة في أروع تجلياتها.
اندفعنا إلى الشارع مرة أخرى نهيم فيه كيفما شاءت الخطوات، مررنا بميادين بيمبا كلها، ولوحت إلى أشجار القرنفل كلها، مودعا ميناء مكواني وبندر المسافرين، انحدرنا إلى مواقع الصيادين ورائحة السمك المجفف تعبث بأنوفنا، ألقيت على الصيادين وعلى عرصات البيع تحية وداع، حازماً أمتعتي في حقيبة السفر، وعلى مفترق الطريق أشق الدروب الحالمة بالمجد وكأني أودعها الوداع الأخير، وفي نهاية المطاف ولأن لكل فصل نهاية ولكل كلمة ختام، ولأن أيام السفر تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف فقد أزفت ساعة الرحيل وقد حان موعد المغادرة إلى مطار بيمبا الصغير والكبير بقلوب مريديه؛ قاصدين (أنجوجا) نهاية النهاية في تجوالنا في الجزيرة المنسية. وفي كل مرة كان ناصر مواربو يردد (هاكونا ماتاتا) Hakuna Matata] أي بمعنى ما شيء مشكلة.
الأحد 2 سبتمبر 2018م
 |
مدرسة تحفيظ القراء الكريم في أنجوجا |
 |
أمام بيت الساحل الذي بناه الإمبراطور سعيد بن سلطان |
 |
في السفينة من أنجوجا إلى الجزيرة الخضراء بيمبا |
 |
فرضاني |
 |
الدالا دالا |
 |
عرض المحيط الهندي |
 |
امبويني |
 |
أجزاء من زنجبار من الأعلى |
 |
تصميم غرف السلاطين في أحد الفنادق |
 |
أحد الحمامات أو الأحواض في قصر المرهوبي |
 |
برفقة أحد أفراد الماساي |
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام