من أنجوجا إلى الجزيرة الخضراء، عبر الباخرة أزام سيلنيك ون، برفقة مذكرات الأميرة سالمة
مشاهدات ومعايشات من الجزيرة المنسية زنجبار (5).
![]() |
السفينة التي ستقلنا إلى الجزيرة الخضراء (بمبا). |
في زنجبار بدت
الأوضاع شبه مكتملة نوعاً ما لرحلتنا من أنجوجا إلى بمبا ، فقد كان
نصير السند والعون لنا من أجل تأمين مخر عباب البحر عبر العبارة ( أزام سيلينك ون AZAM SEALINK 1)، فقد بدأ يجري اتصالاته فور معرفته رغبتنا
بزيارة بمبا الجزيرة الخضراء، في البداية دعوني أعرفكم على أنجوجا وهي الجزيرة الأكبر
مساحةً من جزيرة بمبا في أرخبيل زنجبار التابع لدولة تنزانيا الحالية، هذه الجزيرة
هي مقر إقامة سلاطين عُمان، بها العديد من المعالم التاريخية والأثرية التي تحكي
تاريخ عُمان منذ الأزل، بها القصور والأبنية الصلدة التي نافحت مائتي عام إلى
يومنا هذا، في هذه الجزيرة أسرار الأرض والناس والبحر والسهل والذي سأتطرق له ضمن
ترحالنا إلى هذا الإقليم المنسي في القارة السمراء والتي عايشنا بها شيء مختلف
ملياً عن ما عايشناه في الدول الأخرى التي مخرنا عبابها. ففي القارة السمراء
المترفين يجب عليهم التنازل عن بهرجات المدن وصولجانات الأبَّهات، وعليهم البعد عن
التباهي والتعالي؛ إذا ما أرادوا الظفر بأجمل التفاصيل التي تعَّيشهم اللحظات
الهانئة في حضرة البساطة، بعد أن قضينا ثلاثة أيام في أنجوجا، ترجّلنا من صهوات
الجدران المنكفئة عليها أجسادنا، هرعنا من بواكير الصباح حتى لا نفوت موعد اللحاق
بالباخرة، حيثُ كان موعد تحركها في تمام الساعة التاسعة صباحا، كان وقت تحركنا
باكرا، وكنا لا نعلم عن الوقت الذي ينبغي أن نكون موجودين فيه في ميناء ماليندي،
السفينة ( أزام سيلنيك ون) تبدو كبيرة جداً، مقعرة من الداخل وكأنها حاوية نفايات
تستقبل أشياء الركاب، أياً كانت وهذا ما بدى لي من أول وهلة وأنا أهم بالركوب إلى
هذه السفينة العملاقة، الطابق السفلي من السفينة يحمل البضاعة والمؤن الخاصة
بالركاب، وفي وسط السفينة وجد ركاب الدرجة الأولى وأحسب أنهم من الطبقة المخملية
في بادئ الأمر، قبل أن يتضح لي بأنهم هربوا من ــأنياب التعب وهجير حرارة الشمس في
عرض البحر التي تلفحك خاصة إذا ما كنت من الركاب الذين فضّلوا الكراسي الجانبية والتنعم
برؤية البحر والاستمتاع بالخلجان والجزر الصغيرة المنتشرة والصافنة على ضفاف المحيط
الهندي، وميض الكاميرات بدأ يلمع بريقه فور الصعود، خاصة بالنسبة لي وخالد وناصر
مورابو، والأخير سأفرد له مساحة خاصة بعون الله تعالى، كنتُ وخالد ومورابو آثرنا
الانزواء في المقصورة العلوية وكانت الشمس في أوجها، فأشار إلينا مواربو، عليكم
النزول إلى المقصورة الوسطية تجنباً واتقاءً لأشعة الشمس الحارقة، فهو العارف بأن
في عرض البحر، يصعب عليكَ الحصول على كرسيّ، السفينة امتلأت على الآخر وبحكم معرفة
السكان بمورابو، أفسحوا لنا الطريق وأفرغوا بعض الكراسي لنضع عليها حقائبنا، كنتُ
ولا أخفي عليكم فرحاً بهذه التجربة الفريدة من نوعها، أن تقوم برحلة في عرض البحر
فهو أمرٌ معتاد بالنسبة لي ولغالب الناس على الأرجح، لكن في هذه الرحلة تخيرنا عدم
الدفع السخي لرحلة ابتغينا منها عدم التندر والبقاء مع الناس بمختلف الطبقات
والسحنات، القاطنين والمرتحلين في هذه السفينة أغلبهم من السحنة الإفريقية، بعضهم
وفد إلى أنجوجا بغية الحصول على عمل يستطيع من خلاله توفير لقمة العيش والآخرين في
الأصل هم من جزيرة بمبا عائدين إلى أهاليهم؛ محملين بالمؤن والزاد أو الزواد كما
يعرف بين الزنجباريين وهي كلمة متعارف عليها بيننا عند الأسلاف وهنا يتضح أثر
الحضور العُماني في شرق أفريقيا من خلال المفردات العربية والمرادفات التي تتداخل
بين الجمل. السفينة تبدو مكتظة بالركاب، شاهدتُ عدد بسيط من السحنات الأوروبية
تخيرت الذهاب على متن هذه السفينة، شاهدتُ وجوهاً سمراء سكنها أنياب التعب، شاهدتُ
أعين ترمقك بنظرة عابرة واستغراب، يوسف أحد سكان زنجبار يجلسُ بجواري، كان يرمقني
بين الفينة والأخرى، بينما قرنائه كانوا مشغولين بهواتفهم وتجاذبهم أطراف الحديث،
وبعد إلحاح منه بالتعرف عليّ، في هذا الوقت كنتُ مشغولا بتقليب مذكرات أميرة عربية
لو يعلم يوسف ومن يركب السفينة ما أحدثته هذه المذكرات من مواجع وألم غائر في قلوب
العمانيين الذين سكنوا زنجبار وقصورها.. يوسف أتقرأ القرءان، قلت له: قال أحفظ منه
القليل، أين تعلمت القرءان يا يوسف، باغته بسؤال، قال: في أحد معاهد تعليم القراءن
في زنجبار، أومأتُ لـ خالد بأن فضل الله وفضل أصحاب الأيادِ البيضاء عميم في هذا
القطر الإفريقي الفقير.
منطقة الغرقة"
![]() |
لحظات صمت وهلع عمت السفينة بانتظار تجاوز المنطقة الغريقة |
بعد زهاء أربع
ساعات ونحن نمخر عباب المحيط، فجأة عمد الملاح على إغلاق محرك السفينة وبدأت تترنح
يمنةً ويسرة، جيئةً وذهابا، ماء البحر يتماوج والركاب البعض منهم بدى وكأنهم فرغوا
من احساء النبيذ، في تلك الفترة وأنا أتحدث مع خالد، أتطلع في وجهه في دهشة، غمغمت
له بأن يتحدث مع ناصر مورابو عن ماذا يحدث/ هذا كان سؤالي، قال: والابتسامة بدت
واضحة على محياه، نحن في منطقة الخطر، فغرتُ فاهي وأشحت بنظري إلى خالد، سائلاً له
وهل هذا يدعو للبسمة، قال خالد وبدت عيناه باردتين، لا عليك في هذا المكان
بالتحديد العمق غائراً جدا، والعمق على أوجه وقد شهدت زنجبار في هذه المنطقة
العديد من المآسي والفواجع التي يتذكرها الأهالي ولا يمكن نسيانها، حيثُ أن المئات
من البشر غرقوا في هذا المكان بالتحديد بعد أن غرقت سفنهم ولم ينجو إلا من كانت
رحمة الرحمن تحفه وتطوق روحه الطاهرة، فلطف الخالق كان أقرب من أن تأفل تلك الأرواح
ويُكتب لها الموت في غياهن الأعماق، تنهشها الأسماك وتصبح طعاماً سائغا للكائنات
البحرية التي تعيش على فتات الطعام بعد أن تتقاذفه الأمواج العاتية، دنت مني
الدوخة وكنتُ ساعتها على علم بأنني أحتاج إلى احتساء كوب شاي أو فنجان قهوة،
لحظتها استأذنت الرفاق بأن أنزل إلى المقهى لعل رشفة شاي ساخنة تُذهب الدوخة التي
أحدثت فيّ لوعة خفيفة، وفي غمضة عين أرخيت جسدي على أريكة بالقرب من المقهى،
الرشفة تلو الرشفة، أخذتها على مهل كانت كفيلة بأن تبعث النشاط في جسدي من جديد،
الصدق في مثل هذه الحالات أن أعمل بمقولة محمود درويش 'القهوة لا تُشرب على عجل، القهوةٌ أخت
الوقت تُحْتَسى على
مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات' وفي لحظة تأمل، رأيتُ القرويين يغطّون في
نومٍ متقطع، ممددين بطرق عشوائية، كما يبدو المكان لا يتسع لهذا العدد من الناس،
لكن لا ضير، هذا التكدس شيء معتاد لديهم في تنقلاتهم بين الجزر، فقد اختاروا السفر
بهذه السفينة لاعتبارات، الأولى ثمنها البخس، فقد كان ثمن التذكرة لديهم وهم حاملو
الجنسية التنزانية أقل بكثير من ثمن التذكرة بالنسبة للجنسيات الأخرى وهذا ما وقع
لنا كوننا رحّل، والخيار الثاني التنقل أو السفر عن طريق الطائرات العمودية
الصغيرة التي لا يتجاوز الركاب فيها ثمانية أشخاص وتوجد واحدة صغيرة جداً يقودها
الملاح برفقة الراكب فقط، لكن ثمت فرق في ثمن التذكرة بين الوسيلتين، وهم لا يملكون
المال الكافِ ليدفعونه ثمن تذكرة في طائرة.
تجاوزنا منطقة
الخطر بسلام، وحرك الربان محرك السفينة مرةً أخرى، وبدت بمبا تتراءى في الأفق،
انطلق الملاح بالسفينة بنا وبعد ساعة أو ساعتين اتجه القرويين إلى المقصورة
الأمامية، شاهدتُ التدافع البشري بطريقة شبه عشوائية، وقبل أن أهمّ بالتحرك من
مكاني كان خالدٌ يناديني بأن أصعد إلى الأعلى لتجهيز الحقائب ورؤية المنظر المهيب
لميناء امكوني وهو يتربع على عرش الجزيرة الخضراء بمبا، هذا الميناء أصغر بكثير عن
ميناء ماليندي الذي أبحرنا منه، لكنه يستقبل ذات المؤن وذات السيارات المحملة على
متن السفينة، يستقبل الناس وما يحملون في حقائبهم من أمتعة، يستقبل تلك القلوب
اليانعة التي عاشت قلق الموت في أعماق المحيطات، يستقبل الأعين الوجلة وهي ترمق
الغرباء والموج يرجّها في عرض البحر رجا، وفي لحظات لم نشعر بها رست السفينة على
مرافئ ميناء امكواني، بدأ الركاب بالتدافع، يهرعون بسرعة وكأنهم يساقون إلى عرصات
البيع والشراء، في هذه اللحظة أشاح لي خالد بأن لا أتعجل الخروج بينما مورابو
ولأنه من القاطنين كان على عكس ما يريد خالد وله أسبابه، فقد كان نداء الأم والأهل
والأقرباء أسرع إليه ولقلبه من أي شيءٍ آخر، فورا بدأنا بإخراج هواتفنا لاختصار
الزمن وبصور خاطفة تبقى في ذاكرة المكان والزمان.
![]() |
صورة تجمعني بيوسف الذي يحفظ أجزاء من القرءان |
![]() |
يوسف يمسك بمذكرات الأميرة سالمة |
![]() |
القرويين يتهافتون على بمبا بعد الوصول |
![]() |
سيلفي الوصول إلى الجزيرة الخضراء بمبا- ميناء مكواني |
الأربعاء 25 يوليو
2018م
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام