بين العامرات وبوشر، الوالد مسعود بن حمد الجابري مآثر ليست من زماننا
كتب
يحيى المعشري
![]() |
الوالد مسعود بن حمد الجابري |
على عتبات الماضي يُطل علينا الوالد مسعود بن حمّد الجابري كل صباح في باحة منزلنا القديم بقرية قلهات، منزلنا الذي ولدت فيه كان أشبه بجذع نخلة ينحني على ساقية مقصورة المربع في بني عمران، فهناك بدأنا أولى فصول الحياة، وفي جال نستدعي ثيمة الذكريات بما تحمله من تفاصيل عالقة في تخوم التاريخ، ففي ساحته "السجم" المصنوع من جريد النخيل والمرصوص بحجارة صلبة مثبته على جذع نخلة، وفي دهاليزه تلوح في الأفق الروزنة فيخترقها المجمر وهو ينفث أنواع البخور وأطيبها رائحة، وفي الشرفة العلوية يقبع الشت معلقا وكأنه طائر حطّ من بعد طول مسير لا يريد أن يبرح مكانه، يطلُ علينا الوالد مسعود وتُطل ابتسامته المرهفة مصحوبة برقة انسان ذاك الزمان الذي لازم البساطة ولازمته ليعيش لحظاتها بما تحمله من عطف وتواد، يحرصُ الوالد مسعود على طرق أبواب الواجب التي تُحتم عليه أن يلبس ثوبها وتتلبسه كما تتلبس الجنية المُبتلى، ما أروعها من قيمة عندما يبتلى المرء ببلاء العطف وزرع أواصر المحبة والتسامح، يحرص الوالد مسعود على مواصلة القريب والبعيد، لا يفوت زيارة أهله ولا حتى معارفه الذين يذكرونه بطفولته التي قضاها متنقلاً بين العامرات وبوشر، ففي ترحاله بين بيوت الطين وقناطر أفلاجها تخترق ضواحيها قضى الوالد مسعود جل أوقاته يزرع روابط الألفة ووشائج الود بين أقرانه، كان كل صباح عندما يصحو باكرا يضعُ تحت ابطه حبل الطلوع "الصوع" وفي يده الأخرى يعلق القفير وبداخله المجز والمشرط، مواصلاً السير إلى حيثُ تقوده الأقدار وترمي به في إحدى مزارع الطنا، يهفو بفرح إلى مزارعها وفي صحن بيتنا القديم يتسامر الحديث مع والدي والعم عبدالله وعندما يفرغ من الأحاديث الجميلة كعادته يتوجه إلى بيت المرحومين علي وسعيد أبناء يوسف الجابري رحمة الله عليهما، يسألهما عن القيظ الذي كان مصدر رزقه ورزق من سكن قرية قلهات وما جاورها من قُرى، كان حديثهم محصورا إما بين أحوال الناس والسؤال عن صحتهم وشؤونهم العائلية أو بين الزراعة وحصيلة ما يجنوه من رطبات، ما أن يولي إلى جلبة المسجد تلك المزرعة الصغيرة المتاخمة لمنزلنا القديم، كنا نرقب مشاهدها من نافذة المجلس وهناك كنت أرى أول اطلالة للوالد مسعود عندما يدخل المناداة ويشارك الدلال أثناء طني النخيل وابتسامته لا تكاد تفارق محياه، شيء من الفرح يسكن الوالد مسعود عندما يفرغ من انتقاء نصيبه من النخيل بعد دخول معترك المناداة فيظفر بواحدة أو اثنتين فتنتشي روحه متعلقة بهما كما يتعلق الخيال بجياده الصافنات، فيبدأ الوالد مسعود يربط الصوع صاعدا رويدا رويدا فيصدر صوتا وكأنه دوي أثناء ارتطامه بجذع النخلة، يترك نغمة تطربه وتشعره بقيمة النخلة وهو يمتطيها، ما أن يفرغ منها حتى يهم بالنزول، فقد وكزته طعنات "السلاء" فتبقى عالقة في جسده ويبقى يبحثُ بين كومة القش عن بضع رطبات قد استوت في أولى بشائر القيظ، فيستمر في عملية البحث بين الشماريخ وفي جبينه يرتسم العرق فيتصبب وكأنه فلج العوينة ينساب على ساقية الشم، فيتهادى الخشاش خيلاء في تبختر بوزنه الخفيف من الأعلى ويتساقط على ازاره الأبيض، وبين أنياب التعب وقبل زوال الشمس من كبد السماء في كل يومٍ من أيام الوالد "مسعود" كانت أم ناصر زوجته المخلصة ظله في كل مكان وزمان، فيتوشح أبناؤه الأجلاء تلك الذكريات في سنين والدهم مدونين رحلة كفاح وعطاء في بيتهم الصغير بسيح الظاهر، ويبدأ بسرد تخوم ماضيه وتفاصيل رحلاته اليومية في ذاكرتهم ليعش جيلنا رحلة أخرى لانسان ليس من زماننا.
وفي أوقاته الباكرة كل نهار قضى الوالد مسعود جزء من سنوات عمره بين عامي (1972_ 1974) يعمل في مطار السيب سابقا (مطار مسقط) بمسماه الجديد، فكان زاده الإخلاص والعطاء والصبر، فبضع نقود تكفيه وعائلته الصغيرة، فاستمرت رحلة البحث عن فرصة سانحة أخرى للوالد مسعود في عمل يتوافق وطموحاته البسيطة آنذاك، فعمل فترة طويلة من الزمن بين أعوام (1974_ 2003) في احدى شركات (البيديو أو) النفطية، يهيم كل نهار تاركاً وراءه والدته تكيل له الدعوات مذ خروجه محفوفاً بعناية الرب إلى حين عودته لتستقبله وكما يُستقبل الرحالة بشوق بعد أن مخروا عباب البحار شهورا وشهورا، كان الوالد "مسعود" من الذين حنكتهم الحياة وصقلت مواهبهم التجارب، كنت ولا زلت أراه كل صباح عندما أتجه إلى عملي يمارس طقوسه اليومية وبيده اليمنى أخذ من عصاه متكأ يهش به على دروب الأرض، فقد أكمل عقده السادس وهو بذات الهمة والنشاط، فالوالد "مسعود" واحداً من الذين لا يبرحون مكانهم مكفهري الوجه مولياً ظهره للحياة تعبث به كيفما شاءت، فهو من القلة القلائل الذين يركلون الدعة خلف ظهورهم كلما أجدبت أرض الحياة أو أقفرت بلا عمران، لا زال يطبع على من يلقاه ابتسامته الحانية برغم السنين المتسارعة التي بدأت تظهر على ملامح وجهه، فقد كرسّ الوالد "مسعود" حياته مقداماً للخير مطواعاً للعمل مهما كانت الظروف ومهما ناءت به المسافات، الا أن الأقدار لها كلمتها كعادتها مع هؤلاء النبلاء الذين لم يستسلموا لضنك الحياة وصعوبتها، بل واجهوها كما يواجهوا رياح النسيم الباردة المنعشة عندما تهب عليهم في فصل الصيف اللاهب فتزيدهم ثباتا وصلابة، لم يسلم الوالد "مسعود" من عصف الأقدار ذات يوم عندما تعرض لحادث سير أليم، فقد حدّ هذا الحادث من مسيرة الكِفاح لديه وأحنى ظهره فطفق يعض على شفتيه عندما تعود به الذكريات إلى تلك الأيام العصيبة، فالملمات لم ترد أن تهدأ قبل أن تطبق على الوالد "مسعود" كما أطبقت ذات يوم على جدي المرحوم "خلفان بن سعيد المعشري" رحمة الله عليه، فالقاسم المشترك بينهم ليست رحلة الكفاح فحسب، كلاهما كان يسمو بأخلاقه ويطبع شمائله على كل من يلقاه في ساعات يومه، لم يركن الوالد "مسعود" يوماً إلى وسادة الألم ليندب حظه، ولم يترك هذا الحادث أن ينال من همته وشغفه في مواصلة العمل، بل قاوم وثابر من أجل البقاء صلباً ثابتاً راسخا، فكلما شارف أن يستسلم للألم تذكر بأنه وحيد والدته من الذكور، وتذكر بأن والدته التي تبلغ من العمر عتيا بحاجة إلى من يهمس على أذنها كل صباح ومساء، عندما يتذكر الوالد مسعود تلك الأيام تفيض دموعه أنهارا أنهارا، فيخبئها مكبلة في سرائره حتى لا يريها لزوايا بيته الصغير، فبعض الأحزان تُترك حبيسة لا ينبغي أن تخرج من أدارجها كما خبأ فراس زهرة الباتشولي اليانعة في قنينة فارغة حتى من نسمة هواء عابرة، تذكر أبناءه وبناته وهم/ وهن/ على مقاعد الدراسة، تذكرهم يرسمون أمله المشرق، يصورون حياته الأخرى حتى لا تخفي خلف وحشة السنين، فكيف لنا أن ننكر تلك التضحيات عندما نحبر رأس القلم، لماذا لا ننكس أقلامنا خجلاً من هكذا عطاءات عندما نعصف بأفكارنا على مهاوي القنوط، ينحدر الوالد مسعود من سيح الظاهر إلى قرى بلدة بوشر كيفما شاءت قدماه، يهيم في أرضها بين أزقتها وسكيكها، يمرُ أمام مقصورة السيادي فيرحب بالوالد مسعود بن هاشل الحبسي فهو كذلك عاش نفس حياته في رحلة أخرى تستحق أن تسطر على رخام من ذهب.. يخترق طريقها الترابي المحاذي إلى السكة الصغيرة، يرمقُ عابية المرحوم "عبدالله بن سليمان الجابري"، يشاهد القرع والفجل والخيار والطماطم، وينثر رحلة الكدح على سواقيها، يعبثُ بالساقية ويحني ظهره باتجاه الصوار ليدفع جريان الفلج إلى العابية، ويجثو لمشاهدة تشكيلة المياه المنسابة في رحلة تأمل وتفكر في قدرة الخالق جل في علاه إلى أن يحين موعد حضور ضوء الغروب يستعد الوالد "مسعود" لأداء صلاة المغرب بعد أن يصدح صوت الحق منادياً "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. وبعد أن يفرغ من الصلاة أجده يتسامر الحديث مع شياب الحيّ في صحن المسجد ودلة القهوة تحفها أفئدتهم الطاهرة، فما أروع مذاق القهوة التي أعدتها أمهاتنا فتلك الأنامل وحدها من تستطيع أن تعدل مزاج الوالد مسعود ومن يسامرونه جلساته، ما أجملها من لحظات عندما تشاهدهم يرتشفون القهوة وحبيبات التمر تداعبها أصابعهم النقية كنقاء قلوبهم الصادقة، لم تكن أياديهم ناعمة ملساء، ولم يكونوا من الذين يدسون اللوشن والمرطب بين أصابعهم ليخترقها ويتوغل بين مساماتها لتنعم وترق كأياد حسناوات الموضة، فطفقتُ أتجول بذاكرتي إلى تلك اللحظة التي كنا نجلس فيها في ذات الصحن، قمت أختلس النظر إلى الوالد "مسعود"، كان لا يفوت لحظة من لحظات التجمع كهذه، ففي شهر رمضان شهر التوبة والغفران أجده حاضراً، كان ملازماً زاوية "سدرة القرطى" وهي تتوسط وادييّ "العوينة وقني" رغم أن مائدة الافطار كانت بسيطة ببساطة تلك الأيام فهي لا تحوي إلا على بضع تمرات وقليل من اللقيمات، لكنني كنتُ أستقرئ فيه الصمت الدائم عندما يتحسس فنجان القهوة، كنتُ أرى على وجهه السكون والهدوء عند شمه رائحة القهوة فتحسسه بالخدر يسري في عروقه مرات، فيحتسيها مستمتعاً بمذاقها إلى أن لاح له فجأة أحد المارين وأحسبه من الجنسية الآسيوية المسلمة، أخذ منه الوقت وهو يستحم في الفلج فتأخر عن موعد الفطور، فتوقف الوالد "مسعود" عن مواصلة احتساء القهوة وجفل قليلاً قبل أن يصرخ عليه بطريقته المعتادة التي تبعث الطمأنينة في النفس.. قالها: كلمة فيما البقية منهمكون في اختيار الأكلات التي تطفئ ضمأ ساعات الصيام الطوال في صيفٍ حار، وبلغته التي تعلمها عند زيارته ذات سفر إلى جمهورية الهند.. باييه بياه كاناه.. أي شاركنا الطعام، كنت ألمح وأرقب المشهد، كنت أسترق السمع لشجو صوته المدندن كرائعة نزاريات قارئة الفنجان بصوت العندليب الأسمر.. فما كان من صبية الحيّ إلا أن أخذوا يقهقهون وبعضهم بدأ يعلق مستمتعاً بطريقة الوالد "مسعود" في التعبير بأسلوبه المرح في الحديث، فما كان من الآسيوي إلا أن يأخذ مكاناً بجواره فرحاً بلطافته ولين جانبه، لم يكن الوالد "مسعود" واعضاً أو خطيباً، ولم يكن من الذين يجيدون صعود المنابر، لم يكن الوالد مسعود أديباً ولا حتى عرافاً أو كاهناً يسترزق مما يكتب أو يأخذ الروبيات من لبستهم الجنيات، لم يقرأ عن الفلسفة ولا المنطق ولم يعرف يوماً عن أيدلوجيات العصر إلا خوض غمارها بعفوية، بكل كان يمسك المصحف الشريف وكتاب تلقين الصبيان للعلامة السالمي، يتفحصه على زاوية من زاويا مسجد قلهات رغم أنه لا يجيد القراءة والكتابة، لكنه آمن بأن للمساجد آدابها فآثر أن يقبع هناك حيثُ لا توجد مزهريات ولا زخارف المدائن ولا المجسمات الموشحة بالورود الصفراء كالتي شاهدتها ذات زمن في مسجد "يحيى كوستين"، بل كان يعبث بأنامله الطاهرة العفيفة بريش الطاؤوس بعد تقليبه كل صفحة من صفحات المصحف الشريف.
وفي عام (2003) ودع الوالد مسعود الرفاق في عمله الذي لازمه زهاء الثمان وعشرين عاما، فتلك اللحظة لم تكن سهلة للوالد مسعود كما يتصور البعض، فلحظات الوداع كانت تعني لديه بأنه لا يمكنه أن يرى إخوانه من العمل بعد عشرة السنين وعبث الأيام، لم يعد ينتظر سيارة سائق الشركة عند باب بيته كما كان يفعل، ولم يعد يتمكن من مسامرة زملاء العمل أثناء المسير من البيت إلى مقر العمل، كانت كما قالها الوالد مسعود لحظات عصيبة جدا.. ما أصعب الفراق.. ما أصعب الفراق، وعندما طوينا هذه الصفحة تنقلنا إلى أروع الأوقات الروحانية التي شهدها الوالد مسعود في حياته.. لا زالت تلك الأوقات عالقة في شلابيب مخيلته ولا زالت تطرق باب الماضي في سنوات حياته، فغمغم هنيئة متحدثا شهقة بالكاد تظهر في وجهه.. قلتها في حين صمت.. كلما توغلت في وحدتك في هسيس الصمت أخذك الحنين إلى أصوات أصدقائك وهم ينشدون كالبلابل "البرزنجي" في مولد النبي محمد صل الله عليه وسلم، كان يستمتع بتلك العبارات السجعية لمدح المصطفى وكلما قال القاريء جملة يردد الحاضرون في الحلقة جلوسا يرددوا بعده يقولوا صلى الله عليه، فتسقط في شباك الفقد والشوق إلى صوت الوالد سيف بن محمد الحسني وصوت الوالد عياد البوسعيدي وهم يدندنون روائع الأشجان وكأن سباستيان باخ فز من مرقده ليعزف على وقعها أروع المقطوعات.. فتلاشت تلك الأيام كما تلاشت طقوسها حلوها ومرها.
لكن السؤال الذي يطرحه الوالد مسعود ومن في عمره الذين لا يعرفون عن السيارات إلا ركوبها.. أين شجرة الرولة التي كانت تظلهم ذات زمن.. أين ساحات لقياهم التي اجتثت من الطامعين في الأرض فلم تعد تدثرهم كما كانت.. ولم يعودوا ينعموا بلقاءاتهم الهانئة فلاذ كل منهم بين الجدران تكبلهم رحى الأيام.. يسرون على وقع الأيام حكاويهم لمن يود سماعها ولو خلسة.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام