من كسواني إلى درجاني، نشتم نفائس السيد برغش
يبدو أن حزيران في سواحل زنجبار أكثر انسجاماً واتساقا، أو ربما هي الصدف وحدها من تحدد رغبات الناس؛ بين محب للأجواء الماطرة وبين المستمتع بالأجواء الصحوة، المهم أن تمضي الأوضاع وفق البرامج المعدة، فقد بدت زنجبار متعادلة هذا اليوم، منسجمة ومتوهجة، السحب تتماوج في السماء وكـأنها ثلوج طافية، السماء شارفت على المطر، الأرض أضحت متألقة ومتوازنة، برك المياه طافحة في الطرقات، كان ذلك عندما انطلقت برفقة خالد وناصر مورابو، وهذه الانطلاقة اعتبرتها انطلاقة القلوب التي آثرت بها خوض غمار جولة مختلفة لهذا اليوم، وعندما تلاشت ضبابية المواعيد المرسومة في زحمة الرغبات، وجهت لـ خالد سؤالا أو قرارا لا هوادة فيه، متى سنقوم بزيارة سوق درجاني، عندها أومأ خالد لناصر مورابو بأن درجاني بالنسبة ليحيى يقع ضمن أجندة الزيارات المهمة التي ينبغي زيارتها، قطّب مورابو حاجبيه بعد توجيهه لـ خالد سؤالاً وكيف له أن يعرف هذا السوق، بما أن هذه هي الزيارة الأولى له لزنجبار، مطّ خالد شفتيه في برود وطبع ابتسامة حانية في وجه مورابو، لا تكترث لهذا، مسألة زيارة سوق درجاني باتت محسومة وسندلف الأمكنة التي شيدها السيد برغش بن سعيد بن سلطان، نتحسس الأمس، نشتم عبق روائح اللبان الحوجري، نستفكر في الفكر المستنير له وكيفية تنفيذه لما يخدم زنجبار وما تحت إمرته آنذاك، تناولنا وجبة الإفطار على الطريقة الزنجبارية والتي تختلف في طابع تقديمها وتناولها عن دول غرب آسيا، انطلقنا من الطريق الترابي في كسواني، حيثُ المزارع تتدلى منها الأشجار السامقة، قاطعين بضعة أمتار إلى نهاية الشارع المتعرج، وقفنا على قارعة الطريق ننتظر الدالا دالا أن تقلنا إلى سوق درجاني، هذا اليوم كما يبدو عربات الدالا دالا شحيحة، فقد طال الانتظار والبطون بدت خاوية بعد ساعات قضيناها في كسواني، وفي موقع الانتظار يوجد بائع أخذ من محله مقهى يقدم به شيئاً من الوجبات الخفيفة، المحل مبني من المواد الغير ثابتة، قررت أن ألقي نظرة على خلفية المبنى فانعطفت خلف زاوية الشارع، فجأة رأيت بطرف عيني رجلاً هزيلا يرتدي مئزرا مختل اللون، يراقبني بوجس وعدم تقبل، كان الرجل يزيح الأوراق المتطايرة من أشجار القرنفل في المزرعة المواربة لمحله، نظرت مجددا إلى المحل من الداخل نظرة فاحصة، سائلاً الرجل هل يوجد لديك شاي كرك، لم يتعرف على مبتغاي ولم ينبس ببنت شفة، قبل أن يباغته مورابو بمرادي ويوضح له ما أريد، هزّ رأسه نافياً وجود طلبي، الناس في زنجبار يختلفون في طرق انتقاء الوجبات والمشروبات عن ما تعودنا عليه في بلداننا، وقفت بجوار البائع وكأني أحد الباعة الذين يقومون بعرض بضائعهم بعض الوقت حتى تصل عربة الدالا دالا، همست في أذنه وكأني أودعه الوداع الأخير، لم أستطع رفض طلبه ولم أحجم ألبته، فالسفر ليس ورقة عبور تجيز لك قطع أقطار الأرض كيفما تشاء ووقت ما تشاء، السفر علاقة تشاركية مع الآخر، خاصة الذين تجد منهم ود التعامل وصدق المشاعر وحسن المعشر ولين الجانب، ركبنا الدالا دالا على الفور، كانت العربة مكتظة بالركاب وهنا الناس لا يعترضون على من يركب بجوارهم ولا يمتعضون من أي منهم، الكل سيان، فالمقاعد ليست كراسي وثيرة تتنقل بها إلى عوالم الراحة والاسترخاء، المقاعد مجرد أماكن مكوث لبعض الوقت، توصلك إلى مرادك وتستقبل آخرين من مختلف السحنات والمشارب، وقبل أن نصل إلى درجاني لمحت بعيني لمحة خاطفة على المروج الخضراء السامقة على حواف الشوارع، قلت لـ خالد: بدت هذه الأشجار وكأنها ظل يستظل تحته السلاطين حينذاك، الجذور متوغلة في قاع الأرض، الأغصان فارعة، تتدلى منها أوراق متينة لا يؤثر فيها حفيف الأشجار، الطلبة والطالبات يتدارسون تحتها وفي الوسط أحدهم يتلو بصوتٍ عال والبقية يرددون خلفه، وعندما حدقت بتأمل وجدت سدرة المعلم عامر في حيّ قلهات حاضرة هنا في ضواحي زنجبار، اختلف الناس وتغيرت أطباعهم لدينا في عُمان وبقت عاداتنا وتقاليدنا في زنجبار حاضرة، رسمت حينها بسمة عابرة وودعت الطلبة والطالبات الوداع الأخير ونحن على مرمى حجر من سوق درجاني أرهفت سمعي لأصوات تخترق الدالا دالا، حينها تأكدت بأننا وصلنا سوق درجاني، سوق درجاني الشهير بتعجب قلت لـ خالد: حرك رأسه إيجابا وقال على وجه السرعة، نعم، نزلنا وحملقت في أجزاء السوق وقبل أن نتوغل بين أروقته، قمتُ فوراً بتصفح تاريخه الموغل في القدم، وبحثت عن سبب تسميته، حيثُ أن درجاني من الدرج الذي كان يقع بين ضفتين وكناية عن الدرج سمي درجاني وهكذا تبدو العديد من أسماء الأمكنة لدينا في سلطنة عُمان.
![]() |
الأحد 15 يوليو 2018م
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام