من كسواني إلى درجاني، نشتم نفائس السيد برغش

 
بانتظار عربة الدالا دالا






مشاهدات ومعايشات من الجزيرة المنسية زنجبار (4)




























يبدو أن حزيران في سواحل زنجبار أكثر انسجاماً واتساقا، أو ربما هي الصدف وحدها من تحدد رغبات الناس؛ بين محب للأجواء الماطرة وبين المستمتع بالأجواء الصحوة، المهم أن تمضي الأوضاع وفق البرامج المعدة، فقد بدت زنجبار متعادلة هذا اليوم، منسجمة ومتوهجة، السحب تتماوج في السماء وكـأنها ثلوج طافية، السماء شارفت على المطر، الأرض أضحت متألقة ومتوازنة، برك المياه طافحة في الطرقات، كان ذلك عندما انطلقت برفقة خالد وناصر مورابو، وهذه الانطلاقة اعتبرتها انطلاقة القلوب التي آثرت بها خوض غمار جولة مختلفة لهذا اليوم، وعندما تلاشت ضبابية المواعيد المرسومة في زحمة الرغبات، وجهت لـ خالد سؤالا أو قرارا لا هوادة فيه، متى سنقوم بزيارة سوق درجاني، عندها أومأ خالد لناصر مورابو بأن درجاني بالنسبة ليحيى يقع ضمن أجندة الزيارات المهمة التي ينبغي زيارتها، قطّب مورابو حاجبيه بعد توجيهه لـ خالد سؤالاً وكيف له أن يعرف هذا السوق، بما أن هذه هي الزيارة الأولى له لزنجبار، مطّ خالد شفتيه في برود وطبع ابتسامة حانية في وجه مورابو، لا تكترث لهذا، مسألة زيارة سوق درجاني باتت محسومة وسندلف الأمكنة التي شيدها السيد برغش بن سعيد بن سلطان، نتحسس الأمس، نشتم عبق روائح اللبان الحوجري، نستفكر في الفكر المستنير له وكيفية تنفيذه لما يخدم زنجبار وما تحت إمرته آنذاك، تناولنا وجبة الإفطار على الطريقة الزنجبارية والتي تختلف في طابع تقديمها وتناولها عن دول غرب آسيا، انطلقنا من الطريق الترابي في كسواني، حيثُ المزارع تتدلى منها الأشجار السامقة، قاطعين بضعة أمتار إلى نهاية الشارع المتعرج، وقفنا على قارعة الطريق ننتظر الدالا دالا أن تقلنا إلى سوق درجاني، هذا اليوم كما يبدو عربات الدالا دالا شحيحة، فقد طال الانتظار والبطون بدت خاوية بعد ساعات قضيناها في كسواني، وفي موقع الانتظار يوجد بائع أخذ من محله مقهى يقدم به شيئاً من الوجبات الخفيفة، المحل مبني من المواد الغير ثابتة، قررت أن ألقي نظرة على خلفية المبنى فانعطفت خلف زاوية الشارع، فجأة رأيت بطرف عيني رجلاً هزيلا يرتدي مئزرا مختل اللون، يراقبني بوجس وعدم تقبل، كان الرجل يزيح الأوراق المتطايرة من أشجار القرنفل في المزرعة المواربة لمحله، نظرت مجددا إلى المحل من الداخل نظرة فاحصة، سائلاً الرجل هل يوجد لديك شاي كرك، لم يتعرف على مبتغاي ولم ينبس ببنت شفة، قبل أن يباغته مورابو بمرادي ويوضح له ما أريد، هزّ رأسه نافياً وجود طلبي، الناس في زنجبار يختلفون في طرق انتقاء الوجبات والمشروبات عن ما تعودنا عليه في بلداننا، وقفت بجوار البائع وكأني أحد الباعة الذين يقومون بعرض بضائعهم بعض الوقت حتى تصل عربة الدالا دالا، همست في أذنه وكأني أودعه الوداع الأخير، لم أستطع رفض طلبه ولم أحجم ألبته، فالسفر ليس ورقة عبور تجيز لك قطع أقطار الأرض كيفما تشاء ووقت ما تشاء، السفر علاقة تشاركية مع الآخر، خاصة الذين تجد منهم ود التعامل وصدق المشاعر وحسن المعشر ولين الجانب، ركبنا الدالا دالا على الفور، كانت العربة مكتظة بالركاب وهنا الناس لا يعترضون على من يركب بجوارهم ولا يمتعضون من أي منهم، الكل سيان، فالمقاعد ليست كراسي وثيرة تتنقل بها إلى عوالم الراحة والاسترخاء، المقاعد مجرد أماكن مكوث لبعض الوقت، توصلك إلى مرادك وتستقبل آخرين من مختلف السحنات والمشارب، وقبل أن نصل إلى درجاني لمحت بعيني لمحة خاطفة على المروج الخضراء السامقة على حواف الشوارع، قلت لـ خالد: بدت هذه الأشجار وكأنها ظل يستظل تحته السلاطين حينذاك، الجذور متوغلة في قاع الأرض، الأغصان فارعة، تتدلى منها أوراق متينة لا يؤثر فيها حفيف الأشجار، الطلبة والطالبات يتدارسون تحتها وفي الوسط أحدهم يتلو بصوتٍ عال والبقية يرددون خلفه، وعندما حدقت بتأمل وجدت سدرة المعلم عامر في حيّ قلهات حاضرة هنا في ضواحي زنجبار، اختلف الناس وتغيرت أطباعهم لدينا في عُمان وبقت عاداتنا وتقاليدنا في زنجبار حاضرة، رسمت حينها بسمة عابرة وودعت الطلبة والطالبات الوداع الأخير ونحن على مرمى حجر من سوق درجاني أرهفت سمعي لأصوات تخترق الدالا دالا، حينها تأكدت بأننا وصلنا سوق درجاني، سوق درجاني الشهير بتعجب قلت لـ خالد: حرك رأسه إيجابا وقال على وجه السرعة، نعم، نزلنا وحملقت في أجزاء السوق وقبل أن نتوغل بين أروقته، قمتُ فوراً بتصفح تاريخه الموغل في القدم، وبحثت عن سبب تسميته، حيثُ أن درجاني من الدرج الذي كان يقع بين ضفتين وكناية عن الدرج سمي درجاني وهكذا تبدو العديد من أسماء الأمكنة لدينا في سلطنة عُمان.
أقبع أمام محل بائع الخضروات
وقفت مشدوهاً عند معلومة مكانة السوق آنذاك وتفوقه على العديد من الأسواق في دول الجوار في الشرق الإفريقي، فبدت إنجازات السلاطين حاضرة عند كل جولة أقوم بها في سوق درجاني، حيثُ أن السيد برغش بن سعيد بن سلطان إبان حكم أخيه السيد ماجد كان على خلاف معه بسبب الرغبة في تولي الحكم ولأن الصراع ديدن النفوس البشرية الضيقة الطامعة في تولي زمام الأمور، ولأن الاختلاف في الأمهات وفساد الضمائر ولدّ هذا التنافس الشرس الذي القى وباله على الأولاد، حينها وصل الصراع على الحكم أوجه كما كنت أتتبعه في مذكرات أميرة عربية للأميرة سالمة، ومن الهند أتت فكرة السوق بعد نفي السيد برغش إليها، وبما أن الهنود روّاد تجارة، يتميزون بالحراك التجاري والشطارة في الأعمال الحرة، كانت أسواق الهند مزدهرة ومنتشية، وكان لنفي السيد برغش رغم مرارة الغربة؛ فائدة لا يدركها الكثيرون، فإتيانه بفكرة السوق في أنجوجا مهد الحكم وإقامة السلاطين، فألقى بظلال الفكرة على ساحة درجاني وكانت ثمرة من ثمار معرفة أسرار الإقليم الهندي، وبتوليه الحكم بعد وفاة أخيه ماجد انطلقت زنجبار نحو التقدم والازدهار، فقد تميز سوق درجاني بالمعروضات والسلع وأصناف المنتجات وشتى أنواع الحلي والملبوسات والتمور التي جُلبت من أصقاع الأرض، وأثناء تتبعي السوق شاهدت المتاجر تصطف وكأنها فسيفساء صُفت في دواليب بطرقة منتظمة، وفي الدواخل من السوق تشاهد الموروثات والخناجر العُمانية صافنة بشموخ، وبتجوالي المتسارع كما كنت معتاد، في درجاني أخذت خطواتي تتثاقل وتتباطأ ، فالجدران تستقبل الحلي والبهارات في كل زاوية، وعندما كان الرفاق مشغولين بالحديث الجانبي، وضعت هاتفي في وضعية التصوير المرئي وأخذت أتفرس السوق وكأنني أمخر سوق نزوى والرستاق ومطرح، فأصوات الدلالين تتعالى، واللكنات تخرج من الأفواه ممزوجة بالعديد من اللهجات، كانت الأصوات العربية موجودة وكانت اللغة السواحلية لا تخلو من المفردات العربية، وفي غمرة اختراق السوق أخذ أحدهم يناديني، كان يريد مني أن أبتاع منه ما يعرض من مشغولات يدوية، رمقته بنظرة عابرة وطبعت له ابتسامة حانية وبإشارة خاطفة أفهمته بأنني الآن مشغول بتوثيق الأحداث، قد تخونني العبارات في المسمع المرئي وذلك لعدم إدراكي لبعض المعلومات، فمن يدخل سوق درجاني تختلج مشاعرة الكثير والعديد من المشاعر الجياشة، فالأسواق هنا هي ذات الأسواق التقليدية في عُمان، وفي بعض زواياها نجد أسواق العطارين حاضرة.

أما من المشاهد الجميلة التي إستوقفتني في هذا السوق مشهد (المقهوي ) والذي يجوب أرجاء درجاني بين المحال والأزقة والممرات حاملا دلة قهوته في وعاء حديدي به قطع من الجمر، غطيت بغطاء نحاسي وعليها دلة القهوة وقد أوثقها بوثاق سلكي حتى تحافظ على سخونتها وهو يصدح بأعلى صوته ( كهاوى كهاوى ) بمعنى قهوة قهوة وهو يحمل في كف يده الأخرى بين أصبعيه الخنصر والبنصر فنجانا من القهوة ومن تحت الفنجان عدد من الفناجين يقرقعها حتى تصدر أصوات القرقعة وتصل إلى مسامع المارة والمتبضعين؛ عارضا فنجانا من القهوة لمن أراد أن يتذوق قهوته بأسعار رمزية يستطيع من يرغب التكيف أن يرتشف عددا لا بأس من الفناجين.

مر الوقت سريعا وكنت قد سرقت اللحظات دون أن أُعلم خالد ومورابو بأنني سأختفي عنهم بعض الوقت، عندها بدأ البحث عني بين الممرات وشكلت فرق صغيرة تخترق السوق الضيق، بحثا عني، فيما كنتُ هائما، تجرني حماقاتي إلى معرفة أسرار السوق، وبعد عودتي إليهم بدأ العتاب ينهال إليّ من كل صوب وبدأت الضحكات تخترق العتاب، فما وقع قد حصل لا ريب ولا مفر منه، فليس غريباً بحثهم عني حينها، فقد كنا لا نمتلك وسيلة تواصل عدا قربنا الدائم من بعض، وأجد العذر لذاتي العصية؛ فمن يدلف سوق درجاني عليه أن يحتفظ بشيء من جلد الذات، حتى لا يضيعه الوقت في غمرة التوافد البشري.

 
 













الأحد 15 يوليو 2018م

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر