من إنجيز إلى تشكي شاكي العاصمة الكلاسيكية

كتب 📝
يحيى المعشري

 مشاهدات ومعايشات من الجزيرة المنسية #زنجبار (7).
 
لم تعد الجزيرة الخضراء بيمبا أو الجزيرة الكلاسيكية كما يحلو تسميتها للبعض مجرد جزيرة عابرة ارتحلنا إليها في لحظات تقلب الأمزجة ولم تعد مجرد طيف يلاحقنا فيتلاشى بمجرد أن نشيك على تذكرة العودة في صالة البوردنج، ولم تكن مجرد تمائم نستحضرها وقت حضور الأديان، بل كانت بيمبا الأرض والإنسان والطبيعة وأرتال من الأحداث التي ساقتني ومن معي إلى خوض غمار هذه التجربة الفريدة.
 
فعندما قررنا أن نغادر بيمبا كان علينا أن نخرج باكرا حتى نتمكن من زيارة إحدى أخوات ناصر مواربو في (إنجيز)، وكان عليّ أن أودع رائحة القهوة المشعشعة وجلساتها الجميلة، كان عليّ أن أودع ذاكرة حياة الأمس في عُمان الذابلة، ننعشها ونقرأ على أكّفها صلوات من الحنين والشوق، ومضى الوقت ومضت معه أحاديث شائقة أحببناها ولامسنا كل تفاصيلها، كان عليّ أن أودع بائع الطحين والعيش والبقوليات وكأنني في خِدر الرحبيين في بندر سوق مطرح، فالتقارب والعرض والبيع يتشابه في كل شيء، كان عليّ أن أودع الشيخ المهيب الذي قربنا عندما لّوح لنا بلغته قائلا "كاريبو" أي بمعنى تفضلوا نضيفكم وهو منتصب القامة، كان عليّ أن أطوي صفحة بائعة القهوة من بعدها نيمم السير إلى (امتدودا) في حافلة القرويين، وفي نهاية المطاف نمر على (تشكي شاكي) ونختتم التجوال في نهايته الذي لابد له أن تنتهِ إلى مطار بيمبا إلى أن ترسو سفينة التجوال في أنجوجا مدينة السلاطين.
 
وكالعادة تناولنا وجبة الإفطار في منزل الوالدة سلامة العبرية وعندما فرغنا من تناول وجبة الإفطار على الطريقة العُمانية الزنجبارية توجهنا إلى الشارع لنستقل حافلة القرويين العامة، متجهين إلى إنجيز، حيثُ كان لقاءنا هناك بأحد القرويين الرائعين في طباعهم ودماثة خلقهم وهو "آبو" القروي البسيط الذي يسكن في أحد الأرياف المليئة بالاخضرار والأشجار الوارفة الظلال، حيثُ أشجار النارجيل والموز والقرنفل والفلفل والعديد من أصناف التوابل التي اشتهرت بها زنجبار بشكلٍ عام، فهذه المزروعات هي قوت "آبو" وعصب الحياة بالنسبة له ومن يقطنون هذه الجزيرة وعائلاتهم، وما يجنونه من ثمار يعرضونه على الشارع العام وأي سيارة تاجر أو أحد عابري الطريق المتعامل معهم أو الراغب في شراء شيء من هذه المنتجات، يحملُ ما شاء ورغب على راحلته، مولياً إلى وجهته التي يرتحل إليها.
 
قلتُ لـ خالد إنجيز تبدو لي ساحرة وآسرة في نفس الوقت، أريد أن أجرب التوغل بين حقولها، وأريد أن أجرب قيادة الدراجة الهوائية تلك، ولا يمنع إن استطعت من صعود شجرة النارجيل تلك، انحدرنا بخطوات متأرجحة وابتسامة متعبة على شفتينا جرّاء الطريق الطويل الذي يوصلنا إلى إنجيز، لكن سرعان ما تلاشت تلك الابتسامة المتعبة وسرعان ما تبدد التعب وعانقنا الفرح فور رؤيتنا الطبيعة الخضراء تتجلى في أبهى صورها وكأنها منحوتة من المنحوتات الجميلة التي نقشت على جدران مطار مسقط الدولي بثوبه الجديد المتألق. فكان لي ما شئت، فبساطة المكان ودماثة خلق ساكنيه تمكنك من القيام بالعديد من الأنشطة التي لا تتمكن من القيام بها في بلدك، أسرتني بساطة إنجيز ورائحة الطين وحطب الكندل في البيوتات الطينية التي ما فتئتُ أن رمقتها من أول وهلة إلا وأشعرتني وكأنني في إحدى المدن القديمة في دواخل عُمان، فالبيوت الطينية مبنية من سعف النارجيل وحراشف الأشجار الوارفة وحطب الكندل وأعمدتها توحي لك وكأنك في أدغال استوائية، قلتُ لـ خالد وقد طبع ابتسامته في وجهي بعد أن باغتني قائلا: هناك المزيد والمزيد.. تريث يا يحيى، وباستماتة الملهوف على تجربة تلك الأشياء في نفس الوقت، أخذ ناصر مواربو يضحك بـ سجيته السمحة المعتادة ويتمتم بكلمات سواحلية لا أفهمها.
 
ففي إنجيز قمنا بممارسة عدد من الأنشطة التي كنا نقوم بها أيام الطفولة، كقيادة الدراجة الهوائية وصعود المرتفعات وكان نصيبنا هذه المرة صعود شجرة النارجيل الوارفة والتي تختلف في طريقة الصعود عن النخلة، وبالعودة إلى الدراجة الهوائية التي قمت بتجربتها، حينها وقع حظي على دراجة ذات حجمٍ صغير، بالية وتبدو مهترئة، دواستّي وضع القدم نالتا نصيبهما من الضياع، وما زاد الطين بلة ووضعني في وضع محير، وعورة الطريق المغمورة بالطين الممزوج بالمياه، فتجلى ذلك من خلال عدم مقدرتي على التحكم بالدراجة وفقدان السيطرة على تحديد المسار، كما أُتيحت لنا فرصة لعب الكارم أو الكيرم وتنطق باللغة الإنجليزية carrom وهي لعبة من الألعاب التقليدية الشعبية التي ولدت في شبه القارة الهندية وانتشرت بشكلٍ واسع بين جنود الحرب العالمية الأولى وتوجد اليوم لها منظمة عالمية لممارسة اللعبة ومقرها في المالديف، حيثُ تمارس في الأماكن المفتوحة والمغلقة، كل ما عليك القيام به هو إحضار الكيرم بشكلها وهيئتها المربعة الخشبية، مع قليل من مسحوق البودر حتى يُسهّل عليكَ تحريك الحجارة من خلاله، مع تمتعك بالقليل من الخبرة والحنكة التي تمكنك من القيام بخدع ومهارة تقارع بها المنافسين، كما قمنا بصعود شجرة النارجيل ودفع التراب على جلبة المهوجو، والأخيرة من النباتات المشهورة وتسمى الكساوا أو الكسافا ويؤكل منها الورق والجذور وهي مشهورة عند السواحل أيضا وتسمى MBOJA ، وهكذا دأب الشعوب الإفريقية والشعوب التي تقطن المناطق الاستوائية الفقيرة في التعامل مع ما حولها في الطبيعة كما فرضتها عليها الظروف. فتذكرت القول المأثور القائل "من رحم المعاناة يولد الإبداع.
 
وبعد أن قضينا ساعات في إنجيز في حضرة زخات المطر التي داهمتنا بعضا من الوقت، هرعنا مسرعين إلى الطريق بانتظار حافلة الركاب على قارعة الطريق؛ لتقلنا إلى وجهتنا الجديدة وهي (تشكي شاكي) CHAKE CHAKE. والأخيرة هي عاصمة الجزيرة الخضراء بيمبا وأكبر المدن بها، تصميم المدينة بدا لي مختلفا عن بقية القرى في الجزيرة، البيوت تقع بالقرب من المزارع وبداخل البيوت توجد حضائر حيوانات وأقنان الدجاج وجحور الأرانب والطيور الأليفة التي يأنس ويتجانس معها الإنسان في إقليم زنجبار، وفور وصولنا إلى تشكي شاكي تجلى لنا السوق القديم وكأن راحلتنا حطّت في أسواق مطرح ونزوى التقليديين.
 
اندلقنا إلى مدينة تشكي شاكي وهي السيتي سنتر أو مركز المدينة ومن يسكن بيمبا من الضروري ومن المهم أن تكون له زيارة إلى هذا السوق الشعبي، كان لجولتنا نوع من التمعن، خاصة في هذا السوق، فأول إطلالة بعد الولوج به كانت عند صانع الحلوى العُمانية، زاهر أحد الذين يعرضون الحلوى للمارّة وعابري الطريق، ينادي بأعلى صوته HALUWA مع تفخيم طفيف في حرف الواو، وللزائر لزاهر ورفاقه المعاونين في معمله يستطيع أن يميز الطريقة التي يتم إعداد الحلوى بها، فقد كان زاهر قد استلم مهمة تفريغ الإناء الفخاري الذي توضع به الحلوى ساخنة؛ ليضعها في وعاء صنع من الجريد وفي عُمان يشبه الخصفة، ويسمى باللغة السواحلية كيكاندا أي التغليفة وميزته يمتص الزيوت وهو معروف لدينا في السلطنة منذ الأزل إلا أن زاهر ورفاقه في تشكي شاكي حافظوا على صنعة الأجداد ولم يدّنسوها وبقت كما هي بنفس المكونات ونفس الطعم وطريقة الصنع وعلى العكس بدت الحلوى العُمانية في عُمان غريبة ودخل عليها الكثير من التعديلات وعصفتها العولمة فأضحت بألوان مختلفة، وفي زنجبار لا زالت الحلوى تمتاز بالتماسك ومن الصعب أكلها بالملعقة كما يحصل لدينا في عُمان.
 
ولأن لكل شيء نهاية كما أتت البداية، كان لابد أن نطوي صفحة تشكي شاكي ببساطتها وبساطة قاطنيها، بعد أن مررنا على الأسواق التقليدية بما تحويه من معروضات كالقشاط والمرمريه والزلابيا والقرم سبال الذي بدا لي طعمه مختلفا تماما، كونه يقطف من الشجرة إلى عرصة العرض في السوق. حينها عزمنا على زيارة جمعية الاستقامة العالمية الإسلامية ومن سوء الطالع لم نتمكن من اللقاء بالقائمين على هذه الجمعية الخيرية التي تقوم بأدوار إنسانية جليلة خدمة للناس والإسلام في أرجاء زنجبار والدول المجاورة وبها إذاعة خاصة تقوم بنشر الإسلام بسماحته ورسالته السامية العظيمة. فآثرنا الانصراف على أمل زيارتها في قادم الوقت، فقد أزف الرحيل ومن يطوي المدن بقراها وجدرانها، لا يمكن أن يطوي قلوب ساكنيها ولا الأعمال الخيرة التي تكتنف الناس بها، فأي قلوب صادقة وأي نقاء في إنسان تشكي شاكي، فلا تندمل العين من رؤية الجمال ولا مغالبة ما تراه وتتحسسه.
 
قال ناصر مورابو: هيا فقد حان وقت الرحيل، واستطرد قائلا: عليك أن تجر حقيبتك جرا حتى لا تتعبك وأنت تقوم بحملها فاليوم كان شاقا، عندها أومأت لخالد، مورابو وفي هذا العمر وبهذا النشاط، يبدو أن مقومات النشاط في زنجبار تعدت بلادنا، فعندما تدب قدم مورابو أرض من أراضي زنجبار لا تبرحها قبل نهاية اليوم، بين الزيارات المعتادة وبين تسمره في دكانه حاملا جواني العيش والطحين، مرتحلا بين المزارع وجلب المهوجو، هكذا هي الحياة في زنجبار فأنت تسافر بفكرك وجسدك، تتفيأ ظِلال الأمكنة والدروب، وقبل أن ينتصف النهار الذي لم نلحظه جرّاء المزن التي غطت سماء تشكي شاكي قطعنا الشارع الجانبي لنستقل سيارة من سيارات القرويين لتقلنا إلى مطار بيمبا وفي غمرة الأحاديث الشائقة قال ناصر مورابو علينا أن نأخذ باص خاص حتى نلحق على مواعيد الرحلات وكان لنا ذلك.
 
وفي مطار بيمبا قمنا بإجراءات الحجز، بدا المطار بحجمه الصغير أكثر جدلا بيني وبين خالد، كنا قد وصلنا في وقت مبكر وكان علينا أن ننتظر الطائرة التي ستقلنا، خرجت مني عبارة ساخرة كوني أجهل تفاصيل السفر في مثل هذه الدول التي لا تمتلك المقومات المالية، لكنها تمتلك الإرادة التي حطمت أوتاد الجبال في جرش والبتراء، أين ننتظر الطائرة قبل مجيئها، وقبل أن أنبس ببنت شفه ثانيةً قال خالد: هناك مكان بسيط بالإمكان أن ننتظر به ونتمدد، ومن هناك يمكنك رؤية الطائرات الصغيرة وهي تحلق وتقوم بإنزال المسافرين، حينها قلت له لم أر الطائرات الكبيرة ولم ألحظ طائرات البوينج ودغلاس دي سي ولا إيرباص سوبر جامبو العملاقة، أومأ لي ضاحكا أنظر هناك وابتسم.. في مطار بيمبا عليك أن تتخير بين السفر في الطائرات التي تتسع لعدد ثمان ركاب أو ستة ركاب وإذا لزم الأمر بإمكانك أخذ طائرة خاصة برفقة الطيار وهنا عليك أن تنقد مالية المطار ببمالغ أكثر، كانت تذاكر رحلتنا من بيمبا إلى أنجوجا لا تتجاوز العشرين ريالا عُمانيا، كان حجزنا عن طريق مكتب أروشا على متن الرحلة TAF042 التي تتسع لعدد ثمانية ركاب، رغم صغرها ورغم الأجواء الغائمة المصحوبة بزخات المطر الخفيفة، في البداية كانت قلوبنا وجلة وشعرنا بقليل من الخوف إلى حين أن تفيأنا سماء بيمبا وتركناها بمروجها وحقولها الخضراء، أخذت الطائرة تتأرجح، كانت السحب على مقربة منا إلى أن توغلنا بداخلها وكأننا داخل قطعة ثلج شديدة البياض، تتلقفنا السماء والرياح، استغرقت الرحلة منا زهاء نصف الساعة إلى أن حطت بنا في مدينة السلاطين أنجوجا.
 
الإثنين 27 أغسطس 2018م
الطائرة التي أقلتنا من بيمبا إلى أنجوجا


أمام مطار بيمبا




في أنجيز مكان لعب الكيرم












صورة تذكارية برفقة فرسان جمعية الاستقامة في شكي شاكي



برفقة القروي (آبو) وأولاده في أنجيز
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر