تجوال في خواصر الجزيرة الخضراء بيمبا

كتب
يحيى المعشري

 مشاهدات ومعايشات من الجزيرة المنسية
#زنجبار (6).
 
بعد أن رست سفينة ( أزام سيلينك ون AZAM SEALINK 1) على ميناء مكواني، انحدرنا مكللين بغنيمة الفوز بهذه الفرصة، ومنتشين بفرحة الوصول إلى بيمبا، حينها أشار إلينا ناصر مورابو بأن السيارة التي ستقلنا إلى بيمبا بالقرب من دقل السفينة وأنه علينا أن نحمل حقائبنا على العربة الخلفية للسيارة وقبل أن نهم بالصعود؛ صرخَ أحد الركاب العابرين قبالتنا بأعلى صوته، عليكم أن تنصرفوا، فالزحام في الموقع على أوجه، والاكتظاظ البشري بلغ مداه، بعدها انصرفنا مسرعين وبدت السفينة تصغر وتصغر، واقتربت بيمبا منا على مرمى البصر وتلاشت الأفئدة المنتظرة خلفنا وحلقنا والبهجة ترتسم على محياي وخالد، كيف لا فالموعد المقبل هو الجزيرة الخضراء، التي تقع قبالة الساحل الإفريقي الشرقي المُطل على المحيط الهندي، وعاصمتها "شاكي شاكي"، حيثُ الأشجار الوارفة والقرنفل والاخضرار الذي بدا وكأنه بساط نحت على منظومة متوائمة ومتناغمة تعطي الزائر انطباع لا يندمل، حيثُ الموز والنارجيل وفاكهة الباشن الموسمية والعديد من الفواكه والمنتجات الاستوائية، حيثُ السماحة والبساطة والتناغم بين الناس والطبيعة، فقد تميزت جزيرة بيمبا بالقرنفل الذي أُدخل إلى الجزيرة من قبل العرب الزنجباريين أثناء حكمهم للجزيرة، وكان الإمبراطور سعيد بن سلطان نَفس زنجبار وروحها الذي أمر بزراعة القرنفل في كل عابية من عوابي زنجبار، وكان ينقل بضائعه عن طريق أسطوله البحري المهيب إلى لندن وجنوة ومرسيليا، وخلال فترة تجوالنا في بيمبا، شاهدنا عُمان الماضي بسكناتها، شاهدنا ضروب التاريخ تلوّح لنا سلاماً سلاما، شاهدنا المقهوي يمسك إبريقه، يمسد عليه والجمرات تنتخي أسفل الموقد، تندلق من فوهته القهوة المشعشعة برائحة القرنفل، شاهدنا البندر وتجار الجملة يمسكون بآخر حواضر التجار العمانيين، ونحن نرتشف القهوة بطعمها اللذيذ، ممسكين بالفنجال والأحاديث الشائقة عن العلاقات بين السلطنة وزنجبار هي ديدن التحاور في أغلب الأحيان، ولأن فترة وجودنا في بيمبا حينها كانت فترة كأس العالم، فالعالم يهتف بأعلى صوته ميسي ميسي وفي المغرب والمشرق الأصوات كذلك تتعالى رونالدو رونالدو، وبين الفريقين نجد أفارقة زنجبار يفترشون الأرض في إحدى الزوايا، يتكورون في حلقة دائرية على شاشة تلفزيونية صغيرة الحجم في مساحة لا تتجاوز اثنان في اثنان بوصة، وعندما فرغنا من أداء صلاة العصر في أحد مساجد الوقف الذي شيده أحد الخيرين من أبناء جلدتنا على نفقته الخاصة، قفلنا عائدين مكان تجميع الزنجباريين على شاشة كأس العالم وبجوارهم رأينا بنيان بني من المواد الغير ثابتة، يحكي بساطة المكان والناس هناك، فقد كانوا يبيعون الفواكه الاستوائية وقليل من منتجات بيمبا، بطبيعة الحال ما يباع هنا هو من ذات الأرض وهي ذات الأيادي التي جلبته من المزارع المجاورة، حينها قلت لـ خالد شاهد كبار السن في هذا المكان يجتمعون على البساطة والألفة، وقبل أن أكمل حديثي لوّح ناصر مورابو بكلتا يديه وكأنه يقول لا تستعجل يا يحيى فأمامك فصول قادمة لربما ستثير فيك الدهشة أكثر من ما شاهدت، أردفتُ قائلا: هيا إذن لنكمل المسير، فلاح لنا لفيف من الناس يجتمعون في ساحة انتظار يستريحون من عناء السفر بانتظار سفينة الغد تقلهم إلى وجهاتهم وكأنهم يقفون على عرصات البيع والشراء.
 
وقبل الغروب توجهنا إلى الشريط الساحلي في مكواني، مررنا على صبية بيمبا يرتدون السراويل القصيرة وتبدو أرجلهم متجردة من الأحذية التي تعينهم على السير بخطى ثابتة، وفي منظر بانورامي قبيل إشراقة الغروب، ترتمي الجناديل الخشبية في المراسي بأحجامها المختلفة كل بضع مئات من الأمتار، لربما تتأهب للذهاب إلى مناطق الغوص والصيد لليوم الموالي، مط خالد شفتيه وقال في دهشة: شاهد ذلك النزل الذي كتب عليه lala_lodge# وهو يقبع في زاوية هادئة، يسكنها الهدوء، وتحفها الأشجار من كل صوب، عندها أخذنا الفضول وقربنا من منه وتفرسناه عن قرب، لحظتها هتف ناصر مورابو قائلا: لا ضير من الدخول والاستفسار عن هذا النزل، كان صاحب النزل شاب أبيض البشرة، ناهز السنة الخامسة من العقد الرابع، وبلهفة الرجل الشرقي لمعرفة تفاصيل البيوت والسؤال عن الأفئدة التي تحركها، قلت للرجل: من أي الأمصار أنت ومن هؤلاء الذين يعملون معك وبلا تردد أو وجل، بدت عيناه باردتين لولا البريق الذي لمع فيها وهو يجيبني، السمراء التي تعمل معي هي زوجتي ومن يعينني على ترتيب النزل واستقبال الضيوف هو أخوها، ودورها هنا لا يقتصر على كونها ربة بيت فحسب، وإنما يتعدى ذلك تقوم بمساعدتي على ترتيب الغرف وتهيئة النزل والتنظيف وتقديم الخدمات للضيوف الذين يقصدون النزل، فالإقبال هنا ضعيف في بعض الفصول وينشط في فصولٍ أخرى، عقدت حاجبيّ عندما هممت على دفع مبلغ الضيافة عندما قال الجنوب إفريقي ضيافتكم علينا والحساب مدفوع.
 
وفي المساء عندما خيّم الظلام وأقبل علينا ونحن نتبادل الأحاديث مع أصحاب النزل عن السفر والترحال وعن الحياة هنا في بيمبا، عن البساطة والتسامح، عن الطيبة والتآخي. سرقنا الوقت قبل أن يشيح خالد بديه قائلا: هيا نذهب فالوقت قد داهمنا والليل بدأ يتساقط علينا والسماء تخلو من أضواء النجوم فالمزن تحجبها.
 
تبدو بيمبا خاوية من أحزمة النور والظلام بها دامس؛ عدا من سكنات الألفة والمودة في أروقة البيوت الطينية، فالناس هنا لا ينظرون صوب المستقبل المزخرف والموهوم، الناس هنا ينظرون إلى الحياة والعيش والسكن في اللحظة التي تحويهم وتظلهم.
 
وفي اليوم الموالي بعد انبلاج الليل وإعلان سدوله بانقشاع عتمة الليالي، يُقبل الصباح بإطلالته البهية وبطيفه الوضّاء المرسوم على أسنان الزنجباريين الناصعة البياض. وتنكشف الشوارع والطرقات بعد يومٍ ماطر أزاح المشرئبات في أهداب أعيننا وأفاض علينا جمال الصباح في بيمبا الجميلة. فغر خالد فاهه وكذا الحال بدا عليّ، فالدهشة تمكنتّ مني هي كذلك، فجأة أخذ ناصر مورابو كعادته يتبادل أطراف الحديث مع القرويين، تبدو العلاقة بينهم ومواربو أكثر من مجرد حديث عابر طوقته الصدف، فعمق الحديث والاسترسال والمبالغة بالسؤال عن الأهل والصحة وسرد القصص تلو القصص؛ تؤكد بأن الرابط بينهم ومورابو ضارب في القدم، عندها قال خالد: لا تنسَ يا يحيى بأن الوالدة سلامة العبرية هي أم ناصر مورابو ولا تنسَ بأن عمرها الحالي الذي ناهز العقد الثامن، فجذورها متغلغلة ومنصهرة في أوساط هذا المجتمع المتقارب، فعندما تعود إلى خواصر عُمان قبل النهضة، هي ذاتها زنجبار الحالية مع الفارق في طبيعة الأجواء والتقارب الكبير في العادات والتقاليد، فعادة إكرام الضيف وتقريبه من جميع أفراد العائلة هنا في بيمبا هي ذاتها التي كان يحرص عليها آباؤنا وأجدادنا، وعادة وضع الماء في إناء لغسل يد الضيف بعد أن يفرغ من الطعام هي ذاتها التي كانت لدينا في عُمان، وكثيرة هي العادات الأصيلة الثابتة التي لازال يتشبثُ بها العمانيين في زنجبار، فلم يغيرهم الزمن ولم تتبدل معهم الحياة، فالأرض والحياة والطبيعة ورائحة الأرض شبيهة بالتي كانت تتمتع بها الطبيعة العُمانية حينذاك.
 
الأربعاء 15 أغسطس 2018م
طعم القهوة المشعشعة بين أهالي بمبا له طعم مختلف!



 



اللعبات الشعبية في بمبا


أحد محلات التمويل
 





الممر الذي يفضي إلى ميناء مكواني


 





إطلالة في عين النزل


جلسة ترقب على شاطئ ميناء مكواني برفقة ناصر مورابو

 


شجرة القرنفل في بمبا




 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر