قبل أن تسقط دمعة الشيخ المُقعد
...من ميامي الساحرة إلى حدائق المنتزه الملكية..
... مشاهد ومعايشات من أم الدنيا...
الإسكندرية (3)..
كتب
يحيى المعشري
بدت جولتنا اليومية في الإسكندرية أشبه بمحطة القطار، أو كدورة حياة الفراشة بدءاً من البيضة ومروراً بمرحلة اليرقة إلى الشرنقة، لتصبح بعد ذلك فراشة مكتملة الأجنحة، تحلقُ وقتما تشاء وإلى حين ترغب وتعود أدراجها مرةً أخرى، وهكذا قطار الحياة في الإسكندرية ما أن يرحل أول القطارات ناقلا ركابه، إلا ويظهر الآخر ليقوم بنفس الدورة، ما إن فرغنا من ترتيب ملابسنا التي اخترناها لتكون رفيقنا في رحلتنا لهذا اليوم، انحدرنا من الدور الرابع إلى الدور الأرضي، كانت الشقة التي تشغل الطابق الرابع كله متعددة الممرات والصالات والشرفة الفسيحة المُطلة على الكورنيش، كبسة زر هي الفاصل بين البقاء والوصول_ صباحكم فل كلمة قالها البواب "حسن: الذي اعتاد أن يلقي علينا التحايا الصباحية والمسائية في كل مرة نلاقيه فيها، ويحلو له نعتنا بالدكاترة، لا أدري كيف له أن يُطلق علينا هذه اللقب أم هي ترنيمة اعتاد عليها أقباط مصر في تعاملاتهم اليومية لمن يودوهم ويكنون لهم التقدير، دلفنا الطريق المحاذي للنفق قاصدين الشارع الجانبي جهة اليسار قبالة الشاطئ، حيث نشتم نسائم البحر الأبيض المتوسط، وهو من جعل من الإسكندرية عروسا، فالزائر إليها عليه أن يحفظ عبارة الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط، فهناك تتلاقى الأفئدة من كلِ مشارب أم الدنيا أرض الكنانة وهبة النيل كما قال عنها أبو التاريخ المؤرخ اليوناني هيرودوت، يجمعُها هدف واحد وربما أهداف عديدة لا استطيع عدها ولا حصرها في زيارة عابرة لا تتعدى أيام، منهم من أقبل عليها من أجل الفسحة ليأنس بمداعبة نسائم الكورنيش ويلاطف برد الإسكندرية الذي لا يُطاق في بعض الوقت؛ تتسابق خطواته وتهفو دون شعور من فرط التلذذ بجماليات المكان، والطبيعة البشرية فطرت على التمدّن والتسامح مع الأمكنة التي تودها وتلامس جوارحها، بالنسبة لي أنا ابن الخليج الذي اعتاد على الأجواء الصيفية أو الدافئة، الملابس الثقيلة كانت حاضرة، فقد أعددتُ العدة لمثل هذه الأجواء، في بادئ الأمر تجولت جولة سريعة في محرك البحث جوجل للسؤال عن حالة الطقس هناك، كان ردهُ بأن الأجواء في الإسكندرية غير ثابتة وهي ميزة تتميز بها هذه المدينة العريقة وهي من ضمن الميزات التي تُعطيها أحقية التفرد بخلاف الطقوس الأخرى التي شاهدتها وعايشتها في أقطار العالم، هذا اليوم خرجنا من شقتنا للتنزه وكان مقصدنا زيارة حدائق المنتزه الملكية والتي تعود إلى مائة عام، لكننا لم نشاهد اللمحة التاريخية التي أعجبت الخديوي عباس حلمي بها برفقة فرقته الموسيقية وكان زميلي يلازمني وحديثه عن قراءاته المستفيضة عن الفنون المصرية القديمة، رسمت صورة بدت تتهادى أمامي وخطواتي تسابقني للوصول، ضراوة الشوق ووله الوصول أصبح أكثر ما يلازمني، ولأنني مغرماً بالطرب المصري المحرك للشجون، فوراً قررنا ركوب باص النقل العام "الأتوبيس"، لكن الحرِاك السريع في هذه المدينة وحواراتنا الجانبية أنا ونديم السفر؛ غيبه عنا في خضّم التوافد البشري الذين سبقونا للركوب إلى أن امتلأ على الآخر، أومأ لي نديم السفر بأن أُوقف "مشروع، مشروع قلتها: في تعجب، فوراً أومأ لي همساً "الباص الصغير" ما أعنيه، لا تتصرف بغباء! وهو الباص الذي يتسع لخمسة عشر راكباً ويعرف محلياً باسم "مشروع" وقد أطلقت عليه "المشاغب" نظراً لما يقوم به السائق من تصرفات تبدو لي جنونية وهو يخترق الطرقات باحثاً عن زبائن جدد ينقدونه حفنات من الجنيهات تساعده على مواجهة نوائب الحياة ومعتركاتها، لوحتُ بيدي إلى الباص المشاغب وهرعنا مسرعين لأقرب كرسي نجلس عليه، وضعنا اليد اليمنى على جيوبنا والأخرى إما نتشبث بها لأي طارئ قد يحصل نتيجة تعامل السائق تارة مع الطريق وتارةً مع استلام الأجرة وإرجاع المتبقي من الجنيهات، وهناك يتم التعامل بطريقة غير آمنة قياساً بما نتعامل به في بلدنا، ونحن نمرق الأمكنة بنظراتٍ خاطفة؛ لمحنا منطقة ميامي وهي ضمن الروزنامة التي أعددناها لهذا اليوم، كان علينا أن ننتظر برهة من الوقت حتى نستطيع أن نحصل على إذن عبور الشارع، السيارات كثيرة والزحام على أوجه، ننظر يمنةً ويسرةً قبل أن نتمكن من أن نقطع الطريق، وأثناء السير لمحنا شيخاً يجوب منطقة المطعم، وكأن تجاوز هذه المنطقة بالنسبة له يعد محرماً كالإقطاعات المحرمة الواقعة بين الكوريتين قبل أن تُخل إحداها بالمواثيق، تمتمات تصدر منه عند أي سيارة تقف أمام المطعم، أخذنا نحملقُ لأصناف الطعام التي قربه النادل للزبائن، بدت لي بأنه مغري ويسيل اللعاب عند رؤيته، وقبل أن أنبس ببنت شفة سبقني زميلي بأن نجرب طعام الإفطار هنا، لقد حق لنا أن نسكت المعدة بعدما بدأت بإصدار قرقعات وفرمانات الجوع وكأنها أصوات أجراس كاتدرائية نوتردام على وقع ضرب الأحدب كوازيمودو لها.
وبالعودة إلى الشيخ في منطقته المحرمة، فقد أوقعنا القدر بأن نجلس قبالته، اتضح من ملامح زميلي الذهول والدهشة، كان يحملق من النصف العلوي لإحدى السيارات، فقد كانت تغطي الجزء السفلي من الشيخ، ما إن لاحت لي ملامحه بدا لي بأنه مقعد يجر وراءه كرسي متحرك، فغر رفيقي فاهه وتصلبت قامته في مكانه نتيجة حجم المعاناة والمشقة التي يتكبدها هذا الشيخ وهو يدفع الكرسي المتحرك جيئةً وذهابا، صعوداً ونزولا، ظننتُ بادئ الأمر بأنه أحد الزبائن الذين تستهويهم الجلسات في المقاهي خاصة بأن الإسكندرية كغيرها من المدن التاريخية تتميز بالمقاهي المنتشرة في كل زاوية من زواياها، قد لا أكون مبالغاً إن قلتُ بأن كل بناية استقطعت الجزء السفلي منها لمقهى أو مقهيين وربما تجاوز عددها ذلك، لمحتُ حالة الاستفكار في وجه نديم السفر وهو يرمق الشيخ المُقعد، كان يصدرُ صوتاً عالياً بين الفينةِ والأخرى، ظننته يروج للمقهى كإحدى الطرق العجيبة في هذه المدينة التي تمتاز بالغرائب.. كيف لا والملايين الذين يقطنونها تتملكهم العديد من الأماني والطموحات. فاضت أنفاسي وتصببت العرق البارد على جبيني.
وبالعودة إلى الشيخ في منطقته المحرمة، فقد أوقعنا القدر بأن نجلس قبالته، اتضح من ملامح زميلي الذهول والدهشة، كان يحملق من النصف العلوي لإحدى السيارات، فقد كانت تغطي الجزء السفلي من الشيخ، ما إن لاحت لي ملامحه بدا لي بأنه مقعد يجر وراءه كرسي متحرك، فغر رفيقي فاهه وتصلبت قامته في مكانه نتيجة حجم المعاناة والمشقة التي يتكبدها هذا الشيخ وهو يدفع الكرسي المتحرك جيئةً وذهابا، صعوداً ونزولا، ظننتُ بادئ الأمر بأنه أحد الزبائن الذين تستهويهم الجلسات في المقاهي خاصة بأن الإسكندرية كغيرها من المدن التاريخية تتميز بالمقاهي المنتشرة في كل زاوية من زواياها، قد لا أكون مبالغاً إن قلتُ بأن كل بناية استقطعت الجزء السفلي منها لمقهى أو مقهيين وربما تجاوز عددها ذلك، لمحتُ حالة الاستفكار في وجه نديم السفر وهو يرمق الشيخ المُقعد، كان يصدرُ صوتاً عالياً بين الفينةِ والأخرى، ظننته يروج للمقهى كإحدى الطرق العجيبة في هذه المدينة التي تمتاز بالغرائب.. كيف لا والملايين الذين يقطنونها تتملكهم العديد من الأماني والطموحات. فاضت أنفاسي وتصببت العرق البارد على جبيني.
ساورني شعور بأن أترك المقهى قبل أن يصل طلبي، لم أعد أقوَ على النظر إليه لولا لكزة زميلي بيده اليمني تربت على كتفي، تحملتُ الألم الداخلي الذي يعتصرني ولزمت مكاني بعد أن دثرت مشاعري بإكليل ورد ابتعته من أحد الباعة المتجولين الذين يسرحون بين الأمكنة من أجل الحصول على حفنة مال تقيهم شر الجوع والفاقة، وقبل أن تتلاشى الأفكار المشتتة التي سرقت مني فكرة النهم والجوع عدتُ إلى حملقاتي الغبية إلى ذلك الشيخ المقعد، لم تشأ دموعي أن تنهمر وكأن حالة جمود سكنت خوالجي؛ بين الفرح والحزن ذلك الخيط الذي لا ينقطع وصاله، ارتفعت وتيرة التفكير لدي ونبّشتُ في جميع الحالات الإنسانية التي يقتضي العمل عليها وبها لتكون دعامة سامقة تكتب في سجلات التاريخ الإنساني، لحظات أنس قضيتها بين العوالم الافتراضية حتى أنسى هذه الكمية من المآسي، فلمحتُ هذه العبارة المعبرة لحالة هذا الشيخ المقعد الذي يتسول المارة "حين يبكي الرجال تصبح الدنيا صغيرة، عديمة الجدوى وشديدة القسوة، لأن الدمعة وحدها تصبح السلاح الوحيد والأخير.
#الإسكندرية_ الثلاثاء 3 إبريل 2018م
![]() |
لحظات أنس في حضرة المنتزة في ميامي |
![]() |
المقاهي وكأنها طقوس لا تفارق أقطاب مصر |
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام