سدرة الجن ببلدة بوشر

كتب
يحيى المعشري
ysk24@hotmail.com
 
في هذه الهمسات أعزائي أقدم لكم بعض من حكاوى الأمس حدثت لأحدهم ذات يوم ومنذ تلك الفترة إلى يومنا هذا لم يروي تفاصيلها لأحد ومع الحاحي له في حديث عابر دانت لي بعضاً منها ليرويها لي مشفرة بدون ذكر الشخصيات التي عايشت الحكاية، وبالتالي أسردها لكم علها تلامس ذائقتكم.. فما يذكر ليس نسيج خيال ولا حتى أوهام أو أسطورة من أساطير الخيال التي تبرز فيها قوى الطبيعة أو كائنات خارقة للعادة كما يحدث في التّراث الشعبي لمختلف الشعوب.. فهذه حقائق ووقائع حدثت في البلدة التي أقطن بها ولنا معها الكثير والكثير.
 
تق تق تق ثلاث طرقات لمنزل "راشد" لم تكن الأولى التي يطرقها "م ع" لبيت "راشد" فقد كان دائم التردد عليه في كثير من الأحيان، كان يتردد معه ليس لأنه جار تربطه بجاره علاقة الجيرة فحسب.. لم يكن ما يربطهم مجرد رابط من أجل قضاء نزهة تأمل بين حجارة وادي العوينة أو لقاءات عابرة تجمعهم عند "حاكة الجدالا" كهف الخفافيش أسفل القليعي من أجل صيد الطرائد والتي وغالباً ما يكون الحصيني في مقدمتها-
هتف "راشد" قائلاً لـ"م ع" جرت العادة فيما بيننا قدومك في أوقات معروفة.. قالها بدهشة.
 
ولا عزاء عند العرب أن يسأل أحدهم الضيف في حال قدومه وإن كان من معارفه الذين تربطهم علاقة وطيدة منذ الأزل.. تحدث "م ع" عاقداً كفيه خلف ظهره ويضع في صرة إزاره المجز الذي اعتاد أن يأخذه معه في مشاويره اليومية.. أريدك أن تصحبني في مهمة خاصة هذا اليوم.. غمغم "راشد" في استغراب قائلاً تفضل.. قالها "راشد" وحالة من الذهول بدت تُحلق في شرابيب أفكاره.. لم يعتد أن يقبل عليه "م ع" في مثل هذا الوقت ولم يرغب أن يصده أو يجفل عنه وهو الصديق الذي اعتاد أن يلازمه في هذا الحياة.. أريدك أن تخرج معي حالاً.. !
قالها ونبرة الاندهاش تعلو محياه.. أريدك أن ترافقني إلى "سدرة السيح" هذه السدرة معروفة عند الأهالي بأنها سدرة الجن.. لا يبرحها أحدهم إلا في أوقات الظهيرة والناس في قيلولة أو وقيت البيات ليلاً- لينذروا بغية الحصول على مبتغياتهم.. بدا صوت "م ع" بارداً كالثلج وهو يخبر "راشد"..
قائلا: جارنا "حميد" تزوج حميدة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ولم يرزقه الله بأولاد يحملون اسمه ويكونون عونا له في نوائب الحياة، ولأنني على دراية بقليل من علوم الرياض فقد أتاني النبأ بأن نذهب إلى تلك السدرة وقيت البيات والناس يغطون في نومٍ عميق بعد عناء يومٍ شاق قضوه بين أنياب العمل المجهد في المقاصير.. وعلى "حميد" أن يصطحب زوجته حميدة معه.
 
تفجر القلق في وجه "راشد" قبل أن يبدأوا أولى خطوات الذهاب، وبينما هم ذاهبون لوّح "حميد" إلى العابية "المزرعة" القريبة من "بني عمران" والتي يحتفظ فيها بالجدي الذي عقد على ذبحه ليكون قرباناً يقدمه لأحد مشايخ الجن كما زعم "م ع".
 
فأخذ يهتف "راشد" هيا نتحرك بسرعة فما عاد عندنا متسع من الوقت.. بضع دقائق نحتاج للوصول، كانوا قد تحركوا من مقر اللقيا مروراً بقلهات قاطعين الطرق الضيقة بين المزارع لتحول بينهم وبين أن يكشف أحدهم خطتهم وهم يمخرون الدروب في مهمة تبدو غير مألوفة في هذا الوقت، وعند وصولهم إلى "أرض العين" بدت السكة المحاذية ل"بيت المقحم" أكثر وضوحاً.. ولأن "راشد" يعلم تمام العلم بأن "م ع" كثير الضحك وصاحب مقالب عُرف بها بين أوساط الناس في بلدة بوشر، لم يعر الأمر أهمية قبل أن يرَ "الجدي" وحميد وزوجته حميدة التي تركب على ظهر حصان أبلج.. كانت تركب الحصان وروائح الطيب تفوح من جسدها.. رائحة الورس والآس والصندل تتطاير مع نسائم الهواء العليلة في هذا المساء القائظ.
 
ارتجف جسد "راشد" وحوقل في ذهول.. يا الهي.. يا الهي.. كلمة تتردد من راشد في غرابه.. بدأ الأمر ليس مزحة وبدأت تنكشف حقيقته لديه وأن عليه أن يرضخ للواقع ويسلم أمره لله فيما يراه.. ساوره القلق وهم يقطعون المقبرة خلف بيت المقحم.. هذه الطريق نفس الطريق التي كُنت أسلكها وأنا صغير عندما كُنت أرافق عمتي "أسماء" في طريقها إلى "قرية غلا" ذات يوم.
 
توجهوا وبيوت المقابر تلتف حواليهم، كان الطريق ملتوي على شكل ثعبان يوصل من أراد قطع المقبرة إلى نهايتها عند أول مطلاع "معبر" لقرية غلا.. يمكنك وأنت في هذا المطلاع أن تشاهد أحياء سيبا وأرض العين وإفلج والعوراء إلى أن تظهر لك من بعيد شرجة رمداء.. وعلى مقربة من الوصول إلى "غلا" هناك تتوسد السدرة الواد ومن هناك تبدأ تفاصيل الحكاية ومن هناك تبدأ أولى خيوط الرواية.. همّ "حميد" بإنزال الجدي لذبحه تحت "السدرة" وهمت "زوجته" تركل الحصان بكلتا قدميها كما أوصاها زوجها "حميد" أن تفعل.. إلى أن تمت مهمة الذبح وتمت وصية "شيخ الجن" فتحرك الحصان ومادت به الأرض.. كُل ذلك ولا زال "راشد" يعيش حالة من الذهول لازالت عالقة في ذهنه.. ومع عودتهم من أداء مهمتهم إلى منازلهم قبل أن تختفي خيوط الليل ويبدأ النهار يشق طريق الشروق على ضواحي قرى الولاية.. توجه كل منهم إلى منزله وقد قضوا مهمتهم التي أرادها "م ع".. كان قد أسرهم بأن يخفوا الأمر إلى أن تقوم القيامة ولا يذكروه لأحد ما.. وتم ذلك وتمت إرادة الخالق بأن يرزق "حميد" وزوجته "حميدة" بولد وابنتان وهما على قيد الحياة ليومنا هذا.. فقد تزوجوا ورزق "حميد" بأحفاد.. لكن الحكاية لازالت غامضة في تخوم الماضي.. حكاية لم ينبشها الزمن لتعود حكاية من حكايات الزمان يرويها لنا الأجداد.. ويبق العقل وحده من تكون له كلمة الفصل بين الحقيقة والأوهام.




25 يوليو 2016م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر