الدكتور سائق سيارة الأجرة- الأردن- عمّان
كتب
يحيى المعشري
يحيى المعشري
الدكتور سائق سيارة الأجرة- الأردن- عمّان.
![]() |
ندماء السفر في مهمة عمل رسمية على مدخل مدينة جرش الأثرية |
هذه القصة ليست ضرباً من خيال، وليست أسطورة من أساطير الزمان( كان يا ما كان) وغرائبه التي تُحكى لنا ونحنُ صغار، هذه القِصة إحدى مفاجآت السفر بمعية زملاء العمل في مهمة عمل تنويرية تستهدف إعطاء العقل البشري فسحة من التفكير والتفكر في تجارب الدول وما وصلت إليه على الصعيدين العلمي والعملي والذين سأسميهم جاهداً في سياق السرد، فقبل أن أبدأ بخط أول حرف من حروفها، دثرت نفسي قبل الشروع إلى النوم بأكاليل عتيقة حتى أزيل ما تبقى من ملابسات يومي، وملأتُ أوراق مذكراتي بأحبارٍ زرقاء وسوداء حتى لطخ بياضها العالق فغدت بائسة، حائرة مما تراه أمام عينيها من جفول، فاغرورقت أجفاني بدموع باردة فتجاهلت الأمر مراراً وتكراراً، وتذكرت المرحوم العزيز حمد السعدي الذي أحزنني فراقه وفاضت دموعي تبكيه ألماً عندما غادرت روحه إلى الرفيق الأعلى، فما أصعب أن تجد انساناً صادقاً صدوقاً مثل "حمد".
كان "حمد" يلازمني وثلة من الرفاق في أغلب تحركاتنا بين الأزقة والطرقات، بين حواري عمّان وجبالها، بين أسواقها ومعالمها التراثية المتشكلة وكأنها فسيفساء تسر كل من يقصدها.. رحمك الله يا "حمد" ورحم روحك الطاهرة التي ما عادت تسأل عني كما كُنتَ تفعل عندما يزورك زملاء العمل في مهماتهم، أتذكر سؤالك عني حرفاً حرفا، نصاً نصا مع كل مبعوث يغدو ويعود.
![]() |
جرش |
مدخل.. لوّح سليمان بكلتا يديه إلى سائق سيارة الأجرة في الشارع المُقابل، أومأ السائق بحركة مماثلة وكأنه يردُ السلام، أصرّ سليمان عليه أكثر من مرة وإذا به يركن سيارته على جنب، يحملقُ الينا مستغرباً من أي سحنة هؤلاء الشباب، أغلق هاتفه والتفت نحو زملائي الأربعة في وجل، قائلاً: طريق وسط البلد تم اغلاقها من قبل إحدى شركات الصيانة، لذا فإنني مضطر إلى سلوك طرق التفافية بديلة تماماً كطريق لبنان في كرداسة بالعاصمة المصرية القاهرة، واصل قيادته عبر طريق مغاير ودون ميعاد يذكر سوى اصطفاف عدد بسيط من السيارات التي حدت من حركة السير قليلاً، كان الزُملاء صامتون، منهم من أرخى رأسه للخلف بعد أن غلبه النُعاس، ومنهم من أخذ يجول ببصره يمنةً ويسرة، مشبعاً عينيه برؤية التناغم في وسط البلد بالعاصمة الأردنية عمّان، بينما صوت الراديو الخافت لم يمنع صوت الدبكة من أن يخترق مسامعنا، السيارات في منتصف الطريق والناس يمرقون ضواحي عمّان بأقدامهم، يتلذذون بسماع أصوات بائعي قصب السكر، يسارعون على وقع أصواتهم وهم يصيحون بصوتٍ عال، وآلة العصر تمرُ على أعواد قصب السكر وكأنها ثعبان يلتوي على عود أراك، فعُدت هنيئة إلى ثعبان صلالة الذي كُنت أن أقع عليه بثقلي في لحظات مرح هانئة ونحن نخترق المروج الخضراء التي كست ضواحيها، غطّ سعيد الفارسي في نومٍ عميق وأفاق عبدالله البلوشي على وقع صوت الدبكة وهي تخترق مسامعه وهزات أبواب السيارة تضربُ موعداً مع طربٍ أصيل، ارتفعت وتيرة صوت السائق وهو يحدثنا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية عندها تسمرنا صامتين وبدت علينا علامات الذهول مما نسمع، كان يمتاز بكاريزما متفردة لا يمكن لسائق وبهذا العمر أن يمتلكها، قد يقول قائل بأن كبار السن يمتلكون الحكمة وكياسة المنطق في الحوار، إلا أن ما سمعناه من هذا السائق وبهذا التحليل الدقيق، كان يبدو لنا أكثر لباقة، ثوبٍ بالٍ ولحية كثة وإزار قصير بدت عليه بقع من أثر الغسيل الدائم، شديداً في ذات الله يستفتح أحاديثه بذكر الخالق في كل مدخل، كان قد بدأ يتطرق إلى الأحوال الاجتماعية وبمقارنة غير مسبوقة بين أوضاع بلدان الجوار، فصحى سلام الداودي من نومه وعقب بدهشة قائلاً.. أين نحن. . وصمت فوراً.. فبدأ يسترق السمع إلى حديث السائق فحركت شجونه هو كذلك صوت الدبكة وهي تدندن على مسامعنا، لم يُتح لسلام والرفاق من أداء رقصة الدبكة الفلكلورية الشعبية، لم يتح له أن يضرب برجله على الأرض طرباً مستمتعاً بأدائها تناغمها وترياقاً من روتين الحياة المعتاد، فهي ميزة أخرى عرفناها عن ما يتميز به الشعب الأردني الأصيل فعدتُ قليلاً إلى مدينة جرش حيثُ يثير الزائر لها ذلك العمق التأريخي الأصيل، فيتوق زائرها إلى أن يمضِ بها شيئاً من الوقت، يتجول بين جنباتها ويستذكر من خلال تجواله العصور الرومانية التي حكت تأريخ هذه المدينة الضاربة في القدم، وأنت تتوغل في الداخل تثيرك دهشة عارمة- كيف لهذه المدينة التي تعود إلى عصور خلت أن تبقى صامدة وبهذا الألق، كيف لهذه المدينة النابضة بالجمال أن تبقى بهذه الحيوية فيتهافت عليها الناس من أصقاع العالم أجمع، يُخرجون كاميراتهم من غمدها فلا يفوتوا فرصة اقتناص لحظة تصوير مع التأريخ، عندها أرهف سعيد البلوشي سمعه ليستوعب كل كلمة تخرج من فاه السائق، كانت وكأنها نبال ُتقذف في وجه طائر يحلق في سماءٍ صافية يتلو أعذب الألحان وينشدُ أرق النغمات، عَبِرت على حين غرة همسة حانية من السائق مباغتاً لنا أراد منها أن تلطف الأجواء، لكن حالة الامتقاع على وجهه حالت دون ظهور الابتسامة في تعابيرها الصادقة، ثم أردف قائلاً: كونوا على ما يرام يا أبناء عُمان، كونوا أكثر بهاءً وألقاً وأنتم الذين تتشابهون معنا في كثير من الأفعال وما كلمة عمّان عن عُمان ببعيده، فأطرق سليمان خجلاً وسعادة بما سمعه من السائق. استمررنا ننصت له في دهشة وبدت علينا حالة الجوع المعرفي الذي تخرج من فاه، فتسربلت الكلمات طويلة بعمقها وكلنا شغف لإكمال ما بدأه لحصافة ما يتمتع به من فصاحة، فدنت من مسامعنا تقترب أكثر فأكثر- وكأن حالة من الجمود أصابت الرفاق وهم يشنفون آذانهم بسماعه وهو يتلو على خلجاننا عن أطوال عمّان والمحيط العربي الذي تتشابه معه العادات والتقاليد، والمآلات والغايات التي تسكن تفاصيلها منذ قديم الزمان، وفي حين غفلة وبينما الحديث الحاني يسري في أوصالنا، دلفنا أولى مداخل "وسط البلد" حينها لاحت لنا من بعيد مكتبة "الجاحظ" التي وصفتها في الليلة الأخيرة لنا في عمان، كانت أكثر دفئاً، كانت هادئة بهدوء الكتب القيمة المركونة في أروقة مكتبة #خزانة_الجاحظ"
![]() |
هنا نسافر في عالم الكُتب مع الأستاذ هشام المعايطة |
كانت حميمية ووادعة بوداعة الأستاذ الجميل #هشام_المعايطة" هشام الجاحظ كما يحلو تسميته لدى الكثيرين من زائري المكتبة.. فمكتبة خزانة الجاحظ تعد واحدة من أقدم المكتبات المتنقلة في وسط البلد في عمان؛ ما أجملها وهي تنضح العلم لمن رغب أن ينهل من معينها، حيثُ تقدم خدمة الإعارة للجمهور مقابل مبلغ رمزي زهيد، صغيرة في حجمها، لكن ضخامتها في احتوائها مخطوطات تعود إلى عصورٍ قديمة ولكم القراءة عنها في مواقع البحث والتبحر فيما تقدمه للعلم ولمحبي العلم. هذه المكتبة قد كتبتُ عنها ذات يوم وربما يسيل لعاب قلمي مجدداً لمعاودة الحديث عنها وعن أجمل السويعات التي قضيناها برفقة العم "هشام الجاحظ" وقبل أن نهم بالنزول وقبل حتى أن ننقد صاحب سيارة الأجرة الرجل الوقور خرجت بضع كلمات من "سليمان العبري" على مسامع السائق كانت عبارات لا تتعدى أحرف بسيطة إلا أنها أحدثت دوياً حسياً انهمرت معه دموع "سليمان" في غرابة.. قائلاً: هل لكَ أن تخبرنا عن عملك الآخر بخلاف هذه المهنة- قطب الرجل حاجبيه قبل أن يُجيب وحملق لنا بنظرات واثقة- مجيباً- أنا دكتور معيد في جامعة الأزهر، خيم الصمت وران على المكان شيئاً من السكون، فما كان من "سليمان" إلا أن ذرفت دموعه غير مستوعباً ما سمعه، كان وجه الرجل معبراً فقد لمعت عيناه عند رؤيته لنا بهذا الذهول خاصة دموع "سليمان" المنهمرة.. رددنا بوجل وقد شعرنا بغصة غريبة في حلوقنا حين وقعت على مسامعنا كلماته. كانت "كلمات ليست كالكلمات" فمرحباً بالعلم إذا كان كعِلم الدكتور سائق سيارة الأجرة.
6 سبتمبر 2016 م
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام