القاهرة أحداث وشواهد

...القاهرة أحداث وشواهد..
... مشاهد ومعايشات من أم الدنيا...
القاهرة (4)..
كتب
يحيى المعشري
وكأي الرحلات التي يقوم بها المرتحل في أصقاع الأرض تفاجئه بعض الإرهاصات الغير متوقعة، ساقنا القدر هذا اليوم إلى معترك من معتركات الحياة بما تحمل في طياتها من مفارقات؛ بين المنطق واللامنطق، فالمنطق كما جرت الأعراف عندما تقوم بالتخطيط لرحلة معينة من رحلاتك اليومية التي تقوم بها في هذه الدول وفق جدول زمني محدد ومخطط، فالتنسيقات التي تقوم بها تمضي وفق منهجية واضحة المعالم، واللامنطق أن تسوقك الأقدار إلى مناحي خارجة عن الإطار المتوقع، فلنحزم الأمتعة ولنتفيأ ظلال الشوق للسفر والترحال إلى هناك في العالم المليء بالأحداث الشائقة.
استيقظنا في صباح يوم جميل في القاهرة، لم نخطط على ما يبدو في هذا اليوم أين ستكون وجهتنا، كنا نبحثُ عن فندق أو نزل يلبي رغباتنا، فقد أوقعتنا الأقدار تحت رغبات أحدهم وكانت الصدفة ونحنُ نهم بالنزول من قطار الإسكندرية- القاهرة، هذه المرة لم تكن كسابقتها عندما أتينا من القاهرة إلى الإسكندرية، هذا المرة قطعنا تذكرة على القطار الفرنساوي السريع ذا المقصورة الجميلة والأنيقة، الساعة الآن تُشير إلى التاسعة مساءً، الوقت على ما يبدو متأخراً جداً ولا يمكننا البحث عن مأوى، فعملية البحث تحتاج منا الوقت والجهد ولك أن تتخيل صعوبة البحث في القاهرة وسط الزحام والحراك البشري الشديدين، فقد نال منا التعب وبدأت علامات التشنج البدني تلوح، فور نزولنا من القطار أحد سائقي سيارات الأجرة الذين يبحثون عن زبائن يستدلون من خلالهم على مكامن الفرح الذي يُرضي فضولهم وهي حفنات من الجنيهات في جيوبنا، رزق الله المقسوم يقسمه وقتما شاء وإلى من يشاء.. تفضلوا يا باشوات.. قال وجدي أحد سائقي سيارات الأجرة.. واسترسل في الحديث أنا هنا لخدمتكم وسيل من العبارات المتقنة وبأسلوب مهذب أُجزم لو أستخدم في التوفيق بين الشعوب المتفرقة لنال مطالبه، ولو استخدم في ترميم العلاقات الفاترة بين الأخوين الذين طال بهم الأمر في الخلاف؛ لأتى ثماره وبان أثره، أنا هنا لخدمتكم كلمتين أو ثلاث كلمات تتكرر.. وجدي السائق يرتدي هنداماً أنيقاً وبدلة تعيدني إلى زمن الخديوي عندما يدلف الأحياء الفقيرة وهو بكامل أناقته ووسامته، فغر نديم السفر فاهه ورد عليه بأسلوبٍ ساخر- صحيح مع قهقهة يرمقني بها عندما يدير ظهره للسائق وجدي، وبفراسة نديم السفر وتمرسه في التعامل مع وجدي ورفاقه كونه المتمرس والعارف، كيف لا وهو الذي قضى فصول حياته بينهم، بين الدراسة والترحال، زائراً ومؤدياً للواجب، فالرابط بينه وبين أهل الكنانة متين" لا مؤاخزة نحن محجوزين" قال نديم السفر؛ حتى يقطع عليه عناء المحاولات المتكررة، بطبيعة الحال سيارات الأجرة في محطة القطار عديدة وتستطيع الحصول عليها في أي وقت تشاء وتستطيع تحديد السعر الذي تريده كونك متمرس وعارف لأحوال البلد، كُنت أتساءل الصعوبة التي لم ينتبه لها نديم السفر في عدم حصولنا على سكن ولو لليلة واحدة بعد ذلك يُفرجها رب العالمين.. ليلة واحدة تكفينا. نعم قلتها لنفسي همسة عابرة وتلاشت. وبعد إصرار مستميت من وجدي على توصيلنا وبعد أن تعالى صوته في وجه أحد زملاء المهنة الذي كان يريد اقتناصنا والظفر بالحصول على توصيلة، كنتُ أسترق النظر لأحد سائقي سيارات الأجرة عندما أمسك نديم السفر عند إحدى الممرات طالباً منه بعدم السماح لـ"وجدي" بتوصيلنا وأن يكون هو عوضاً عنه، تملكني شيء من الغرابة ولم أستوعب هذا التصرف وهم في ذات المهنة، هل يحق لأحد أن يتعدي على رزق زميله في المهنة وبهذه الطريقة الغريبة، فجأة تعالت الأصوات وبدت تتعالى في زحمة الجموع، كُنا نرمقهم ونحاول الابتعاد لكي لا يصل الأمر بينهم إلى التشابك بالأيدي ونشترك في جرم الصدام لأننا لم نتدخل لحظتها، الصراخ والسباب كان حاضراً وبقوة، لكن ما حيلتنا سوى الصلح بينهم وحسم الأمر لصالح "وجدي" بأحقية الأسبقية، خاصة بأنه خاض معارك وملاسنات من أجل توصيلنا، دانت له نفوسنا السمحة وقبلنا بعد مشاورات بيني وبين نديم السفر بأن يقلنا إلى أقرب شقة أو فندق يتناسب ورغباتنا في قضاء أيام معدودة في أشهر أحياء هذه العاصمة التي تمتاز بالصخب والحراك البشري في كل زاوية من زواياها، المفاجأة والمفارقة أن سيارة "وجدي" كانت سيارة خاصة ومعروضة للبيع، أومأتُ لنديم السفر بأن نتركه ونركب سيارة أجرة مخصصة لنقل السياح أمثالنا، إلا أن العاطفة كما يبدو غلبته وقال دعنا نركب معه وهذا رزق كُتب له.. فقلت كما تشاء.. ركبنا مع وجدي والحديث يجر الحديث، ملاحظات من وجدي بين الفينة والفينة، سرد لتفاصيل حياته ووضعه الأسري وحاجته للعمل بأي طريقة كانت، كل هذه الخزعبلات لا تعني لي شيئا- رسالة نصية رسلتها لنديم السفر على وجه السرعة- حتى لا يلحظ وجدي وجهة نظري، بمعنى أصح وأكثر وضوحاً نحن مجرد عابري سبيل ومتجولين تستهوينا الأمكنة، نبحثُ عن خدمة مقابل جنيهات ننقدها، قلت له نحن نحتاج إلى مأوى لأيام معدودة وفي موقع به زحام- فقد هربنا من هجير الملل، فما كان منه إلا أن أخذنا إلى فندق منزوٍ وكأننا في ضاحية من ضواحي ريف آنسي الفرنسية، الهدوء يغلب على المكان، المقاهي شحيحة، العسكر في كلِ مكان ببزتهم العسكرية، حالة من عدم القبول تملكتني وقلت بعد عملية البحث عن مطعم أو مقهى يسد الجوع الذي بلغ منا في هذه الساعة المتأخرة من الليل وفي هذا البرد القارس المصحوب برياح شديدة لا تطاق، فمشينا مرتجفين بلا توقف، نستدل الطرق من خلال الوحدات العسكرية المنتشرة في كل جزء، وأخيراً وصلنا إلى مقهى شاهدنا به رجل كبير السن، كث اللحية، يرتدي أسمالاً ومعطفاً ثقيلا، كان يرتعش من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، أخذنا طعامنا على وجه السرعة وحدقنا إلى ثكنات العسكر التي تبدو كالأكشاك، مستدلين بها طريق العودة، أحسست بأنني بحاجة إلى حمام دافئ والذهاب إلى الفراش فوراً بعد ذلك، كل ذلك سيحصل بعد أن نملأ بطوننا بوجبه خفيفة نستطيع من خلالها إسكات قرقعات بطوننا المتكررة. وفي اليوم الموالي نظرتُ إلى نديم السفر برقة وبريق عينيه بدا يلمع، لربما من نومة البارحة التي قضيناها بين أحضان الفراش بعد معركة طويلة بين أنياب التعب والشعور بالنعاس، هذا الشعور أردانا طريحين في الفراش بعد معركة حامية الوطيس بطلها الساعات الطويلة في إنهاء أعمالنا في الإسكندرية والسفر عبر القطار ورحلة البحث عن مكان يربت على أكتافنا وننام بهدوء ووئام.
 
لمحة على الحسين"
توارينا خلف كثبان الحيرة، فقد تسرعنا في دفع حسابنا لأيام مقبلة قبل أن نتأكد من ملاءمة المكان لرغباتنا وميولنا، شعور خانق تملكني، لم أفصح لنديم السفر بهذا الشعور ولم أفصح عن ما يدور في خلجاني احترماً للصحبة، الجميل في الأمر ذات الشعور من سكن نديم السفر وذات المشاعر من راودته، يحيى عليك أن تتصرف.. قال لي: قلت له: "حتصرف" وبلغة مصرية مكسرة سوف أقوم باللازم وسوف أفعل المستحيل لأجل إنهاء إجراءات مغادرة هذا الفندق الكئيب الذي أوقعنا به السائق وجدي وقد تبيت لي نواياه لاحقاً، وجدي يعمل في شركة وهو ملزم بحسب الاتفاق أن يأتي بزبائن لهذا الفندق مقابل أن تحصل الشركة على نصيبها من الحجوزات، بالتالي سينال وجدي نصيبه هو كذلك، فلسفة التعامل هذه لا تروق لي ألبته، أمقت المراوغة وعدم المصداقية في التعامل مع السائح، تمكنت من إقناع من في الاستقبال بأننا سنغادر الفندق لأسباب خارجة عن الإرادة وكان لي ذلك بفضل الله مقابل أن ندفع مائة جنيه خصم الحجز لصالح الشركة كما قِيل لنا، أي ما يعادل ريالين ومئتي بيسة، حمدنا الله على ذلك، علينا أن نبرح هذا المكان الكئيب.. قلتُ له وأنا أقرأ ذات الرغبة تبزغ من جبينه، وحملنا أمتعتنا بسرعة قصوى إلى نافذة رأيتها نافذة من نوافذ القلب، نافذة جديدة تُطل على خريف النسيان، أجل وقبل أن أنبس ببنت شفة.. إلى الحسين وجهتنا القادمة بعون الله.. عندها هممنا على الخروج من الفندق مسرعين، كنا قد قررنا بأن لا نطلب سيارة بالقرب من الفندق، حتى لا يعلم السائق سبب خروجنا وحتى لا يبوح بما شرعنا عليه ووجهتنا الجديدة، بضعة أمتار حتى أوقفنا أحد سائقي سيارة الأجرة طلبنا منه أن يقلنا إلى الحسين في الجمالية وهو أحد أحياء القاهرة وتوجد به العديد من المعالم الأثرية الإسلامية القديمة والفاطمية بصورة كبيرة، ومنها مسجد الحسين، ومنطقة خان الخليلي، والجامع الأزهر. تلك المعلومات حصلت عليها بسهولة عبر الشبكة العنكبوتية بالتحديد محرك البحث العم جوجل، ويذكر جوجل كذلك بأنه تم إنشاء هذا الحي مع بناء مسجد الحسين في عهد الفاطميين سنة 549 هجرية الموافق لسنة 1154 ميلادية تحت إشراف الوزير الصالح طلائع، ويضم المسجد 3 أبواب مبنية بالرخام الأبيض تطل على خان الخليلي، وبابًا آخر بجوار القبة ويعرف بالباب الأخضر، وسمي المسجد بهذا الاسم نظرًا لاعتقاد البعض بأن رأس الإمام الحسين مدفون به. تنهدتُ ارتياحاً عندما أنهينا إجراءات الحجز في فندق الحسين السياحي في قلب خان الخليلي، هز نديم السفر رأسه بفرح عندما وقعت عينيه على شرفة في فندق الحسين السياحي تُطل على جامع الحسين بتشكيلاته الجميلة، هذا المكان بالتحديد تأنس له النفس ويشع بريق الأمل له.. حسناً حسنا عندما نظر نديم السفر من أعلى الشرفة وقف مشدوهاً من الموقع والتوافد البشري، وقال سنقضي ما تبقى لدينا من أيام في هذا المكان الجميل، نمرق أسواق خان الخليلي ونمارس طقوسنا الدينية في الحسين والأزهر الشريف، ومن هنا نخترق أجزاء القاهرة إلى اهرامات الجيزة، ونستمتع بأعذب المقطوعات الغنائية على ضفاف النيل الشهير، هو ذاته تواقاً لقضاء ليلة جميلة صاخبة في مقاهي الحسين ورؤية أضواءه السامقة بتشكيلاتها التي تُشعل لهيب القلب وتومئ بشعور لا يمكن تصوره بمجرد قراءة هذه التمتمات ها هنا.
الاثنين 9 أبريل 2018م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر